قد تدخل إلى مطعم في مدينة عربية أو مقهى فيخدمك شاب أو فتاة يحملان شهادة في إدارة الأعمال وما شابه. بائع الخضار الذي تشتري منه حاجتك اليومية قد يكون حائزاً على شهادة ليسانس في الجغرافيا أو الآداب العربية أو الإنكليزية وغيره كثيرون. لكنّ هؤلاء جزء يسير من الخريجين الجامعيين العرب الذين يمكن أن تصادفهم.
وليد مثلاً، يحمل شهادة في علوم التواصل. تخرج من إحدى الجامعات بدرجة تفوق، وبقي أكثر من ثلاثة أعوام في البيت ولا شاغل له سوى البحث في مواقع الإنترنت عن الشركات والمؤسسات التي يمكن أن تطلب اختصاصه. جاء إلى المدينة لأسابيع متواصلة بحثاً عن الشركات التي يمكن أن تحتاج إليه ولم يفلح في العثور على العمل المناسب لدراسته أو غير المناسب حتى.
عندما بلغت موجة اللجوء من سورية مداها (يسميها اللبنانيون النزوح)، وهرعت منظمات الإغاثة الدولية لتقديم المساعدات، عمل وليد مع وزارة الشؤون الاجتماعية في مشاريع سنوية أو نصف سنوية وبتمويل دولي. ونفذ عمليات إحصاء ومتابعة لأوضاع فئات واسعة من هؤلاء المعذبين. كان يتقاضى راتبه مرة كلّ 6 أشهر أو أكثر. المهم أنّه في غضون تلك الفترة قرر متابعة دراسته لمضاعفة مؤهلاته. وعليه، فقد عاد إلى الجامعة ثانية وحصل منها بعد عامين على الماجستير. ولم يتغير شيء إن في عمله أو في راتبه، بل على العكس دفع مما حصل عليه، ومن دخل والده المحدود 30 ألف دولار أميركي كأقساط.
خشية من أن توقف المنظمات الدولية مساعداتها وتمويلها، وعودته بالتالي إلى البيت، تقدم بطلب هجرة إلى كندا وأجرى مقابلة في السفارة مع أحد المسؤولين في مكتب الهجرة، وكانت انطباعاته عنها إيجابية وتصبّ في مصلحته. وعده الموظف خيراً وأنّهم سيتصلون به لتحديد موعد مقابلة ثانية يقرَّر إثرها كلّ شيء. ولم يتصلوا به حتى الآن، لكنّه وجد عملاً في إحدى شركات الهاتف المحمول براتب متواضع، وبدوام طويل وبمنصب لا يقارَن بالكفاءة التي يملكها. هو الآن يصرّ على مشروع السفر إلى كندا أو غيرها إذا ما فتحت أمامه الأبواب. يعمل حالياً بطريقة مؤقتة ويقف على لائحة الانتظار للهجرة.
التربية والاقتصاد
الكلام عن مصير الخريجين العرب يفتح المواجع على مسائل في غاية الأهمية، أولها يتعلق بالمنظومة التربوية، والثانية تتناول سوق العمل. وكلا الأمرين على درجة بالغة من التعقيد. فالأولى تعني في ما تعنيه المدارس والمعاهد والجامعات والبرامج والمناهج والطرائق المعتمدة والهيئات التعليمية والإدارية وكفاءاتهم، والمخرجات من التعليم ومنظومات القيم التي يزرعها المعلمون في المتعلمين، سواء أكانت معلنة أم مخفية مما يسمى بالمنهاج الخفي، خصوصاً متى كانت تلك المدرسة تابعة لجمعية أهلية ذات أهداف وتوجهات تتبناها وتعمل على زرعها في نفوس متعلميها.
أما سوق العمل فيدخل فيه الاقتصاد والدخل القومي والقطاعات وقد يمتد ليصل إلى أوضاع الإنتاج في المنطقة والعالم. ومتى عرف الاقتصاد في الإقليم والعالم تأزماً عبّر عن نفسه بالبطالة في الاقتصادات الضعيفة والهشة. والبطالة ذات أنواع (سافرة، مقنعة، موسمية، دائمة، مؤقتة...)، وتعني عدم العثور على العمل أو فقدانه لأسباب متعددة، من ضمنها عدم الحصول على التأهيل الكافي والمطلوب في سوق العمل.
إذاً، نحن أمام موضوع مزدوج يتضمن من جهة أولى آليات القضية التربوية - التعليمية وكفاياتها ومخرجاتها. والثانية تتعلق بالاقتصاد وقطاعاته وقدرته على استيعاب الأعداد الوافرة من طالبي العمل، سواء تعلق الأمر بالخريجين أو غير الخريجين.
