19 سبتمبر 2022
بغداد وسياسات العزل والفصل والتقطيع
لا يمكننا أبدًا أن نتخيل بغداد التي وصفها ياقوت في "معجم البلدان" سيدّة البلاد، وهي اليوم مقطّعة الأوصال، ويمارس النظام السياسي الحالي في العراق سياساته القميئة بعزل بغداد الكبرى عن لواحقها وتوابعها وأقضيتها ونواحيها بإقامة أسوارٍ تمتد من حولها عشرات الكيلومترات، وأن تُحفر وراء الأسوار خنادق وتُبنى على تلك الأسوار أبراج، وتقطّع المدينة إلى أوصال، ليس لعزلة الملايين فيها عن بقية العراقيين ومدنهم الأخرى، ولكن لعزل أهل بغداد أحدهم عن الآخر.. وقد أطلقت دائرة "عمليات بغداد" العسكرية على مشروعهم سور بغداد الأمني، وكأنهّم يمارسون نموذجا من سياسات إسرائيل العنصرية ببناء الجدران الصهيونية عن العرب الفلسطينيين، ذلك أن سور بغداد الأمني يتضمّن بناء جدران إسمنتية وحفر خنادق عميقة تملأ بالماء من أجل منع تسلّل المهاجمين والإرهابيين، وهم يضيفون إلى ذلك إحكام السيطرة على مداخل العاصمة عبر ثمانية منافذ محدّدة.
إنهم يتشدّقون "بأهمية تنفيذ المشروع" كي يسهم حسب تصوراتهم البلهاء "بشكل مباشر في تحسن الوضع الأمني في بغداد". وحجتهّم في ذلك انعدام قدرتهم في ضبط أمن العاصمة، وعدم تمكنهم من السيطرة على مناطق حزام بغداد الشمالية والغربية والجنوبية، وعلى الرغم من تأكيدهم أنه قرار عسكري أمني، إلا أنه يقع ضمن أجندة سياسية، تؤسس لفصل طائفي بعزل بغداد عن محيطها الذي يسمونه "حزام بغداد"، وتقطيعها على أسس طائفية مقيتة! وإذا كان بعضهم يدّعي أن الجدران ستزول بين مناطق بغداد، نسأل: لماذا ستبقى الجدران حول ما يسمى "المنطقة الخضراء" التي تحوي المؤسسات الحكومية والبرلمان والسفارات الأجنبية، بحسب وسائل إعلام عراقية؟ هل تخافون على أنفسكم وعلى نوابكم وعلى سفرائكم..
وتناقلت الأخبار نقلاً عن خبراء تحدثوا لـ"سكاي برس" أن خمسَ كتائب هندسية قيادات
(خمس فرق) ستعمل على تحويل كلّ الكتل الكونكريتية من الخرسانة المسلحة ونشرها على الأسوار، وستمتد المرحلة الأولى من الأسوار بطول 100 كيلو متر، إذ ستنفذ كلّ كتيبة 20 كيلو مترا منه. وإنّ الأسوار تتضمّن حفر خندق بعرض ثلاثة أمتار وعمق مترين، وإجراء تسوية للطرق المحيطة بالخندق وحولها، ونصب أبراج لمسافات معينة، فضلاً عن نصب كاميرات مراقبة لمتابعة تصوير المسافة بين الأبراج، مع نشر دوريات عسكرية متواصلة تحاذي تلك الأسوار.. وكان بدء العمل قد انطلق منذ بداية فبراير/ شباط الجاري، بالتوازي مع حفر خندق دائري حول العاصمة بغداد الكبرى، إلى جانب طريق دائرية، وإقامة أبراج مراقبة، ونظام إلكتروني للاستشعار.. إنها شبيهة بالإجراءات الإسرائيلية نفسها التي تتبعها عند حدودها مع بلدان الطوق العربية.
