28 سبتمبر 2020
بعد حراك الجزائر .. ما تحقّق وما تغيّر
خديعةٌ كبرى تمّ ترويجها في الجزائر، تسويق الرّضا الشّعبي العام على ما تحقّق من إنجازاتٍ ظاهريةٍ للحرَاك الشّعبي، ما أدّى إلى تراجعه ثمّ توقّفه بسبب جائحة كورونا يوم 20 مارس/ آذار الماضي، وهو ما جعل الانتقال الديمقراطي يتعرّض إلى هذا العبور الحرج عبر أشواكِ ثورةٍ مضادّةٍ غيرِ معلنة، حالت دون تغيير النّظام واستكمال أهداف الثورة الشعبية الناجزة والكاملة، بجميع مطالبها السّياسية والأساسية، وجاءت مسودة تعديل الدستور لتؤكدّ على كلِّ هذه المخاوف المشروعة من الرّدّة عن طموحات الشعب الجزائري، بعد ثورته الشعبية المليونية والسلمية عبر حَراك 22 فبراير/ شباط 2019.
ومع يقيننا بأنّ الثورات الشعبية قد لا تنجز أهدافها كاملة لوجود مقاومةٍ طبيعيةٍ للتغيير، فقد يخطئ مَن يعتقد أيضًا أنّ تحقيق بعض الإنجازات هو مبرّرٌ للاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وأنّ اللّومَ سيكون على مَن انخدع بالقيام بنصف ثورة، والتي هي مقبرةٌ حقيقيةٌ لأصحابها، إذ كانت لخصوم الحرَاك القدرة على العودة والسّيطرة، بما لهم من إمكاناتٍ مؤسّسيةٍ وماليةٍ وإعلاميةٍ كبيرة.
وكما تأسّفنا على الحرَاك الشعبي الذي كان يأكل بعض أبنائه، عن طريق الإصرار على
الاستقطاب الإيديولوجي والصّراع الحزبي والنّبش في الخلفيات التاريخية، حتى أصبح بأسُ بعضِ مكوّناته بينهم شديد، عبر تحطيم كلّ الرّموز واستهداف كلّ المرجعيات وشيطنة كلّ القيادات، فقد وقعنا في المربّع نفسه الذي تتقنه الأنظمة الشّمولية عبر سياسة "فرّق تسد" من دون الاعتبار بالماضي، وهي تستمتع بذلك التطاحن الإيديولوجي بين القوى الثورية والناشطة في السّاحة، لتقوم بالاستفراد بمَن تشاء على الطريقة الفرعونية: "إنّ فرعون عَلَا في الأرض، وجعل أهلها شيَعًا، يستضْعِف طائفةً منهم.." (القصص: 04)، وهو ما كان يتطلّب التوافقات والتنازلات والتحالفات بين مختلف القوى الثورية ضدّ النّظام السّياسي وتمظهراته المختلفة، وهو يعمل على إعادة استنساخ ذاته ورسكلة أدواته.
