يأتي كِتاب الفنان المغربي بنيونس عميروش "قراءات في التصوير المغربي المعاصر" في ثلاثة محاور بحثية هي: "جماعة 65: بين الحضور والاسترجاع"، "محمد القاسمي: عن الكتابة والتشكيل الفضائي" و"العلامة وإبدالاتها الأيقونية".
تشير مقدّمة الكتاب، التي وضعها المسرحي حسن المنيعي، إلى صعوبة الوقوف على تاريخ للفن البصري المغربي، بما هو مدارس واتجاهات تعكس خصائصه وأبعاده الثقافية والمحلية، وذلك بالنظر إلى الدينامية التي تميّزه.
لكن الفن المغربي كان موضوع عدد من الكتابات التي رامت مقاربته، إلا أن تفرُّق معظمها في الصحف نتجت عنه صعوبة ونقص في متابعته بشكل منهجي. من هنا، تأتي أهمية هذا المقترح الذي يتقدّم به الباحث عميروش للقارئ المغربي والعربي على حد سواء، لكونه يكشف تجارب فنية ويضع اليد على كل ما تقوم عليه من أشكال هندسية تعبيرية وألوان وأيقونات ورموز.
يبحث الكِتاب (منشورات "اتحاد كتاب المغرب") في تجذر متن التشكيل المغربي المعاصر في الحقل والجدل الثقافيين، باعتباره انعكاساً للوعي الاجتماعي والتاريخي والفني. هذا الانعكاس الذي جاء نتيجة تحويل التقاليد البصرية المحلية من الهامش إلى المركز، بعد أن دُفع بها سابقاً من المركز إلى الهامش، أي تهميش الثقافة الشعبية وضمنها مختلف أوجه الصناعة التقليدية، وإحلال التقاليد البصرية الأوروبية محلّها.
بعد الاستقلال، كما يبيّن الباحث، وجد المغرب نفسه في منأى عن الفنان القابع في مرسمه، المنقاد وراء هواجسه الذاتية. وفي المقابل، كان انحيازه واضحاً نحو ما يبرز ويُعلي من شأن ومن طبيعة ذلك الفنان المنفتح، الذي يملك القدرة على إنتاج العمل الفني وخلق خطاب ثقافي حوله، بناء على رؤية بانورامية قائمة على وعي فني وثقافي واجتماعي في ذات الوقت.
وفي هذا الإطار، يستشهد الباحث بثلاثة أسماء كان لأصحابها دور بارز ومحوري في التأسيس لبعض ملامح وأسئلة وقضايا الفن التشكيلي المغربي المعاصر، ممن انخرطوا في تعبيد الطريق أمام انتظارات وإكراهات الأجيال المتلاحقة، يتعلق الأمر بالفنانين الراحلين محمد شبعة وفريد بلكاهية ثم الفنان محمد المليحي، الذين شكلوا، إلى جانب آخرين، النواة الصلبة لما سيعرف، ابتداء من مطلع ستينيات القرن العشرين، بـ "جماعة 65" أو "مجموعة فناني الدار البيضاء".
راهنت "جماعة 65" بعد تنحية النماذج الموروثة عن الفترة الاستعمارية الفرنسية، على إعطاء طابع خاص للممارسة التشكيلية في المغرب، واستثمروا في مختلف التقاطعات التي تلتقي عندها، سواء تعلق الأمر بالفن الأفريقي أو الإسلامي الأندلسي، أو تلك المصنوعات الأمازيغية التقليدية التي تزخر بها المدن كما البوادي على حد سواء.
ينتقل عميروش إلى مقاربة تجربة الفنان والشاعر الراحل محمد القاسمي، من خلال محطات ومعارض، أقامها هذا الفنان في فترات متفرقة من حياته. يتعلق الأمر هنا بمعارض "شهرزاد والحرب" (1990) "كهف الأزمنة الآتية" (1993) "من الصحراء إلى الأطلسي" (1995)، إلى جانب مغامرات هذا الفنان في إخراج العمل الفني من صالات العرض إلى الفضاء العام، مثلما حصل في معرضيه "الأعلام (الرايات )" (1985)، أو "الحايك" (1989)، إضافة إلى إسهامه النقدي في ما يرتبط بتقديم رؤاه وتصوّراته عن فلسفته وعوالمه الفنية، وذلك بناء على اقتناع بأن التشكيل هو نص تصويري.
وفي هذا الإطار، يشير الباحث إلى أن القاسمي ظل يمثل نموذج الفنان العربي المعاصر، الذي لا يستطيع أن يتنفّس خارج الحركة، كما ظل منفتحاً على مستجدّات التجارب الفنية العالمية، لصيقاً بكل مجالات الأسئلة الثقافية، مناضلاً نموذجياً في تكريس الحداثة في الفن المغربي والعربي. بل لم يكتف بالحفر في منجم اللون بالفرشاة والقلم فحسب، بل الحفر بجسده.