28 مارس 2021
بشار الكيماوي وقمقم اليسار
في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية، صرّح نيرون سورية الثكلى بأنّ الأطفال الذين قضوا نحبهم في فاجعة استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون هم "بالفعل أطفال ممثلون يتظاهرون بأنهم موتى"، وذلك في سياق مجادلته بأنّ "كل ما حدث هو من اختلاق الغرب لأجل تبرير قصف قاعدة طيران النظام السوري في الشريعات". وهذا خطابٌ متوقع من طاغيةٍ لا يرى في أبناء شعبه سوى حفنةٍ من الأغيار الذين لا مقام لهم في وطنهم إلا عبيداً وأقناناً من دون أصفاد ظاهرة. وهو، في الوقت نفسه، خطاب مثير للحسرة على ما آل إليه خطاب اليسار، على المستويين، العربي والعالمي، في توصيفه الكارثة السورية عموماً، ومجزرة خان شيخون الكيميائية خصوصاً؛ معبراً عن نفسه عبر الصحف ووسائل الإعلام المحسوبة على ذلك التيار، سواء من خلال ما يقوله ويكتبه المشاركون فيها ضمن سياق ترديدهم الببغائي التبريري قول الطاغية السوري جهاراً أو مواربةً. وقد يكون توصيف الصحافي الطليعي، آلان نيرن، الخارج عن السرب الأكثر دقةً في اختزال أزمة المقاربة اليسارية الغربية، حين قال "من غير المنطقي الدخول في مماحكات ومساجلات بشأن من الذي أباد الأطفال والمدنيين في خان شيخون، وتضييع مسألة الإبادة الجماعية في سورية بتلك السجالات التقنية، فالإبادة الجماعية حاصلة يومياً في سورية بالبراميل المتفجرة، والدبابات، والمدفعية الثقيلة، والتعذيب في سجون النظام؛ وكلها وسائل للإبادة الجماعية لا تختلف عن الأسلحة الكيميائية، إلا بشكل الأداة المستخدمة في عملية الإبادة، من دون أن تختلف في نتائجها عن الأدوات الأخرى شيئاً".
قلما تجد نظيرا لنسق هذا التحليل الثاقب في المنافذ الإعلامية المحسوبة على اليسار في الغرب،
والتي حشرت أفق تحليلها ونقاشها الكارثة السورية في إطار "تحديد المسؤول عن مجزرة خان شيخون: هل هو النظام السوري فعلاً أم جهة أخرى"، بالتوازي مع أسئلة مرتبطة بمدى "قانونية استخدام الولايات المتحدة صواريخها لقصف قاعدة الشعيرات، وهل هو مخالفة للقانون الدولي". وعلى المستوى العربي عموماً، والسوري خصوصاً، فإنّ هناك عسر هضم مزمناً لدى التيارات السياسية والفكرية المنخرطة ضمن مظلة طيف اليسار، سواء من ذلك الماركسي بشكله السوفييتي اللينيني، أو الإثني الأقلّوي المتلبس بلبوس ماركسي ستاليني على شاكلة حزب العمال الكردستاني وإصداراته المتعدّدة، أو حتى ذلك القومي، بشقيه الناصري والبعثي المعارض بطبعاتهما المختلفة، لحقيقة إيغال النظام السوري في تزييف صورته في ذهنية أولئك الأخيرين، ممانعاً مناهضاً المشروع الصهيوني، وعلمانياً مقاوماً التطرّف الديني.