لقد استطاعت بعض رموز النظام البوتفليقي، والتي كانت حاميةً له ومدافِعةً عنه، أن تعيد التموقع من جديد، وهي التي خاضت، ولا تزال تخوض، معركةً وُجودية، ولم يكن اللّوم عليها، فتلك مصلحتها، وبالتالي ذلك هو حقّها، بقدر ما يكون اللّوم على مَن يعطي لها الفرصة في ذلك، عندما يرفض العمل التشاركي بين مكوّنات الحرَاك والقوى السّياسية، ويصرّ على التمايز والعمل وفق الأجندات الخاصّة، وكان جميلاً لو تكاملت القوى الثورية والسياسية ضمن استراتيجيةٍ واضحةٍ وخطّةٍ متفقٍ عليها، تجمع بين العاطفة القويّة للشّعب في الشّارع وعقلانية النّخب السّياسية في الحوار والحلِّ الإجرائي مع السّلطة، إذ أنه لا يُعقل، كذلك، القيام بثورةٍ حقيقيةٍ من دون أن تلامس مطالبُها الواقعية أحلامَ أهدافِها المثالية، وهو ما يتطلّب المرونة في استيعاب كلّ الآراء والمواقف والخيارات عبر الحوار والتوافق الكفيل بالعبور الآمن للجميع. فما الذي تحقّق من أهداف الحرَاك الشّعبي؟ وما الذي تغيّر في النظام السياسي؟
أولا، سقوط العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وإيقاف تمديد العهدة الرّابعة: كانت محاولة فرض العهدة الخامسة، كما فُرِضت العهدة الرّابعة، بمثابة القنبلة التي فجّرت الشّارع، فقد كانت استخفافًا كبيرًا واستفزازًا خطيرًا لكرامة الشعب الجزائري أمام العالم، لتخرِج الجزائرُ أثقالَها في مسيراتٍ مليونيةٍ انطلقت وطنيًّا يوم 22 فبراير/ شباط 2019، وهو ما تحقّق عبر استقالة بوتفليقة يوم 2 إبريل/ نيسان 2019.
ولكنّ النتيجة الواقعية إلى الآن هي ذهابُ شخصِ بوتفليقة وبقاءُ نظامه، وذلك ببقاء (بل وعودة)
أغلب الوجوه القديمة للنظام السياسي، وهو ما أدّى إلى هذه النتيجة الحتمية بعدم التغيير الحقيقي، وذلك لإشراف رموز العهد البوتفليقي على الانتخابات الرئاسية يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وهو ما طعن في مصداقيتها ونسّب من شرعيتها، ويكفي التأمّل في نسبة المشاركة فيها، وفي النّسبة التي تحصّل عليها رئيس الجمهورية، حتى نعرف حجم الفرصة التي تمّ تضييعها، إذ لا تكفي شرعية رئيس بأربعة ملايين صوت من أصل 24 مليون ناخب أن تسيّر بلدًا مثل الجزائر بعد ثورةٍ شعبيةٍ عارمة.
ثانيا، محاربة الفساد: من أهمّ شعارات وأهازيج الحرَاك الشّعبي (كْلِتُو لَبْلاد يا السرّاقين)، وهو ما شكّل مطلبًا شعبيًّا عارمًا لمحاسبة كلِّ رموز الفساد السّياسي والمالي والعسكري والأمني والقضائي والإداري، وهو الذي تمّ مع بعضها، وهو إنجازٌ نوعيٌّ للحرَاك الشّعبي، والذي يعود له الفضل في توفير الغطاء والشّرعية الشّعبية له، وهو واجبٌ طبيعيٌّ لمؤسسات الدولة، وليس إنجازًا خارقًا يمنُّ به أحدٌ علينا.
ومع ذلك، بقي الشّك يطعن في حقيقة استقلالية القضاء، ويخدش في مصداقية سيادة القانون على الجميع، مع بقاء بعض الرّموز حرّةً طليقة، بل لم تصل حملة مكافحة الفساد إلى المسؤول الأول عنه، هو وعائلته 20 سنة من حكمه، وأنّ العبرة في ذلك هو استرجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة، وليس مجرد سجن أصحابها، ولا يزال أبُ الفساد في البلاد وهو تزوير الانتخابات مسكوتًا عن أربابه.
