في لقائه "العربي الجديد"، يتحدّث المخرج السينمائيّ اللبناني بهيج حجيج عن "غود مورنينغ"، فيلمه الروائي الطويل الثالث، بعد "زنّار النار" (2004) و"شتّي يا دني" (2010): يوميات عجوزين يمضيان بعض الوقت اليومي معًا في مقهى بيروتي. يتأمّلان الشارع والناس والتبدّلات الحاصلة في المدينة. يتذكّران الماضي. يحلاّن الكلمات المتقاطعة. يتابعان أخبار البلد والعالم عبر شاشة تلفزيونية. أحدهما طبيب (غبريال يمين) تتمتّع شخصيته بالهدوء والاتّزان، والثاني جنرال (عادل شاهين) حيوي، يريد إلقاء نكات مختلفة، وإنْ لم تكن مُضحكة، لأنه عانى كثيرًا في حياته.
فيلمٌ شفّاف وسلس، يتابع نهاية الأشياء وخراب الراهن، بصوتي عجوزين يقولان صورة أخرى لعيشٍ وعلاقات وانفعالات، في مدينة متبدّلة بسرعة مؤذية. لكن العجوزين سيكونان في المقهى نفسه مع صحافي شاب (رودريغ سليمان) يُغرم بالنادلة (مايا داغر)، ويتابع يومياتهما، ويُشاركهما بعض أفراحهما وآلامهما وقلقهما.
فيلمٌ شفّاف وسلس، يتابع نهاية الأشياء وخراب الراهن، بصوتي عجوزين يقولان صورة أخرى لعيشٍ وعلاقات وانفعالات، في مدينة متبدّلة بسرعة مؤذية. لكن العجوزين سيكونان في المقهى نفسه مع صحافي شاب (رودريغ سليمان) يُغرم بالنادلة (مايا داغر)، ويتابع يومياتهما، ويُشاركهما بعض أفراحهما وآلامهما وقلقهما.
(*) في فيلمك الجديد "غود مورنينغ"، تنتقل إلى فضاء آخر مختلف تمامًا عن ذاك الموجود في فيلميك السابقين، "زنّار النار" و"شتّي يا دني". فمن الحرب الأهلية اللبنانية، الحاضرة فيهما بشكلين يختلف أحدهما عن الآخر (مناخ الحرب ويومياتها وخرابها في الأول، وتداعياتها وتأثيراتها اللاحقة على نهايتها المزعومة في الثاني)، إلى أجواء شفّافة تنقل شيئًا من أحوال أناس يُقيمون في راهنٍ لبناني مرتبك ومُفكّك، عبر عجوزين يراقبان وينتبهان، ويمضيان وقتًا في تأمّل الآني وتذكّر الماضي.
ـ هناك عوامل عديدة مؤدّية إلى هذا الانتقال. مرّت 7 أعوام على "شتّي يا دني"، كان لديّ خلالها عملان، أحدهما عن تداعيات انهيار المجتمع اللبناني المتأتي من تداعيات الحرب اللبنانية، على مستوى القيم الاجتماعية؛ والآخر عن حقبة تاريخية في لبنان. لكن، كالعادة، تصطدم أفلامنا بحائطٍ كبير هو الإنتاج. فمع غياب صندوق دعم جدّي للسينما اللبنانية، لن تكون هناك قدرة على تأمين تمويل لأفلامنا بسهولة، وأقصد بـ"أفلامنا" ما أفعله أنا وما يفعله مخرجون آخرون أيضًا. سيناريوهات جيّدة عديدة، لي ولغيري من المخرجين، تصطدم بهذا الحائط، فتوضع جانبًا.
7 أعوام مرّت منذ انتهائي من "شتّي يا دني". هذه ليست سهلة. العالم يتغيّر في عامين اثنين، فما بالك بـ7 أعوام، كنتُ خلالها مهمومًا بفكرة فيلم يحاكي الواقع الحالي الذي نعيشه اليوم.