وقد يستقيم توصيف المفكر الطليعي، جون سميث، في كتابه الجديد "الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين" ذلك الموشور اليساري، المشروخ بنيوياً عندما يتعلق الموضوع بتحليل الأزمة السورية، انطلاقاً من ثوابت تاريخية مضمرة غير معلنة، متعلقة "برياء كل التيارات اليسارية الغربية" عندما يتعلق الموضوع بأحقية المظلومين في العالم الثالث بالحصول على الحقوق نفسها التي ترى الطبقة العاملة في الغرب أنها من مسلمات حقوقها في المجتمعات المتحضرة، أو حتى من "حقوق الإنسان البديهية" التي أسست لمبادئها الثورة الفرنسية في العالم الغربي؛ من دون أن ننسى أن مبادئ الثورة الأخيرة نفسها هي التي جلبت قائد موجتها الثانية نابليون بونابرت ليحتل أرض مصر، وقادت الفرنسيين أنفسهم إلى إبادة جماعية في الجزائر وبلاد الشام لم تثر مفارقة في وعي اليسار الغربي، بشكل فعلي ملموس، كما تشي مراجعة المؤرخ الموسوعي، جون ماك هوغو، في كتابه "تاريخ مقتضب عن العرب"، ومراجعته لسياسات الاستعمار الغربي في سورية في مطلع القرن العشرين ضمن كتابه الجديد "سورية.. تاريخ معاصر".
وعلى المستوى الداخلي، سورياً وعربياً، لا يستطيع المراقب المتفحص إلا تلمس حالة انفصال شاخص يفقأ العين بين مقولات كل أطياف اليسار العربي وأفعاله، بأشكالها الماركسية والقومية والإثنية الأقلّوية، ومطالب الجماهير العربية في سياق ربيعها الموءود بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما تجلى، بشكل عياني مشخص، في انتظام رهط كبير من لفيف جسم المعارضة الوطنية قبل الثورة السورية في نسق المعارضة البلاغية التنظيرية للنظام، ظاهرياً خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية، والالتحام به عضوياً فيما تلاها من أطوار دموية، والتخلي عن واجبها الحقيقي في توجيه الدفة السياسية للمجتمعات الثائرة، والتي لم يكن لدى كوادرها أي خبرة تنظيمية سياسية في ضوء واقع التصحّر السياسي في سورية، منذ استيلاء البعثيين على سدة الحكم في سورية في 1963، وتركها فريسة لأولئك الخبثاء من ربيبي النظام السوري، وأجهزة مخابراته، وآليات فساده وإفساده الشاملة عمقاً وسطحاً في كل تفاصيل المجتمع السوري، للتصدّر في قيادة الجبهة السياسية للمعارضة السورية بالشكل نفسه الذي تجتاح فيه الجراثيم الخبيثة الجسم المضعف الموهن، عندما تفنى الجراثيم الطبيعية التي تتعايش معه وتدافع عنه ضد تلك الأخيرة، عندما يحل السقم العضال فيه. وهو سلوك نكوصي، يشي بأن كل تلك التشكيلات اليسارية لم تكن ترى في النظام القمعي السوري سوى سبب
لوجودها، وأنّ استبداله بنظام آخر ديمقراطي تعدّدي، قد يؤدي بها إلى الاندثار في ضوء معرفتها الحقيقية بضآلة عديد قواعدها التي كان معظمها من الشخصيات الهرمة التي تكونت تاريخياً من دون أن توازيها على مستوى تكوينها الهرمي قواعد حركية فعلية، قادرة على توسيع امتدادها، حينما كانت الفرصة سانحةً لذلك، إبّان الأشهر الأولى من الثورة السورية، فكان الخيار الذرائعي الأكثر سلامةً في ظنها هو الحفاظ على نوعها السياسي، وربط بقائها ببقاء النظام السوري نفسه، وترك عيون الشعب السوري المظلوم لتقاوم المخرز وحدها.
ومن الناحية البنيوية، هناك عطب ذاتي عميق في أُسّ تكوينات طيف اليسار العربي، يتعلق عضوياً بمفهومها الفكري والعقائدي لمبدأي الديمقراطية والحرية، إذ ظلت أدبياتهم تجاهد لتأطير مفهوم الحرية بأنه تحرّر من الاستعمار استقلالاً، ومناهضة (خطابية) للمشروع الصهيوني، واستعارة مكنية لأدلجة النظام السوري وشركاه من الممانعين والمقاومين الخلبيين في تبرير إفناء الكينونة السورية وطناً وشعباً، من دون مقاربة إلا سطحيةً من "باب رفع العتب" عن حرية الإنسان في وطنه من القهر والاستغلال والاستعباد.
