بداية موسم السياسة في الجزائر
ويصر أصحاب المبادرات السياسية، سواء كانوا أحزابا أو شخصيات، والتي تروم في ظاهرها إرساء جو تسوده الرؤية الواضحة لمستقبل البلاد تحت عناوين عدة كالإجماع أو التوافق أو الجدار الوطني، على تبني مقاربة "الأزمة السياسية" التي تعرفها البلاد و"الخلل الهيكلي" الذي يشهده النظام السياسي؛ ولو أنهم يلمحون إلى ذلك في تصريحاتهم دون تضمينها بهذه الإشارات.
في الضفة الثانية، ترتطم هذه المبادرات بقراءة السلطة لها على أساس أنها لا تعدو أن تكون مجرد محاولة لأصحابها لتحقيق المكاسب مسبقا قبل حلول موعد الانتخابات، وإطلاق حملة انتخابية قبل الأوان والتموقع السياسي قبيل الاستحقاقات الانتخابية الهامة، خصوصا الرئاسيات، عبر تحريك الساحة السياسية والقاعدة الشعبية بإثارة قضايا ترى هذه الجهات أنها تمثل خللا في منظومة الحكم بطريقة أو بأخرى؛ حيث شهدت الفترة التي سبقت ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة ترويجا لمسألة مرضه من قبل الأحزاب والشخصيات المعارضة، ومع بداية العهدة الرابعة إلى غاية اليوم يبدو أن هذا المبرر بدأ يفقد بريقه ولا يغري كثيرا القاعدة الجماهيرية، خصوصا مع الأحداث التي تعرفها المنطقة وما شهدته بلدان الربيع العربي من أزمات وكوارث كان منطلقها مطالب تغيير الأنظمة، فاستبدل خصوم السلطة هذا الخطاب بآخر قديم متجدد يقوم على اللجوء إلى المؤسسة العسكرية بغية إقحامها في إيجاد الحل، لا لشيء سوى لأنها في منظورهم كانت الجزء الأبرز والأكبر من الأزمة؛ فمن البديهي ألا يكون هناك مخرج للأزمة السياسية إلا بوجود المؤسسة العسكرية على طاولة الحل كطرف أساسي.
كما أن السلطة وهي تتلقى هذه المبادرات الصادرة عن الضفة الأخرى تؤكد في ردودها على أمرين أساسيين بالنسبة لها، الأول يتعلق بقراءتها لهذه المبادرات من حيث الشكل، فترى أنها تصدر من خلفية تصر على وجود أزمة سياسية في البلاد، وهذا ما يتعارض مع مواقف السلطة ونظرتها لبنية النظام السياسي والتي تعتبرها في حالة صحية جيدة لا غبار عليها، ويرتبط الأمر الثاني بالقراءة المضامينية لمبادرات المعارضة، إذ ترى السلطة فيها محاولة لافتكاك مرحلة سياسية انتقالية عبر الدعوة إلى حوار سياسي بين السلطة والمعارضة الهدف منه تعديل العملية السياسية سواء من خلال المطالبة بالمرور لجمهورية ثانية بداية بانتخابات تأسيسية، أو - كحد أدنى - من خلال المناداة بضرورة تحييد الإدارة من مهمة الإشراف على الانتخابات وأن تعهد السلطة بها لهيئة مستقلة تشرف على إدارتها.
ولعل تصريح مقري التصالحي خفّض من اللهجة الحادة ومن سقف المطالب التي كانت تطبع تصريحاته السابقة، متفاديا هذه المرة الاصطدام مع المؤسسة العسكرية من خلال تأكيده على عدم شخصنة الموضوع، لكن يبدو أن مسعاه هذا فشل إلى حد كبير على الأقل في المعسكر المناوئ لحركته تقليديا، غير أن المعني بالكلام وهو قائد الأركان الفريق قايد صالح لم يرد على تصريحات مقري إلى حد الساعة، ربما لأنه ينتظر الفرصة السانحة لذلك حتى يكون رده أكثر عمومية كسابقه فلا يكون كلامه عبارة عن رد على تصريح سياسي عابر، بل تأكيد لموقف مؤسسته العسكرية، وهو من يمثلها أكثر من غيره، اللهم إلا رئيس الجمهورية بصفته وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، على حياد المؤسسة العسكرية والتزامها بمبدأ عدم الخوض في الشؤون السياسية للبلاد، لكن على كل الأحوال، فإن رده المرتقب من المؤكد ألا يختلف في خطه العريض عما تحدث به في أكثر من مناسبة عن ضرورة إبقاء المؤسسة العسكرية في منأى عن التجاذبات السياسية وأن وظيفتها معروفة ومحددة دستوريا.
من جانب آخر، فإننا نجد أن كل المبادرات السياسية التصالحية التي أطلقتها المعارضة قد كان مآلها الفشل، وربما يعود ذلك أساسا إلى الخلفية المرضية النفسية المزمنة لدى كل طرف سياسي لجعل مبادرته ماركة مسجلة تدر عليه المكاسب السياسية إلى أجل غير مسمى، وهو ما يؤدي إلى نفور بقية الأطراف وإحجامها عن دعم مبادرة ذلك الطرف، الأمر الذي يجعل الساحة السياسية تعج بالمبادرات وتشهد انتشارا وفوضى للفتاوى السياسية. في المقابل تبقى مبادرات السلطة تعرف زخما سياسيا وإعلاميا منقطع النظير، وهو ما يمثل الوجه الثاني لفشل المعارضة التي سرعان ما تهرع مهرولة إلى تلك المبادرات سواء كانت مشاورات سياسية أو إصلاحات قانونية ودستورية.