ثمّ عرض عليّ الروائي اللبناني رشيد الضعيف قصّة له. قصة حوارية أو نص حواري يحاكي المرحلة التي نعيشها اليوم. أصالة النصّ كامنةٌ في أنه يحاكي الواقع من خلال عجوزين اثنين. وبالتالي، فإنّ هناك إمكانية إنتاجٍ لهذا المشروع بميزانية متواضعة، فهو يرتكز على شخصيّتين رئيسيّتين وشخصيّتين مساعدتين. ثم أنّ القصّة كلّها تدور في مكانٍ واحد.
هذا العاملان (محاكاة الواقع من خلال عجوزين اثنين وإمكانية الإنتاج) حرّضاني على تحقيق المشروع كمخرج، وكمنتج أيضًا، فأنا استثمرت في المشروع إنتاجيًا، قبل مشاركة منتِجَين آخرين، هما سام لحود وديغول عيد، أثناء تطوّر العمل.
هذا سببٌ مباشر للانتقال من عالمٍ إلى آخر في مساري السينمائي. الحظّ حالفني لرغبتي في عمل يُحاكي الواقع، فجاءني هذا النص الحواري.
اقــرأ أيضاً
(*) هذه ليست المرة الأولى التي تتعاون فيها مع رشيد الضعيف. روايته "المستبدّ" (1983) أساس فيلمك الأول "زنّار النار".
ـ هناك صداقة تجمعني برشيد الضعيف منذ زمن بعيد. تجربتي معه عائدة إلى عام 2002. بعد سيناريوهات كثيرة لم أتمكّن من تحقيق أي واحد منها، وأفلام وثائقية طويلة ومتوسطة أنجزتها في فترات مختلفة، قرأتُ "المستبدّ" و"فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم" (1986)، فقرّرت تحقيق فيلمٍ، يكون الاعتماد الأساسي فيه على "المستبدّ". لكن، أثناء كتابتي السيناريو، أدخلت شخصية موجودة في "فسحة مستهدفة...". يومها، قال لي رشيد: "أنا كتبتُ روايتي. أنتَ اشتغِلْ فيلمَك. افعلْ ما تريد".
هكذا أنجزتُ "زنّار النار". ظروف إنتاجه صعبة. لم ينجح في شبّاك التذاكر أبدًا، فهو يتناول الحرب اللبنانية من داخلها، من زواريبها ومتاهاتها ومناخها وعبثيتها. هذه كانت قوّته، كما قيل فيه مرارًا. لكن ما فاجأني فعليًا هو أن الفيلم نفسه يُدرَّس في الجامعة، ويُعرض أمام طلابٍ لديهم شغفٌ بمعرفة الحرب وماهيتها. "زنّار النار" يتعامل مع معاناة الناس من داخل المعاناة، ولا يستعرض الحرب بأسلوب الأكشن والتشويق.
في هذه التجربة، لم تكن هناك أي علاقة لرشيد بالسيناريو، فهو منحني حرية مطلقة في التعامل مع روايته.
ثم كان "شتّي يا دني" (2010)، الذي يتناول تداعيات الحرب لا الحرب بحدّ ذاتها. لكنه كان عملي أنا، بمساهمة إيمان حميدان وسام بردويل.
(*) مع "غود مورنينغ"، التقيْتَ رشيد الضعيف ثانيةً.
ـ التقيْتُه ثانيةً، نعم. لكن العمل معه هذه المرة مختلفٌ عن السابق. هو الآن متورّط منذ البداية، من القصّة ـ التي كتبها ولم ينشرها لرغبته في تقديمها كعملٍ مشهديّ ـ إلى كتابة السيناريو. تجربة خاصة، لكنها مثيرة ومهمّة: كيف يكون التعامل بين مخرج وكاتب بشكل حميميّ. أستطيع التحدّث كثيرًا عن هذا التعامل، لكن في النهاية وصلنا إلى نتيجة أن أحدنا يُكمِل الآخر: أنا برؤيتي الإخراجية والبناء الفيلمي والتركيبة الدرامية والرؤية السينمائية، ورشيد من ناحية تطوير الكتابة كمَشَاهد وحوارات.