حجة المسؤولين العراقيين في تنفيذ هذا "المشروع" هي الحد من العمليات الإرهابية والاستنزافية التي تقوم بها عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وهنا نسأل: هل ستمنع الأسوار تسلّل السيارات المفخخة واختراق الانتحاريين والإرهابيين حزام بغداد، للقيام بجرائمهم وجناياتهم؟ ثم ألم يتعرّض كلّ العراقيين لعمليات التفجير وجرائم التفخيخ وجنايات القتل..؟ فما معنى أن تعزل بغداد عن بقيّة العراقيين؟ إن كانت سياسات العزل والتهجير والتلاعب الديمغرافي قد جرت منذ سنوات طوال، فإن سياسات العزل عمليا على الأرض ستجري من خلال هذه الأسوار والخنادق.. وإذا كانت ألمانيا الشرقية قد فصلت نفسها عن ألمانيا الغربية إثر الحرب العالمية الثانية من خلال سور برلين الذي قسم العاصمة برلين، فقد كان ذلك من خلال حدود دولتين اثنتين، لا في دولة واحدة. نظام الحكم العراقي مستمر في سياساته الخرقاء، ولم تفد معه كلّ النصائح والانتقادات التي تعارض نهجه وأجندته التي سببّت كلها هذا المأزق التاريخي، إذ كان قد بدأ سياسة الفصل والتمايز والمحاصصات الطائفية بين من سماهم "المكونات"، ومنذ العام 2003، ضاربا عرض الحائط بالعمل في أي مشروع وطني مدني، بعيداً عن الطائفية والشوفينية المقيتة.. وبعد التي واللتيا، يأتي اليوم ليمارس سياسات العزل بأسلوب الأسوار والخنادق والجدران بين سكان العراق.. متى يدرك هؤلاء أن ممارسات العصور الوسطى في بناء الأسوار حول المدن وحفر الخنادق حول القلاع لم تعد تجدي نفعاً اليوم، فمن له القدرة على إرسال السيارات المفخخة ستكون له القدرة على إرسال الطائرات المفخخة والهاونات، كما يجري في الموصل بين الساحلين الأيمن المحتل والأيسر المحرّر (!).
لا يمكن للجيش أن يبدأ بهذا "المشروع" وينطلق في تنفيذه، من دون مباركة النظام السياسي.. وهو مشروعٌ سينتهي إلى الفشل، حسب ما يقوله خبراء عسكريون وأمنيون، وهو مثار شكوك
لدى عراقيين كثيرين، إذ يقول منطقهم إنه من المستحيل عملياً عزل بغداد عن بقية البلاد، وهذا ما يردّده أيضاً خبراء ومراقبون في العالم. وذكرت وسائل إعلام عراقية محلية أن بناء الجدار سيبدأ في منطقة الصبيحات (30 كلم غرب بغداد)، من أجل عزلها عن الفلوجة التي لم يزل أغلب المسؤولين يردّدون بسيطرة "داعش" عليها حتى اليوم! وكأنها لم تحرّر منهم ولم تصبح خراباً يباباً. وثمة اتهامات تقول إن "بناء السور مرتبط بإحداث تغيير ديمغرافي حقيقي على الأرض".
كل هذه المحاولات التي تتبع سياسات العزل والتقطيع للأرض بعد سياسات التهميش والإقصاء للإنسان وسحق المدن، وهي التي اتبعها النظام الحاكم، لم ولن تنفع أبداً، ما دام هذا "النظام مستمرا في غيّه، ولم يزل يتبع سياساته نفسها في تقطيع أوصال العراق، من دون التفكير بأساليب تغيير نهجه ورؤيته للعراق والعراقيين من منظار المحاصصة الطائفية. إن السياسات الطائفية التي يتبعها النظام الحاكم، وهو يصر إصراراً غبياً على اتباعها، ويفرّق على هذا الأساس بين العراقيين، ويقيم تمايزاتٍ فاضحة على هذا الأساس بين العراقيين.
