بينما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعتبره العائق الأكبر أمام تحقيق ما يأمله من انتعاش للاقتصاد، ولا يتوقف عن انتقاده بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، فاجأ جيرومي باول، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، الأوساط الاقتصادية والشعب والرئيس، باتخاذه مجموعة من القرارات التي كان لها الدور الأكبر في إنقاذ الاقتصاد الأكبر في العالم من الانهيار، أو السقوط في وحل أزمة مالية جديدة، على غرار ما حدث في أزمة 2008 - 2009.
وبعد شهور طويلة من تجاهله ضغوط الرئيس الأميركي لتخفيض معدلات الفائدة، ومع أول ضربة من فيروس كورونا لأسواق الأسهم والسندات الأميركية، خلال الأسبوع الثاني من شهر مارس / آذار الماضي، لم ينتظر باول يوم الأربعاء المحدد لاتخاذ قرار بشأن معدلات الفائدة على أموال المصرف الفيدرالي، وسارع باتخاذ القرار خلال عطلة نهاية الأسبوع الذي ظهر فيه بوضوح أن الفيروس القاتل لن يمر مرور الكرام على الأسواق الأميركية، وأن تبعاته ستكون مما يستلزم التدخل بكل قوة، وفي أسرع وقت، قبل فوات الأوان.
لم يتباطأ باول وسارع باتخاذ قرار بتخفيض معدلات الفائدة إلى نطاق 0% - 0.25%، وهو السعر الأدنى منذ عام 2015، وأعلن استخدام كافة ما لديه من أدوات وصلاحيات لإنقاذ الاقتصاد الأميركي في مواجهة الوباء، فأعلن في نفس يوم تخفيض معدلات الفائدة تخصيص ما يقرب من 700 مليار دولار لما أطلق عليه اسم التيسير الكمي، وهو ما يعني من الناحية العملية أن التخفيض وصل بمعدلات الفائدة لأقل من صفر بالمائة.
امتدت جهود البنك الفيدرالي تحت قيادة باول لتشمل شراء كميات ضخمة من السندات والأسهم الأميركية، في خطوة تستهدف تخفيض احتمالات تراجع الطلب عليها وانخفاض أسعارها، مرة أخرى هرباً من كابوس تكرار الأزمة المالية العالمية، لتتضاعف ميزانية البنك، التي كانت الأكبر في العالم قبل الإجراءات الأخيرة، وتتجاوز عشرة تريليونات دولار.
اشترى البنك المركزي الأوراق التجارية قصيرة الأجل التي تصدرها البنوك، ومد خطوط الائتمان للمتعاملين الرئيسيين في سوق السندات وصناديق الاستثمار في أسواق المال، كما مد برامج الإقراض المقدمة للبنوك الأميركية، والمخصصة لإقراض ملايين الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، لتعويضها عن انخفاض إيراداتها خلال فترة احتدام الأزمة.
ومرة أخرى، عاد البنك الفيدرالي ليقرر مد الفترة الزمنية الخاصة بتلك البرامج، وعددها تسعة، حتى نهاية العام الحالي على أقل تقدير، وخفف من متطلبات رأس المال والعديد من القيود الأخرى، ثم سمح للبنوك عند التعرض لأزمات باستخدام نسبة من السيولة التي ألزمها بها.
ولم يقصر البنك الفيدرالي إجراءاته على السوق المحلية، وإنما تصرف باعتباره مسؤولاً عن كافة أسواق المال بالدول الكبرى، فخصص مبالغ كبيرة لإقراضها، وخفض تكلفة إقراضها. وبعد كل تلك الخطوات، أعلن مسؤولون بالبنك أن هناك المزيد من الإجراءات التي سيتم إعلانها قبل نهاية الشهر الجاري.