أنا من محبّذي كتابة السيناريو دائمًا مع روائي أو مُشارك، أو مع شخصين اثنين آخرين في الوقت نفسه. لكن على الأقل أميل إلى التعاون مع شخص واحد. لا مشكلة عندي في هذا المجال، على نقيض مخرجين آخرين، كلّ واحد منهم يكتب السيناريو الخاص به وحده، ويصنع فيلمه من الألف إلى الياء وحده. بعض هذه الأفلام يشكو من ضعفٍ في كتابة السيناريو.
(*) في روايات رشيد الضعيف، هناك نَفَسٌ سينمائي في سرد حكاية أو التقاط لحظة أو تناول حالة.
ـ بالتأكيد. رشيد كتب هذه القصّة بعينٍ سينمائية لأنها مبنية على ملاحظة أناس عديدين، مُسنّين وغير مُسنّين، وعلى الاستماع إليهم، فهو من روّاد المقاهي أيضًا، ويعرف هذا العالم وتفاصيله. هناك طبعًا إضافات منه على الملاحظة والاستماع. هذا تراه في روايات سابقة له فعلاً، لأن لديه مشهدية في كتابته الروائية. رواياته بعيدة عن البلاغة التي نعرفها وقريبة من الناس ومن حميمياتهم وخصوصياتهم، وهذا ما يُعجبني فيها. قوّة الفن، والسينما طبعًا، تكمن في خصوصية الدخول إلى التفاصيل لا في طرح أفكار عامة.
اقــرأ أيضاً
(*) لكن، كيف كان العمل معه؟
ـ لم يكن سهلاً. اختلفنا كثيرًا على نقاط عديدة. كنا نمضي 3 أو 4 أيام في نقاشٍ حول مشهدٍ واحد مُثير لإشكاليٍة ما بيننا. هناك مشاهد أضفتها أنا أثناء التصوير، لم تكن موجودة في القصّة. مثلاً: وقوع الطبيب (غبريال يمين) عن كرسيّه عند وقوفه. هذا لم يكن موجودًا. هذا نوع من المَشاهد يُشكّل تحفيزًا للمُشاهد على متابعة الفيلم، وتُعتَبر قفزة في سياق دراما الفيلم. حوارات طويلة أجريناها حول مسائل كهذه. كان هناك صراع، لكنه مُثير ومُثمر في النهاية، لأن كلّ شيء كان يصبّ في مصلحة الفيلم.
(*) حسنًا، لننتقل إلى "داخل المقهى"، أي إلى هذا المكان الواحد الذي تجري فيه أحداث "غود مورنينغ". كيف تمّ تركيب الفيلم على أساسه؟
ـ الشرط الأساسي الذي وضعته على نفسي لإنجاز هذا المشروع مرتبط بضرورة العثور على مقهى أو صالة أو ديكور معيّن، يرتفع عن الأرض طابقًا واحدًا، وله واجهة عريضة تُطلّ على شارع من شوارع بيروت. هذا أساسي جدًا بالنسبة إليّ. فلسياق العمل كلّه 3 مستويات: المستوى الأساسي هو المقهى ومساحته؛ والمستوى الثاني هو أن نرى الخارج من داخل المقهى دائمًا؛ والمستوى الثالث هو الشاشة الصغيرة المعلّقة على الحائط، التي تبثّ أخبار لبنان والعالم، وملاحق إخبارية بخصوص انفجارات وعمليات إرهابية في الضاحية الجنوبية لبيروت وباريس.
هناك 4 شخصيات (اثنتان أساسيتان واثنتان مساعدتان) موجودة في المقهى بشكل يومي: الطبيب والجنرال والصحافي الشاب والنادلة. لكن، هناك شخصية خامسة أيضًا هي الكاميرا، لأنها موجودة دائمًا في المقهى ولا تخرج منه أبدًا. الكاميرا تعكس تقريبًا وجهة نظر العجوزين، خاصةً عندما نرى الخارج وما يحدث فيه. أودّ هنا لفت الانتباه إلى أن أغلب المَشاهد الخارجية التي نراها من داخل المقهى ملتقطة من المسافة نفسها للمجال البصري، أي للعين البشرية.