لا يمكن العراق أن يتخلص من الإرهاب والمفخّخات والدواعش والقوى الشريرة إلا بغلق كل أبوابه والسيطرة بإحكام على كلّ حدوده البرية مع الآخرين، وخصوصاً حدوده الشرقية والغربية، أي مع إيران وسورية. يدخل الآلاف العراق يومياً من دون علم السلطات العراقية، ومن دون أن يعرف أحد ما هويتهم، وما الذي يفعله هؤلاء في كلّ أعماق العراق. السر في نجاح إقليم كردستان في توفير الأمن والاستقرار فيه يأتي نتيجة ضبط السلطات الكردية الحدود والمداخل البرية مع كلّ ما يحيط كردستان.. والمتمنى أن يجرّب العراقيون مرّة واحدة فقط ضبط الحدود الطويلة مع إيران (أكثر من 1200 كلم)، وضبط الحدود المستباحة مع سورية، فضلاً عن تحجيم دور إيران في العراق، وكسر شوكة تدخلاتها السافرة.. وسيرى كلّ العراقيين ما سيحدث في عموم العراق من هدوء وأمن واستقرار، وسيتيح ذلك أمام القوى السياسية العراقية أن تعمل بعيداً عن أية أجندة مفروضة.. أتحدّى الحكومة العراقية أن تقوم بتحجيم أدوار الآخرين في العراق. يعتمد النظام السياسي في العراق أجندة الآخرين من أجل أن يبقى في حكم البلاد.. وسوف يأخذنا إلى انتكاسات ومصائب لا حدود لها، إن بقيَ يمارس هذا "النهج" القائم على التمايز والفصل والعزل. فهل أدرك كلّ العراقيين حجم الكارثة التي يقودهم إليها هذا النظام الفاسد؟
إنهم يتشدّقون "بأهمية تنفيذ المشروع" كي يسهم حسب تصوراتهم البلهاء "بشكل مباشر في تحسن الوضع الأمني في بغداد". وحجتهّم في ذلك انعدام قدرتهم في ضبط أمن العاصمة، وعدم تمكنهم من السيطرة على مناطق حزام بغداد الشمالية والغربية والجنوبية، وعلى الرغم من تأكيدهم أنه قرار عسكري أمني، إلا أنه يقع ضمن أجندة سياسية، تؤسس لفصل طائفي بعزل بغداد عن محيطها الذي يسمونه "حزام بغداد"، وتقطيعها على أسس طائفية مقيتة! وإذا كان بعضهم يدّعي أن الجدران ستزول بين مناطق بغداد، نسأل: لماذا ستبقى الجدران حول ما يسمى "المنطقة الخضراء" التي تحوي المؤسسات الحكومية والبرلمان والسفارات الأجنبية، بحسب وسائل إعلام عراقية؟ هل تخافون على أنفسكم وعلى نوابكم وعلى سفرائكم..
وتناقلت الأخبار نقلاً عن خبراء تحدثوا لـ"سكاي برس" أن خمسَ كتائب هندسية قيادات
حجة المسؤولين العراقيين في تنفيذ هذا "المشروع" هي الحد من العمليات الإرهابية والاستنزافية التي تقوم بها عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وهنا نسأل: هل ستمنع الأسوار تسلّل السيارات المفخخة واختراق الانتحاريين والإرهابيين حزام بغداد، للقيام بجرائمهم وجناياتهم؟ ثم ألم يتعرّض كلّ العراقيين لعمليات التفجير وجرائم التفخيخ وجنايات القتل..؟ فما معنى أن تعزل بغداد عن بقيّة العراقيين؟ إن كانت سياسات العزل والتهجير والتلاعب الديمغرافي قد جرت منذ سنوات طوال، فإن سياسات العزل عمليا على الأرض ستجري من خلال هذه الأسوار والخنادق.. وإذا كانت ألمانيا الشرقية قد فصلت نفسها عن ألمانيا الغربية إثر الحرب العالمية الثانية من خلال سور برلين الذي قسم العاصمة برلين، فقد كان ذلك من خلال حدود دولتين اثنتين، لا في دولة واحدة. نظام الحكم العراقي مستمر في سياساته الخرقاء، ولم تفد معه كلّ النصائح والانتقادات التي تعارض نهجه وأجندته التي سببّت كلها هذا المأزق التاريخي، إذ كان قد بدأ سياسة الفصل والتمايز والمحاصصات الطائفية بين من سماهم "المكونات"، ومنذ العام 2003، ضاربا عرض الحائط بالعمل في أي مشروع وطني مدني، بعيداً عن الطائفية والشوفينية المقيتة.. وبعد التي واللتيا، يأتي اليوم ليمارس سياسات العزل بأسلوب الأسوار والخنادق والجدران بين سكان العراق.. متى يدرك هؤلاء أن ممارسات العصور الوسطى في بناء الأسوار حول المدن وحفر الخنادق حول القلاع لم تعد تجدي نفعاً اليوم، فمن له القدرة على إرسال السيارات المفخخة ستكون له القدرة على إرسال الطائرات المفخخة والهاونات، كما يجري في الموصل بين الساحلين الأيمن المحتل والأيسر المحرّر (!).