في مواجهة العولمة
تبعاً لهذا المدخل، فإنّ الملاحظ في المنطقة العربية هو أنّ هناك زيادة سكانية متصاعدة يقابلها إقبال مطرد على التعليم وارتفاع في معدلات بطالة الخريجين عن باقي الفئات، بمعنى أنّ البطالة لا تعود هنا إلى فقدان الكفاءة بقدر ما تعود إلى عجز السوق عن دمج هذه الفئات في الدورة الاقتصادية عبر النمو الذي يعني في ما يعنيه إيجاد عمل للأعداد الوافدة إليه.
واللافت أنّ معدلات البطالة في المنطقة العربية تصل في بعض الدول إلى أكثر من 50 في المائة ممن هم في سن العمل، وتهبط إلى حدود الانعدام في دولة أو اثنتين فقط، بينما النسبة الوسطية تتعدى للجامعيين 25 في المائة، وقد تصل إلى 30 في المائة في الغالب من حجم أعداد الخريجين، مع العلم أنّ العاملين من الخريجين لا يستفاد منهم على النحو الأمثل، بالنظر إلى تشغيلهم في غير اختصاصاتهم أو في أعمال بيروقراطية لا علاقة لها بالتنمية.
تجدر الإشارة إلى أنّه بالرغم من أنّ هناك زيادة في وتائر الاستهلاك والتوسع المرضي فيه، ومن مصادره كافة، ما يشجع على زيادة الإنتاج وتنويعه، فإنّ هناك في المقابل إقبالاً وزيادة في ارتياد مؤسسات التعليم بمراحله كافة، لكنّ الأزمة تكمن في حال العجز عن الموءامة بينهما، وتحويل الدراسة بعد التخرج إلى عمل في القطاعات المنتجة. وهو ما يعبر بالتالي عن فقدان الخطط الاستراتيجية التي تستطيع تأمين التوازن بين هذه وتلك، بما يقود إلى الحد من - أو - إلغاء البطالة إلى حد ما.
تجارب
وسط الأزمة التي تعانيها منطقتنا العربية، وإن بنسب متفاوتة بين دولها وتبعاً لظروف كلّ منها وطبيعة اقتصادها، تشهد معظمها حروباً ساخنة ومستترة تدفع بمقدراتها إلى الإنفاق على الترسانات العسكرية التي ترتد سلباً على الدواخل العربية من دون سواها. وبدلاً من إنفاق القدرات المالية على الإنشاءات وأعمال التعمير وبناء المؤسسات المولّدة للثروة، يحدث العكس ويتعرض ما هو قائم من أملاك وموجودات للتدمير شبه الكلي في العديد من الدول. كلّ هذا قاد إلى عدم الإفادة من العولمة، إذ ليس لدينا ما نستطيع تصديره، باستثناء النفط. ولما كان مستوى معاهدنا العالية وجامعاتنا متدنياً أو غير ملائم للثورة التكنولوجية العاصفة، فإنّنا لم نفد من عولمة سوق العمل. وهو سوق ذو حدين يتمثل أحدهما في القدرة على اختراق أسواق عمل بعيدة في حال امتلاك كفاءات نوعية مطلوبة، وثانيهما أنّ سوق العمل الداخلي قد يتعرض للاختراق بأيدٍ عاملة خارجية. يحدث هذا لأسباب شتى، من بينها ضعف التأهيل الداخلي وفارق الأجور وغيرها، والحاجة إلى كفاءات ومؤهلين غير متوفرين داخلياً. ويبقى الأهم أنّ موجات التطرف التي تضرب المنطقة ذات علاقة وطيدة بهذا الوضع، إذ إنّ العاطل من العمل والذي تسدّ الأبواب في وجهه على استعداد للالتزام بما من شأنه، في وهمه، تغيير الأوضاع، وإن عبر العنف المدمر.