إذًا، بات كلّ شيء واضحًا ومحدّدًا: الخارج والداخل والشاشة، وهذه كلّها مساحة المقهى، مع امتدادٍ على الخارج (العين البشرية)، وامتداد افتراضي عبر شاشة تلفزيونية صغيرة مفتوحة على أحداث لبنان والعالم. هذا المقهى/ المكان كان ملهى سابقًا وهو مهجور حاليًا، وكان ملائمًا جدّا لما أرغب فيه تمامًا. استأجرناه، وأعدنا تركيب ديكور المقهى كاملاً. كان مقصودًا أن يُقدِّم الديكور مقهىً من مقاهي بيروت اليوم وليس مقهى بيروتيًا قديمًا، مع أراجيل وطاولات زهر كما في أفلام أخرى. أنا لستُ من محبّذي الفولكلور في السينما، ولا الصُور النمطية. ربما يكون المقهى قديمًا بعض الشيء، لكنه بيروتي راهن. وهو شبه خاو، فأنا أشعر أن هذه المقاهي خاوية، وأنها ستُغلق أبوابها. هذا تعبير يقوله أحدهم في سياق الفيلم. نهاية مساحة. المقهى ـ الذي يأتي الناس إليه اليوم للتحدّث مع بعضهم بعضاً ـ يندثر. نهاية الأشياء.
(*) أظنّ أن تصويرًا سينمائيًا داخل مساحة محدّدة وصغيرة كهذا المقهى صعبٌ.
ـ بالتأكيد، فالعملية الإخراجية محتاجة إلى حِرفية وتقنية من ناحية إضاءة المكان وتحريك الكاميرا في مساحة محدودة جدًا. أردتُ نورًا خاصًّا بالعمل، وهذا من صنيع مدير التصوير ميلاد طوق، الذي ابتكر طريقة لإضاءة المكان. اشتغلنا معًا على ضوء المقهى الذي هو ضوء الفيلم أيضًا، واعتمدنا على الضوء الطبيعي.
اقــرأ أيضاً
(*) ماذا عن الشخصيات، خصوصًا شخصيتي الطبيب (غبريال يمين) والجنرال (عادل شاهين). أظنّ أنه لم يكن سهلاً عليك اختيار ممثلين اثنين يتمكّنان من تقديم الشخصيتين كما هما تمامًا في الحياة اليومية لعجوزين اثنين. أتذكّر أنك بحثت كثيرًا عنهما.
ـ كنتُ قلقًا جدًا أثناء تحضير المشروع بخصوص الممثلين الاثنين اللذين سيؤدّيان الشخصيتين الأساسيتين. منذ البداية، كنتُ أرغب في العثور عليهما في وقت واحد، لأن الشخصيتين تُشكلان معًا "ديو"، وهما متفاهمتان إحداهما مع الأخرى ولو بالإشارة. هما صديقان منذ زمن بعيد، ولديهما "كلمات ـ مفاتيح" بينهما تختصر أشياء كثيرة. لذا، كنتُ أبحث عن ممثلين اثنين يمنحاني شعورًا بتوافقهما معًا ويتلاءمان سويًا مع شخصيّتيهما.
استعرضتُ ممثلين مُسنّين بعض الشيء ومعروفين. هم قلّة، لكنهم موجودون. لم أقتنع بأي واحد منهم. تردّدت كثيرًا وفكّرت كثيرًا بالخيارات المتاحة لي. حينها، شاهدتُ "صبمارين"، وهو فيلم قصير للّبنانية مونيا عقل، يظهر فيه عادل شاهين مؤدّيًا دورًا صغيرًا. أعرف عادل منذ زمن طويل، أيام "معهد الفنون الجميلة" (الجامعة اللبنانية)، وبيننا مودة وصداقة. لكنّه، خصوصًا بعد تقاعده، بات شبه منعزل، ولم ينخرط في العمل السينمائي أبدًا، والمسرحي أيضًا. ربما قرار منه أن يبتعد عن هذا كلّه. ربما لم يتصل به أحد سابقًا. لا أعرف. مشاهدتي إياه في هذا الفيلم القصير كانت صدمة إيجابية. اتصلت به، وعرضت عليه التعاون معي، والتقينا، وقرأ السيناريو. أردتُ عادل شاهين، لأن شخصية الجنرال في "غود مورنينغ" تشبهه كثيرًا، بحركاتها وحيويتها ومُزاحِها، وبروح الفكاهة فيها، وبعفويتها. هذه طبيعة عادل شاهين. شعرتُ أن المسافة بينه وبين شخصية الجنرال صغيرة جدًا، فلهما حركة الجسد نفسها وطريقة الكلام نفسها.