كما ظلت مكونات اليسار العربي الهجينة أسيرة عسر نضجها التاريخي الطبيعي الذي يفصح عن نفسه بأن كل عقائدها، بمختلف أشكالها الاشتراكية الشعبوية، أو الماركسية اللينينية، أو القومية العرقية، لم تنم طبيعياً في البيئة الاجتماعية العربية، وإنّما تم استجلابها في مطلع القرن العشرين من منابعها الأوروبية الاشتراكية والفاشية، وتمّ توطينها على عجل بشكل إرادوي قسري قافز فوق شروط التاريخ، فولدت بتكوينات عقائدية عمادها "الهجانة والقصور"، حسب توصيف شيخ المفكرين السوريين، طيب تيزيني، فأصبح القائد الرمز والطليعة الثورية التي تقود الجماهير الكادحة والدولة والمجتمع كيانات تخيلية في واقع هي فيه مافيات حاكمة، ونظم عسكرية أمنية، يرأسها زعيم مخوّل بإدارة شؤون الفساد والإفساد في مجتمعه، وهو ما أدى إلى علاقة حساسية مزمنة بين كل أطياف اليسار العربي المنتظم حزبياً ومبدأ الديمقراطية فكرة ونهجاً سياسياً، ما انعكس في تأبيد قياداتها المترهلة التي ظلت تحاول إخفاء شغفها بأمثولة "الرئيس للأبد"، والتي طالما لم يجد طاغية سورية الممانع ضيراً في إعلانها.
وإلى حين تأصيل فكرتي الديمقراطية والحرية بشكلها الذي يحترم حق الإنسان في الانعتاق من القهر والاستبداد في وطنه، والتعبير عن أحلامه و طموحاته، وتحقيق ذاته من دون قيود مختلقة، بحجة المقاومة الممانعة وتحقيق إرادة الطليعة الثورية، سوف يبقى اليساران، السوري والعربي، أسيري قمقم سرمدي سيد أمره هو بشار الكيماوي، إلى أن يغير أصحاب ذلك الفكر ما بأنفسهم قبل أن يقودهم قطار الفاجعة السورية إلى مزبلة التاريخ.
قلما تجد نظيرا لنسق هذا التحليل الثاقب في المنافذ الإعلامية المحسوبة على اليسار في الغرب،
وقد يستقيم توصيف المفكر الطليعي، جون سميث، في كتابه الجديد "الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين" ذلك الموشور اليساري، المشروخ بنيوياً عندما يتعلق الموضوع بتحليل الأزمة السورية، انطلاقاً من ثوابت تاريخية مضمرة غير معلنة، متعلقة "برياء كل التيارات اليسارية الغربية" عندما يتعلق الموضوع بأحقية المظلومين في العالم الثالث بالحصول على الحقوق نفسها التي ترى الطبقة العاملة في الغرب أنها من مسلمات حقوقها في المجتمعات المتحضرة، أو حتى من "حقوق الإنسان البديهية" التي أسست لمبادئها الثورة الفرنسية في العالم الغربي؛ من دون أن ننسى أن مبادئ الثورة الأخيرة نفسها هي التي جلبت قائد موجتها الثانية نابليون بونابرت ليحتل أرض مصر، وقادت الفرنسيين أنفسهم إلى إبادة جماعية في الجزائر وبلاد الشام لم تثر مفارقة في وعي اليسار الغربي، بشكل فعلي ملموس، كما تشي مراجعة المؤرخ الموسوعي، جون ماك هوغو، في كتابه "تاريخ مقتضب عن العرب"، ومراجعته لسياسات الاستعمار الغربي في سورية في مطلع القرن العشرين ضمن كتابه الجديد "سورية.. تاريخ معاصر".