اقــرأ أيضاً
كي لا نستمر في الحديث النظري العام، لا بد من التأكيد أنّ ظاهرة البطالة ليست قدراً لا رادّ لأحكامه القاهرة متى توافرت الإرادة السياسية المخططة للمستقبل، كما أثبتت العديد من التجارب الرائدة في هذا الإطار. وهي تجارب تنتمي إلى أوضاع مشابهة لما نحن عليه. أي أنّ العديد من الدول التي عاشت ظروفاً مشابهة (الاستعمار وتخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية) نجحت في تجاوز المعوقات وبلغت حدوداً من التقدم باتت تبعاً لذلك تنافس الدول الأكثر تقدماً في العالم الغربي. أشير هنا إلى تجارب كلّ من كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة. وحول تجربة اليابان صدرت العديد من الكتب التي عرضت لعوامل نجاحها، أما التجربة الألمانية فلا تنافَس عندما انتقلت من دولة كانت شبه مدمرة بالكامل بالقصف الجوي والبري إلى أكبر عملاق اقتصادي في أوروبا ورائد صناعي وتكنولوجي على صعيد العالم ودوله الأكثر تقدماً.
نهضة موءودة
بالطبع، هناك العديد من التجارب التي يجب أن تدفعنا كعرب إلى طرح الأسئلة، خصوصاً ونحن نتحدث عن دول بلغت نهضتها مداها، بينما نهضتنا العربية وئدت في مهدها ولم تصل إلى خواتيمها في إطلاق عجلة التقدم والتنمية من عقالها وقيودها القاتلة.
اقــرأ أيضاً
طرح مفكرو النهضة العربية في القرنين الماضيين سؤالاً حاول كلّ منهم الإجابة عنه. أما السؤال فكان: لماذا تقدم الغرب وتراجع العرب؟ الأجوبة كانت متنوعة بتنوع انتماءات هؤلاء المفكرين، فاليساري قال إنّ السبب هو الاستعمار والتخلف الفكري والغيبيات، والمتدين دعا إلى أخذ العلوم الغربية كسبيل لنهوضنا ورد الفلسفات المادية التي لا تتلاءم مع معتقداتنا. وهكذا دار الجدل بين الفريقين، وظلت الحال على ما هي عليه.
المهم في الموضوع أنّ أحداً الآن لا يطرح الأسئلة الراهنة: لماذا انفجرت المجتمعات العربية على هذا النحو وبلغ من درجات تفككها أنّ كياناتها الوطنية باتت أشلاء ممزقة؟ وماذا نفعل بأنفسنا وبخريجينا في هذا المفصل من الزمن؟ وهل تعود بلادنا إلى عهود الاستعمار والانتداب وما شابه من صيغ؟ باختصار، فإنّ الأسئلة كبيرة، وسؤال الأسئلة يتناول التعليم الذي نقدمه لتلاميذنا وطلابنا والاقتصاد الذي نبنيه لأجيالنا الآتية التي لم نترك لها سوى ركام الأبنية والمرافق المدمرة.
(باحث وأستاذ جامعي)
وليد مثلاً، يحمل شهادة في علوم التواصل. تخرج من إحدى الجامعات بدرجة تفوق، وبقي أكثر من ثلاثة أعوام في البيت ولا شاغل له سوى البحث في مواقع الإنترنت عن الشركات والمؤسسات التي يمكن أن تطلب اختصاصه. جاء إلى المدينة لأسابيع متواصلة بحثاً عن الشركات التي يمكن أن تحتاج إليه ولم يفلح في العثور على العمل المناسب لدراسته أو غير المناسب حتى.
عندما بلغت موجة اللجوء من سورية مداها (يسميها اللبنانيون النزوح)، وهرعت منظمات الإغاثة الدولية لتقديم المساعدات، عمل وليد مع وزارة الشؤون الاجتماعية في مشاريع سنوية أو نصف سنوية وبتمويل دولي. ونفذ عمليات إحصاء ومتابعة لأوضاع فئات واسعة من هؤلاء المعذبين. كان يتقاضى راتبه مرة كلّ 6 أشهر أو أكثر. المهم أنّه في غضون تلك الفترة قرر متابعة دراسته لمضاعفة مؤهلاته. وعليه، فقد عاد إلى الجامعة ثانية وحصل منها بعد عامين على الماجستير. ولم يتغير شيء إن في عمله أو في راتبه، بل على العكس دفع مما حصل عليه، ومن دخل والده المحدود 30 ألف دولار أميركي كأقساط.
خشية من أن توقف المنظمات الدولية مساعداتها وتمويلها، وعودته بالتالي إلى البيت، تقدم بطلب هجرة إلى كندا وأجرى مقابلة في السفارة مع أحد المسؤولين في مكتب الهجرة، وكانت انطباعاته عنها إيجابية وتصبّ في مصلحته. وعده الموظف خيراً وأنّهم سيتصلون به لتحديد موعد مقابلة ثانية يقرَّر إثرها كلّ شيء. ولم يتصلوا به حتى الآن، لكنّه وجد عملاً في إحدى شركات الهاتف المحمول براتب متواضع، وبدوام طويل وبمنصب لا يقارَن بالكفاءة التي يملكها. هو الآن يصرّ على مشروع السفر إلى كندا أو غيرها إذا ما فتحت أمامه الأبواب. يعمل حالياً بطريقة مؤقتة ويقف على لائحة الانتظار للهجرة.