ثالثا، الرِّدّة عن مكسب الحرّية: من الأشواق الكبيرة التي حملها الحرَاك من أعماق الشّعب هي أنْفَاس الحرّية، فنادى بما صُمّت به آذان الدّنيا: جزاير حرّة نوفمبرية، جزاير حرّة ديمقراطية .. وغنّى الجميعُ سيمفونية أنّ الحَراك الشّعبي حرّر الجميع، بما فيه القضاء والمؤسسة العسكرية ووسائل الإعلام، لكنّ المراقب المحايد الآن يسجّل تلك الرِّدّة عن الحرّيات، والتي تجلّت مظاهرها في: حملة الاعتقالات لنشطاء الحرَاك، والتضييق على نشاطات الأحزاب والجمعيات ومختلف الفضاءات، ومصادرة حرّية الرّأي والتعبير في مختلف وسائل الإعلام العمومية والخاصّة والتحكّم في المتدخلين فيها، وغلق أبواب الإعلام العمومي أمام المخالفين، والضغط والابتزاز والمعاقبة بالإشهار، والاعتداء على الحق الدستوري في تأسيس الأحزاب والجمعيات، وشيطنة كلّ المخالفين والمنافسين.. وغيرها.
هل وقع تغييرٌ حقيقي؟ يكتشف المطّلع على مسودة تعديل الدستور، بما لا يدع مجالاً للشّك، أنه لم
يقع تغييرٌ حقيقي، وأنه لا توجد إرادةٌ فعليةٌ في ذلك، ويكفي التأمّل في المحاور المفصلية له للتأكد من ذلك: اعتراف لجنة الخبراء نفسِها بعدم تغيير طبيعة النظام، بحجّة أنه يخرج عن محاور رسالة تكليفها. بقاء المعالم الرئيسية لدستور بوتفليقة ونظامه الهجين، كعدم انبثاق الحكومة عن الأغلبية البرلمانية، وعدم استقلالية القضاء على من الرغم الادّعاء به، وبقاء الثلث الرّئاسي المعيّن والمعطّل للبرلمان، وتكريس ثقافة التعيين بدل مبدأ الانتخاب في كل المؤسسات، بما يخلّ بمبدأ الفصل بين السلطات. عدم استقلالية المحكمة الدستورية، وهي أسوأ من المجلس الدستوري في المهام والتشكيلة وشروط العضوية فيها. مشكلة السّلطة المستقلة للانتخابات، وهل هي قادرةٌ على ضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها؟ بروز الخطر على الوحدة الوطنية واللّغوية والدّينية للشّعب الجزائري. بقاءُ (بل تعزيزُ) سلطة الشّخص، بهيمنة الرّئيس على كلّ الصلاحيات والسلطات والمؤسسات: السياسية والقضائية والرّقابية والعسكرية والأمنية والإدارية. خطر الاتفاقيات الدولية، وسموِّها على الدستور وعلى قرارات المحكمة الدستورية وإلزام القضاء بها. الإشكالية المزمنة للصلاحيات المطلقة للرئيس، مع عدم تحمّله للمسؤولية السياسية والقضائية والجزائية، وعدم خضوعه لأيّ رقابة أو محاسبة. وهو ما جعل بعضهم يعتقد بأنّنا في وضعٍ لا يختلف كثيرًا عمّا كنّا عليه في العهد البوتفليقي.
وكما تأسّفنا على الحرَاك الشعبي الذي كان يأكل بعض أبنائه، عن طريق الإصرار على
لقد استطاعت بعض رموز النظام البوتفليقي، والتي كانت حاميةً له ومدافِعةً عنه، أن تعيد التموقع من جديد، وهي التي خاضت، ولا تزال تخوض، معركةً وُجودية، ولم يكن اللّوم عليها، فتلك مصلحتها، وبالتالي ذلك هو حقّها، بقدر ما يكون اللّوم على مَن يعطي لها الفرصة في ذلك، عندما يرفض العمل التشاركي بين مكوّنات الحرَاك والقوى السّياسية، ويصرّ على التمايز والعمل وفق الأجندات الخاصّة، وكان جميلاً لو تكاملت القوى الثورية والسياسية ضمن استراتيجيةٍ واضحةٍ وخطّةٍ متفقٍ عليها، تجمع بين العاطفة القويّة للشّعب في الشّارع وعقلانية النّخب السّياسية في الحوار والحلِّ الإجرائي مع السّلطة، إذ أنه لا يُعقل، كذلك، القيام بثورةٍ حقيقيةٍ من دون أن تلامس مطالبُها الواقعية أحلامَ أهدافِها المثالية، وهو ما يتطلّب المرونة في استيعاب كلّ الآراء والمواقف والخيارات عبر الحوار والتوافق الكفيل بالعبور الآمن للجميع. فما الذي تحقّق من أهداف الحرَاك الشّعبي؟ وما الذي تغيّر في النظام السياسي؟
أولا، سقوط العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وإيقاف تمديد العهدة الرّابعة: كانت محاولة فرض العهدة الخامسة، كما فُرِضت العهدة الرّابعة، بمثابة القنبلة التي فجّرت الشّارع، فقد كانت استخفافًا كبيرًا واستفزازًا خطيرًا لكرامة الشعب الجزائري أمام العالم، لتخرِج الجزائرُ أثقالَها في مسيراتٍ مليونيةٍ انطلقت وطنيًّا يوم 22 فبراير/ شباط 2019، وهو ما تحقّق عبر استقالة بوتفليقة يوم 2 إبريل/ نيسان 2019.