لا يمكن للجيش أن يبدأ بهذا "المشروع" وينطلق في تنفيذه، من دون مباركة النظام السياسي.. وهو مشروعٌ سينتهي إلى الفشل، حسب ما يقوله خبراء عسكريون وأمنيون، وهو مثار شكوك
كل هذه المحاولات التي تتبع سياسات العزل والتقطيع للأرض بعد سياسات التهميش والإقصاء للإنسان وسحق المدن، وهي التي اتبعها النظام الحاكم، لم ولن تنفع أبداً، ما دام هذا "النظام مستمرا في غيّه، ولم يزل يتبع سياساته نفسها في تقطيع أوصال العراق، من دون التفكير بأساليب تغيير نهجه ورؤيته للعراق والعراقيين من منظار المحاصصة الطائفية. إن السياسات الطائفية التي يتبعها النظام الحاكم، وهو يصر إصراراً غبياً على اتباعها، ويفرّق على هذا الأساس بين العراقيين، ويقيم تمايزاتٍ فاضحة على هذا الأساس بين العراقيين.
لا يمكن العراق أن يتخلص من الإرهاب والمفخّخات والدواعش والقوى الشريرة إلا بغلق كل أبوابه والسيطرة بإحكام على كلّ حدوده البرية مع الآخرين، وخصوصاً حدوده الشرقية والغربية، أي مع إيران وسورية. يدخل الآلاف العراق يومياً من دون علم السلطات العراقية، ومن دون أن يعرف أحد ما هويتهم، وما الذي يفعله هؤلاء في كلّ أعماق العراق. السر في نجاح إقليم كردستان في توفير الأمن والاستقرار فيه يأتي نتيجة ضبط السلطات الكردية الحدود والمداخل البرية مع كلّ ما يحيط كردستان.. والمتمنى أن يجرّب العراقيون مرّة واحدة فقط ضبط الحدود الطويلة مع إيران (أكثر من 1200 كلم)، وضبط الحدود المستباحة مع سورية، فضلاً عن تحجيم دور إيران في العراق، وكسر شوكة تدخلاتها السافرة.. وسيرى كلّ العراقيين ما سيحدث في عموم العراق من هدوء وأمن واستقرار، وسيتيح ذلك أمام القوى السياسية العراقية أن تعمل بعيداً عن أية أجندة مفروضة.. أتحدّى الحكومة العراقية أن تقوم بتحجيم أدوار الآخرين في العراق. يعتمد النظام السياسي في العراق أجندة الآخرين من أجل أن يبقى في حكم البلاد.. وسوف يأخذنا إلى انتكاسات ومصائب لا حدود لها، إن بقيَ يمارس هذا "النهج" القائم على التمايز والفصل والعزل. فهل أدرك كلّ العراقيين حجم الكارثة التي يقودهم إليها هذا النظام الفاسد؟