التربية والاقتصاد
الكلام عن مصير الخريجين العرب يفتح المواجع على مسائل في غاية الأهمية، أولها يتعلق بالمنظومة التربوية، والثانية تتناول سوق العمل. وكلا الأمرين على درجة بالغة من التعقيد. فالأولى تعني في ما تعنيه المدارس والمعاهد والجامعات والبرامج والمناهج والطرائق المعتمدة والهيئات التعليمية والإدارية وكفاءاتهم، والمخرجات من التعليم ومنظومات القيم التي يزرعها المعلمون في المتعلمين، سواء أكانت معلنة أم مخفية مما يسمى بالمنهاج الخفي، خصوصاً متى كانت تلك المدرسة تابعة لجمعية أهلية ذات أهداف وتوجهات تتبناها وتعمل على زرعها في نفوس متعلميها.
أما سوق العمل فيدخل فيه الاقتصاد والدخل القومي والقطاعات وقد يمتد ليصل إلى أوضاع الإنتاج في المنطقة والعالم. ومتى عرف الاقتصاد في الإقليم والعالم تأزماً عبّر عن نفسه بالبطالة في الاقتصادات الضعيفة والهشة. والبطالة ذات أنواع (سافرة، مقنعة، موسمية، دائمة، مؤقتة...)، وتعني عدم العثور على العمل أو فقدانه لأسباب متعددة، من ضمنها عدم الحصول على التأهيل الكافي والمطلوب في سوق العمل.
إذاً، نحن أمام موضوع مزدوج يتضمن من جهة أولى آليات القضية التربوية - التعليمية وكفاياتها ومخرجاتها. والثانية تتعلق بالاقتصاد وقطاعاته وقدرته على استيعاب الأعداد الوافرة من طالبي العمل، سواء تعلق الأمر بالخريجين أو غير الخريجين.
في مواجهة العولمة
تبعاً لهذا المدخل، فإنّ الملاحظ في المنطقة العربية هو أنّ هناك زيادة سكانية متصاعدة يقابلها إقبال مطرد على التعليم وارتفاع في معدلات بطالة الخريجين عن باقي الفئات، بمعنى أنّ البطالة لا تعود هنا إلى فقدان الكفاءة بقدر ما تعود إلى عجز السوق عن دمج هذه الفئات في الدورة الاقتصادية عبر النمو الذي يعني في ما يعنيه إيجاد عمل للأعداد الوافدة إليه.
واللافت أنّ معدلات البطالة في المنطقة العربية تصل في بعض الدول إلى أكثر من 50 في المائة ممن هم في سن العمل، وتهبط إلى حدود الانعدام في دولة أو اثنتين فقط، بينما النسبة الوسطية تتعدى للجامعيين 25 في المائة، وقد تصل إلى 30 في المائة في الغالب من حجم أعداد الخريجين، مع العلم أنّ العاملين من الخريجين لا يستفاد منهم على النحو الأمثل، بالنظر إلى تشغيلهم في غير اختصاصاتهم أو في أعمال بيروقراطية لا علاقة لها بالتنمية.
تجدر الإشارة إلى أنّه بالرغم من أنّ هناك زيادة في وتائر الاستهلاك والتوسع المرضي فيه، ومن مصادره كافة، ما يشجع على زيادة الإنتاج وتنويعه، فإنّ هناك في المقابل إقبالاً وزيادة في ارتياد مؤسسات التعليم بمراحله كافة، لكنّ الأزمة تكمن في حال العجز عن الموءامة بينهما، وتحويل الدراسة بعد التخرج إلى عمل في القطاعات المنتجة. وهو ما يعبر بالتالي عن فقدان الخطط الاستراتيجية التي تستطيع تأمين التوازن بين هذه وتلك، بما يقود إلى الحد من - أو - إلغاء البطالة إلى حد ما.