موافقة عادل شاهين على الدور أسعدتني جدًا. لكن وفاته مؤلمة لي. مُحزن أنه فارق الحياة بعد انتهاء الفيلم.
(*) وماذا عن شخصية الطبيب؟
ـ العثور على ممثل للشخصية الثانية صعبٌ. بعد عادل شاهين، كنتُ أريد ممثلاً قريبًا جدًا من الطبيب، الذي يتمتّع بشخصية متّزنة وهادئة، تكون متناقضة مع شخصية الجنرال، أو معاكسة لها. غبريال يمين صديق قديم أيضًا. فكّرت به، وانتبهت إلى أن بعض الماكياج كفيلٌ بجعله يتلاءم مع شكل الشخصية وعمرها. لغبريال مهنيّة كبيرة ومتينة في التمثيل. قادرٌ هو على تأدية شخصية أكبر منه سنًا بنحو 20 أو 25 عامًا.
المفاجأة السارّة لي حدثت في أول اجتماع بين عادل وغبريال، وكنت معهما مُراقبًا. كان الاجتماع مُهمّا. بعد 10 دقائق فقط من الكلام بينهما من دون كاميرا ولا "كاستنغ"، باتا منسجِمَين أحدهما مع الآخر، كأنهما صديقان منذ سنين طويلة.
(*) هناك أيضًا رودريغ سليمان في دور الصحافي الشاب ومايا داغر في دور النادلة.
ـ رودريغ سليمان محترف ومعروف. يُعجبني هدوؤه. يختزل الأمور بتمثيله، معتمدًا على إشارات ونظرات بعيدًا عن التصنّع والتكلّف. عمره مناسب لشخصية الصحافي الشاب (35 ـ 40 عامًا). كنتُ أريد نادلة خفِرة، تنتمي اجتماعيًا إلى طبقة متوسطة عادية، ولها سحر ما. نادلة تضيء بوجودها المقهى، وتكون العنصر الشبابي الأصغر سنًّا من الجميع، ويكون حضورها رائعًا وممتعًا. وجدت هذا كلّه في مايا داغر، الطالبة في "معهد الفنون".
(*) كيف تعاملت معهم، قبل التصوير وأثناء العمل؟
ـ أولاً، لا أستسيغ تعبير "إدارة الممثل"، وأفضّل عليه "توجيه الممثل". أي أني أوجّهه بطريقة الحكي وحركة الجسم واليدين والنظرة إلخ. طلبتُ من الجميع الالتزام بالحوار لأنه مشغول بدقّة، لكني تركت لهم مساحة صغيرة للارتجال. في بداية التصوير، كانوا يخرجون على الشخصيات والنص والحوارات، لكن لاحقًا انخرطوا جميعهم في الأدوار، وكانوا يؤدّون المطلوب منهم، مع بعض الارتجال المقبول، بطريقة سلسة ومهنية، فكنّا غالبًا ما نُصوّر المَشاهد من دون تكرار كثير. عادل شاهين وغبريال يمين لا يُمثّلان الدورين بل يعيشانهما. التناغم بينهما جميل، وهو ركيزة الفيلم.
أخبرني عادل أنه قرأ السيناريو أكثر من 50 مرّة، لأنه أراد أن يهضم المَشاهد والحوارات. عرف كلّ شيء منذ البداية.
اقــرأ أيضاً
(*) أودّ التوقّف قليلاً عند عادل شاهين. هناك مشكلة صغيرة في نبرة صوته، فهي غير متبدّلة أبدًا، ولها رنّة مُتعِبة قليلاً على السمع لأنها تبقى على المستوى نفسه طوال الوقت. كأنّ في نبرته رتابة. غبريال مثلاً يُجيد اللعب بنبرته وصوته، رغم أنهما يبقيان كما هما تقريبًا.