وفي مصر، كان للبنك المركزي وجهة نظر أخرى، ظهرت في محدودية الدور الذي لعبه خلال أزمة وباء كورونا، والذي اقتصر على تخفيض معدلات الفائدة بثلاثمائة نقطة أساس (3%)، لمساعدة المؤسسات التي تعاني من تراجع إيراداتها على تخفيض تكلفة اقتراضها.
منح البنك المركزي المصري المقترضين الفرصة لتأجيل سداد بعض الأقساط الواجبة، إلا أنه لم يعفهم من دفع الفوائد المترتبة على هذا التأجيل. ألغى البنك المركزي عمولات التحويل بين البنوك وعمولات استخدام ماكينات الصرف غير التابعة لبنك العميل لمدة ستة أشهر تنتهي هذا الأسبوع.
استجاب البنك المركزي المصري لنصائح رجال الأعمال الذين طالبوه بترك سعر الجنيه ليتم تحديده وفقاً لقوى العرض والطلب وقت احتدام الأزمة وهروب مستثمري أدوات الدين بالعملة المحلية.
وترتب على ذلك فقدان الجنيه المصري 3% من قيمته في غضون أيام قليلة، وعودة السوق السوداء بسعر للجنيه يقل بنسبة 2% عن سعر البنك، قبل أن يتم استدعاء المحافظ لمقابلة الرئيس، ليخرج بعدها وقد اتخذ "قرار" رفع قيمة الجنيه مرة أخرى، في انتظار حصول مصر على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وهو ما تم بالفعل في الأسابيع التالية.
فضل المركزي المصري الإبقاء على معدلات الفائدة عند مستوياتها المرتفعة بين 9.25% - 10.25% أملاً في استعادة استثمارات الأموال الساخنة لتعويض ما تم فقدانه من احتياطي النقد الأجنبي خلال الشهور الماضية، رغم ما تتحمله ميزانية الدولة من أعباء خدمة الدين، حتى أصبحت معدلات الفائدة على الجنيه المصري من أعلى المعدلات في العالم، خاصة بعد إدخال عامل التضخم في الاعتبار، أو احتساب العائد بالدولار، وفقاً لوكالة بلومبيرغ.
أثبت البنك الفيدرالي الأميركي أنه مؤسسة قوية ومرنة ومسؤولة، يمكن الاعتماد عليه في الظروف الصعبة، خاصة في ما يخص إدراكه لمهامه الرئيسية، والتي يمكن حصرها في توفير المناخ المناسب لتحقيق معدلات نمو اقتصادي حقيقي، مع الحفاظ على مستويات الأسعار، كما تخفيض معدلات البطالة إلى أدنى مستوى ممكن.
أما البنك المركزي المصري فلم يعبأ بارتفاع معدلات البطالة وتراجع معدلات النمو وارتفاع الأسعار، وبدا وكأن همه الوحيد هو الحفاظ على سعر الجنيه مقابل الدولار، حتى لو تم ذلك بصورة مصطنعة.
اعتمد البنك المركزي المصري على ما اقترضه من صندوق النقد الدولي ومن سوق السندات الدولية كما بعض المؤسسات المالية الأخرى لمقابلة الطلب المتزايد على الدولار والحفاظ على الجنيه القوي، مع علمه أن هذه الأساليب لن تحل مشكلة تراجع إيرادات الدولة بالعملة الأجنبية خلال الشهور القادمة!
أكدت قرارات المركزي المصري، ما اتخذ منها وما لم يتخذ، أن همه الأول هو الحفاظ على صورة النظام، وتزيين نوافذه بالورود، مع تجاهل تام لما فرضته ظروف الأزمة من مشكلات بطالة وارتفاع أسعار، وفقدان الدخل في بعض الأحيان، للمواطنين، فنجحت العملية ومات المواطن بعد أن داهمته قرارات الحكومة برفع الأسعار وفرض الرسوم الجديدة عليه، وليستمر مسلسل معاناة المصريين، بينما يشيد صندوق النقد الدولي بنجاح تجربة الإصلاح الاقتصادي في مصر.