تجارب
وسط الأزمة التي تعانيها منطقتنا العربية، وإن بنسب متفاوتة بين دولها وتبعاً لظروف كلّ منها وطبيعة اقتصادها، تشهد معظمها حروباً ساخنة ومستترة تدفع بمقدراتها إلى الإنفاق على الترسانات العسكرية التي ترتد سلباً على الدواخل العربية من دون سواها. وبدلاً من إنفاق القدرات المالية على الإنشاءات وأعمال التعمير وبناء المؤسسات المولّدة للثروة، يحدث العكس ويتعرض ما هو قائم من أملاك وموجودات للتدمير شبه الكلي في العديد من الدول. كلّ هذا قاد إلى عدم الإفادة من العولمة، إذ ليس لدينا ما نستطيع تصديره، باستثناء النفط. ولما كان مستوى معاهدنا العالية وجامعاتنا متدنياً أو غير ملائم للثورة التكنولوجية العاصفة، فإنّنا لم نفد من عولمة سوق العمل. وهو سوق ذو حدين يتمثل أحدهما في القدرة على اختراق أسواق عمل بعيدة في حال امتلاك كفاءات نوعية مطلوبة، وثانيهما أنّ سوق العمل الداخلي قد يتعرض للاختراق بأيدٍ عاملة خارجية. يحدث هذا لأسباب شتى، من بينها ضعف التأهيل الداخلي وفارق الأجور وغيرها، والحاجة إلى كفاءات ومؤهلين غير متوفرين داخلياً. ويبقى الأهم أنّ موجات التطرف التي تضرب المنطقة ذات علاقة وطيدة بهذا الوضع، إذ إنّ العاطل من العمل والذي تسدّ الأبواب في وجهه على استعداد للالتزام بما من شأنه، في وهمه، تغيير الأوضاع، وإن عبر العنف المدمر.
كي لا نستمر في الحديث النظري العام، لا بد من التأكيد أنّ ظاهرة البطالة ليست قدراً لا رادّ لأحكامه القاهرة متى توافرت الإرادة السياسية المخططة للمستقبل، كما أثبتت العديد من التجارب الرائدة في هذا الإطار. وهي تجارب تنتمي إلى أوضاع مشابهة لما نحن عليه. أي أنّ العديد من الدول التي عاشت ظروفاً مشابهة (الاستعمار وتخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية) نجحت في تجاوز المعوقات وبلغت حدوداً من التقدم باتت تبعاً لذلك تنافس الدول الأكثر تقدماً في العالم الغربي. أشير هنا إلى تجارب كلّ من كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة. وحول تجربة اليابان صدرت العديد من الكتب التي عرضت لعوامل نجاحها، أما التجربة الألمانية فلا تنافَس عندما انتقلت من دولة كانت شبه مدمرة بالكامل بالقصف الجوي والبري إلى أكبر عملاق اقتصادي في أوروبا ورائد صناعي وتكنولوجي على صعيد العالم ودوله الأكثر تقدماً.
نهضة موءودة
بالطبع، هناك العديد من التجارب التي يجب أن تدفعنا كعرب إلى طرح الأسئلة، خصوصاً ونحن نتحدث عن دول بلغت نهضتها مداها، بينما نهضتنا العربية وئدت في مهدها ولم تصل إلى خواتيمها في إطلاق عجلة التقدم والتنمية من عقالها وقيودها القاتلة.
طرح مفكرو النهضة العربية في القرنين الماضيين سؤالاً حاول كلّ منهم الإجابة عنه. أما السؤال فكان: لماذا تقدم الغرب وتراجع العرب؟ الأجوبة كانت متنوعة بتنوع انتماءات هؤلاء المفكرين، فاليساري قال إنّ السبب هو الاستعمار والتخلف الفكري والغيبيات، والمتدين دعا إلى أخذ العلوم الغربية كسبيل لنهوضنا ورد الفلسفات المادية التي لا تتلاءم مع معتقداتنا. وهكذا دار الجدل بين الفريقين، وظلت الحال على ما هي عليه.
المهم في الموضوع أنّ أحداً الآن لا يطرح الأسئلة الراهنة: لماذا انفجرت المجتمعات العربية على هذا النحو وبلغ من درجات تفككها أنّ كياناتها الوطنية باتت أشلاء ممزقة؟ وماذا نفعل بأنفسنا وبخريجينا في هذا المفصل من الزمن؟ وهل تعود بلادنا إلى عهود الاستعمار والانتداب وما شابه من صيغ؟ باختصار، فإنّ الأسئلة كبيرة، وسؤال الأسئلة يتناول التعليم الذي نقدمه لتلاميذنا وطلابنا والاقتصاد الذي نبنيه لأجيالنا الآتية التي لم نترك لها سوى ركام الأبنية والمرافق المدمرة.
(باحث وأستاذ جامعي)