كان مِصْراعا البابِ المغلقين يمنعان دخول الضجيج الصاخب من الخارج، ويزدريان كل اتصال، أو تسلل مزعج، بما فيه الصيف نفسه. كان الناس هناك في الخارج مزعزعين، تسيطر عليهم الفوضى، والكل يركض.
"أندخل؟" يدقون بإلحاح على المصراعين الخشبيين، بما يصدر دوياً مهدداً. - لا، لا تدخلوا.
مع ذلك، كان يسود، في الداخل، هدوء لا يقطعه شيء. فقط مروحة التهوية كانت تدور وتدور، الصمت ثم الظلام.
نادراً ما كان الهاتف يرن، هو في جميع الأحوال لم يكن يكلّف نفسه عناء الرد عليه، صوته السجينُ هو الذي كان يرد.
-سأعود من العُطلة في أواخر أغسطس. إلى ذلك الحين، عطلة صيف سعيدة.
لكن في هاتين الجملتين القصيرتين تختبئ فصول كثيرة مكتظة عن حياته: لم يعد لديه أقارب وعدد أصدقائه قليل للغاية، وكان مظهره رثاً ويتناسب وتصرفاته المكررة غير المفهومة، وكان يكتب أشعاراً ويملك أجندة يوميات. كان وحيداً.
-حجز تذكرتي سفر لشخصين نحو المغرب.
"أخبرنا، من فضلك، في ما إذا كُنت تريدها في النهاية"- سمع صوتاً أنثويا يقول على جهاز الرد على المكالمات.
غضب مرير رُسم للحظة على وجهه، وسقطت منه نظرة راحت تداعب الأشياء التي كانت تلتفّ حوله كالعائلة: طاولته المليئة بأوراق قديمة، والملابس مكدّسة تحتل جميع الكراسي تقريباً، والمرآة التي عليها مر وجهه، كبرق، في الصباح.
- هل نتابع؟
- "لنتابع"، أجابوه.
-"وكالة أسفار إِيُولِيسْ. آخر إشعار لرحلتك نحو سَانْتُرِينِي. هل ستلغيها؟"
اتصال هاتفي آخر:
-"سعدت أنك أخيراً قررت الذهاب".
اتصال آخر مقلق:
- ماذا سنفعل؟ - كان يسأل من جديد كل الأشياء الهشة من حوله.
- هل نبقى؟
لنبقى.
لم يكن قلقاً على المقرّبين منه. سيبعث لهم كلهم بطاقات بريدية مع صور للجزر لإقناعهم أنه حتى هو أيضاً قد ذهب إلى مكان ما (كان قد التقط الصور منذ زمن). بالإضافة إلى ذلك، هم لن يهتموا كثيراً، سيقنعهم بسهولة.
بدأت جزيئات صغيرة مظلمة الآن بالتحرّك في أنحاء الغرفة المغلقة، تكسو طاولته بالغبار، تبتلع كتبه، وتتسرب عميقاً تحت قميصه التحتاني وتلتصق بجسده العرقان، رواسب سوداء. بقدر ما كان يسعى جاهداً لإبعادها، وهو يهز بعنف كل مرة يده، كانت دائما هناك. وعند اقتراب الليل، عندما كانت تتزايد وتتكاثر، حينها كان يتوقف عن هزّ يده، لقد فكر عدة مرّات أن تلك اللحظة هي الأنسب للمغادرة، ساعة مثالية: من أجل فتح الغاز ثم الانتظار، مثلاً. يستمرّ الهاتف في الرنين، وصوته، بتمويه لطيف، سيجيب، سيبقى الكل مرتاحاً. حينذاك رُبما سيجد جواباً. بكل بساطة، هم سيطفؤون المروحة.
كم يدوم الصيف؟ - قرون! أجاب نفْسَه، وهو يصبّ الماء في الكأس من الإبريق. ينظر الآن في هذه الشفافية أمامه، ويفكر في البحر، وفي أكوام الرمل والمظلات الشمسية، ثم في الغيتارات تحت النجوم، وفي كل شيء.
منذ فترة وهو يتذكر بلا حراك داخل الزمن ودائما الشيء نفسه، لحظات لا شك أنها ما زالت تستحق، ولكن لم تعد تسرّه لأنه يعيش وحيداً. واصلت المروحة دورانها، وجهاز الرد على المكالمات يجيب.
على أي حال، حتى الآن كان قد نجا من الغاز، فكّر بارتياح ظاهر: البطاقات البريدية ما زالت دائماً في انتظاره على حافة طاولته. مرة أخرى، سيؤجل. ثم، كم يدوم الصيف؟
ابتسم هازئاً. ألقى نظرة على صور البطاقات البريدية، وقال إنه سيبدأ في تلك اللحظة نفسها بالكتابة عليها. مع ذلك، لم يعجبه الأمر.
- "هل نبقى؟" - أعاد السؤال. ولكن لم يكن هناك حوله أو داخله، جواب واحد. أخذ يرتجف.
في تلك اللحظة نفسها نظر إليه الصيف شَزْراً، نظرة تقطر دماً. خيّم السكون على البيت، لفترة.
- "لنبقى"- كرّرها عدة مرات في داخله وبسرعة، كأنه يدعو دعاءً.
لنستمر.
* Dimitris Angelis شاعر وكاتب يوناني من مواليد أثينا عام 1973
** ترجمة محسن بن دعموش
اقرأ أيضاً: شجرة أخي أبسالون