وعلى المستوى الداخلي، سورياً وعربياً، لا يستطيع المراقب المتفحص إلا تلمس حالة انفصال شاخص يفقأ العين بين مقولات كل أطياف اليسار العربي وأفعاله، بأشكالها الماركسية والقومية والإثنية الأقلّوية، ومطالب الجماهير العربية في سياق ربيعها الموءود بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما تجلى، بشكل عياني مشخص، في انتظام رهط كبير من لفيف جسم المعارضة الوطنية قبل الثورة السورية في نسق المعارضة البلاغية التنظيرية للنظام، ظاهرياً خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية، والالتحام به عضوياً فيما تلاها من أطوار دموية، والتخلي عن واجبها الحقيقي في توجيه الدفة السياسية للمجتمعات الثائرة، والتي لم يكن لدى كوادرها أي خبرة تنظيمية سياسية في ضوء واقع التصحّر السياسي في سورية، منذ استيلاء البعثيين على سدة الحكم في سورية في 1963، وتركها فريسة لأولئك الخبثاء من ربيبي النظام السوري، وأجهزة مخابراته، وآليات فساده وإفساده الشاملة عمقاً وسطحاً في كل تفاصيل المجتمع السوري، للتصدّر في قيادة الجبهة السياسية للمعارضة السورية بالشكل نفسه الذي تجتاح فيه الجراثيم الخبيثة الجسم المضعف الموهن، عندما تفنى الجراثيم الطبيعية التي تتعايش معه وتدافع عنه ضد تلك الأخيرة، عندما يحل السقم العضال فيه. وهو سلوك نكوصي، يشي بأن كل تلك التشكيلات اليسارية لم تكن ترى في النظام القمعي السوري سوى سبب
ومن الناحية البنيوية، هناك عطب ذاتي عميق في أُسّ تكوينات طيف اليسار العربي، يتعلق عضوياً بمفهومها الفكري والعقائدي لمبدأي الديمقراطية والحرية، إذ ظلت أدبياتهم تجاهد لتأطير مفهوم الحرية بأنه تحرّر من الاستعمار استقلالاً، ومناهضة (خطابية) للمشروع الصهيوني، واستعارة مكنية لأدلجة النظام السوري وشركاه من الممانعين والمقاومين الخلبيين في تبرير إفناء الكينونة السورية وطناً وشعباً، من دون مقاربة إلا سطحيةً من "باب رفع العتب" عن حرية الإنسان في وطنه من القهر والاستغلال والاستعباد.
كما ظلت مكونات اليسار العربي الهجينة أسيرة عسر نضجها التاريخي الطبيعي الذي يفصح عن نفسه بأن كل عقائدها، بمختلف أشكالها الاشتراكية الشعبوية، أو الماركسية اللينينية، أو القومية العرقية، لم تنم طبيعياً في البيئة الاجتماعية العربية، وإنّما تم استجلابها في مطلع القرن العشرين من منابعها الأوروبية الاشتراكية والفاشية، وتمّ توطينها على عجل بشكل إرادوي قسري قافز فوق شروط التاريخ، فولدت بتكوينات عقائدية عمادها "الهجانة والقصور"، حسب توصيف شيخ المفكرين السوريين، طيب تيزيني، فأصبح القائد الرمز والطليعة الثورية التي تقود الجماهير الكادحة والدولة والمجتمع كيانات تخيلية في واقع هي فيه مافيات حاكمة، ونظم عسكرية أمنية، يرأسها زعيم مخوّل بإدارة شؤون الفساد والإفساد في مجتمعه، وهو ما أدى إلى علاقة حساسية مزمنة بين كل أطياف اليسار العربي المنتظم حزبياً ومبدأ الديمقراطية فكرة ونهجاً سياسياً، ما انعكس في تأبيد قياداتها المترهلة التي ظلت تحاول إخفاء شغفها بأمثولة "الرئيس للأبد"، والتي طالما لم يجد طاغية سورية الممانع ضيراً في إعلانها.
وإلى حين تأصيل فكرتي الديمقراطية والحرية بشكلها الذي يحترم حق الإنسان في الانعتاق من القهر والاستبداد في وطنه، والتعبير عن أحلامه و طموحاته، وتحقيق ذاته من دون قيود مختلقة، بحجة المقاومة الممانعة وتحقيق إرادة الطليعة الثورية، سوف يبقى اليساران، السوري والعربي، أسيري قمقم سرمدي سيد أمره هو بشار الكيماوي، إلى أن يغير أصحاب ذلك الفكر ما بأنفسهم قبل أن يقودهم قطار الفاجعة السورية إلى مزبلة التاريخ.