ولكنّ النتيجة الواقعية إلى الآن هي ذهابُ شخصِ بوتفليقة وبقاءُ نظامه، وذلك ببقاء (بل وعودة)
ثانيا، محاربة الفساد: من أهمّ شعارات وأهازيج الحرَاك الشّعبي (كْلِتُو لَبْلاد يا السرّاقين)، وهو ما شكّل مطلبًا شعبيًّا عارمًا لمحاسبة كلِّ رموز الفساد السّياسي والمالي والعسكري والأمني والقضائي والإداري، وهو الذي تمّ مع بعضها، وهو إنجازٌ نوعيٌّ للحرَاك الشّعبي، والذي يعود له الفضل في توفير الغطاء والشّرعية الشّعبية له، وهو واجبٌ طبيعيٌّ لمؤسسات الدولة، وليس إنجازًا خارقًا يمنُّ به أحدٌ علينا.
ومع ذلك، بقي الشّك يطعن في حقيقة استقلالية القضاء، ويخدش في مصداقية سيادة القانون على الجميع، مع بقاء بعض الرّموز حرّةً طليقة، بل لم تصل حملة مكافحة الفساد إلى المسؤول الأول عنه، هو وعائلته 20 سنة من حكمه، وأنّ العبرة في ذلك هو استرجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة، وليس مجرد سجن أصحابها، ولا يزال أبُ الفساد في البلاد وهو تزوير الانتخابات مسكوتًا عن أربابه.
ثالثا، الرِّدّة عن مكسب الحرّية: من الأشواق الكبيرة التي حملها الحرَاك من أعماق الشّعب هي أنْفَاس الحرّية، فنادى بما صُمّت به آذان الدّنيا: جزاير حرّة نوفمبرية، جزاير حرّة ديمقراطية .. وغنّى الجميعُ سيمفونية أنّ الحَراك الشّعبي حرّر الجميع، بما فيه القضاء والمؤسسة العسكرية ووسائل الإعلام، لكنّ المراقب المحايد الآن يسجّل تلك الرِّدّة عن الحرّيات، والتي تجلّت مظاهرها في: حملة الاعتقالات لنشطاء الحرَاك، والتضييق على نشاطات الأحزاب والجمعيات ومختلف الفضاءات، ومصادرة حرّية الرّأي والتعبير في مختلف وسائل الإعلام العمومية والخاصّة والتحكّم في المتدخلين فيها، وغلق أبواب الإعلام العمومي أمام المخالفين، والضغط والابتزاز والمعاقبة بالإشهار، والاعتداء على الحق الدستوري في تأسيس الأحزاب والجمعيات، وشيطنة كلّ المخالفين والمنافسين.. وغيرها.
هل وقع تغييرٌ حقيقي؟ يكتشف المطّلع على مسودة تعديل الدستور، بما لا يدع مجالاً للشّك، أنه لم