ـ ربما صحيح ما تقوله. ربما. لكن، لا تنسى أن هذا هو أول دور سينمائي كبير لعادل. أول فيلم يمثّل فيه. كان يتعب. الحرارة المرتفعة أثناء التصوير كانت تُزعجه وتُثقل عليه. ربما تأثّرت مَشَاهد معينة بحالته هو كشخص مُتعَب، فهو يبلغ 76 عامًا، ويمرّ في حالة تعب. لكنّي تركت صوته ورتابة صوته كما هما. وجدت أن لا بأس بذلك. لم تُزعجني نبرة صوته، ولم تكن مشكلة لي. تركتها كما هي، خصوصًا أن الفيلمَ حواريٌّ.
(*) هناك أمر آخر: الفواصل بين المَشَاهد. بدَتْ لي ثقيلة هي الأخرى، وغير مريحة في عملية السرد. فالجمل المبثوثة على الشاشة بدت لي كأنها تُخبر المُشاهد ما سيراه ويكتشفه ويعرفه. لكن في النهاية، أعرف أن هذا خيارك كمخرج.
ـ تركت الفواصل كما هي ثم حذفتها وأعدتها مرّات عديدة. في المونتاج (حسين يونس)، تردّدت كثيرًا بين إبقائها وحذفها. ليس لأني غير مقتنع، ففي النهاية هذا فيلم لا حبكة له، ولا توجد وصلة درامية بين المَشَاهد، فأنا لا أروي حكاية. رغم هذا، هناك تصاعد درامي من فصل إلى آخر. هناك تطوّر درامي. شعرتُ بحاجة إلى التقطيع بين يوم وآخر، فالأيام ليست متتالية، بل هناك "أيام". شعرتُ بحاجة إلى ما يُنبِّه الجمهور إلى الفيلم بين وقتٍ وآخر. بحاجة إلى إيقاظ حشريته.
كان يُمكن ترك الأسود يفصل بين مقطع وآخر، لكن الأسود ربما يُزيد من رتابة المناخ اليومي للعجوزين. الكتابة (في الفواصل بين المقاطع) بالطريقة المكتوبة بها إشارة تساعد الجمهور على التنبّه. هناك من سيحبّ هذا، ومن لن يحبّ. لكن، كما قلتَ أنتَ: هذا خياري كمخرج.
(*) وسام حجيج مؤلّف موسيقى الفيلم. هو أيضًا تعاون معك سابقًا، إذْ ألّف موسيقى "شتّي يا دني".
ـ صحيح. هو مؤلّف موسيقي للأفلام في فرنسا. ألّف مقطوعات موسيقية لأفلام وثائقية وقصيرة، كما وضع موسيقى "ضربة في الرأس" للمغربي هشام العسري. لديه ثقافة سينمائية، ومنخرط في هذا المجال. هناك موسيقيون بارعون، لكنهم لا يعرفون صنع موسيقى لفيلم أو لصورة.
تحدّثت إلى وسام وأخبرته عن الفيلم بشكل عام. أعطيته إشارات إلى ما أريده. قلت له: "في الفيلم 4 شخصيات وأريد 4 آلات موسيقية والباقي عليك". هو اختار الآلات وألّف الموسيقى بعد قراءة السيناريو. شغل الموسيقى يُرافق التصوير والمونتاج. أنا لا أضع موسيقى في أفلامي من البداية إلى النهاية. استعملها فقط في مشاهد معيّنة، وأريدها داخل إيقاع الفيلم وفي أعماق مناخه وأجوائه. أحيانًا، تحمل الموسيقى بعض المَشاهد وتنقلها من مكان إلى آخر. بالنسبة إليّ، الموسيقى في الفيلم ليست تزيينية بل جمالية وعملية.
وسام وأنا قريبان أحدنا من الآخر. هو ابني. ربما لهذا تمكّن من وضع موسيقى ارتحتُ إليها كثيرًا. بعض الذين استمعوا إليها أخبروني أنهم تذوّقوها.
ـ هناك عوامل عديدة مؤدّية إلى هذا الانتقال. مرّت 7 أعوام على "شتّي يا دني"، كان لديّ خلالها عملان، أحدهما عن تداعيات انهيار المجتمع اللبناني المتأتي من تداعيات الحرب اللبنانية، على مستوى القيم الاجتماعية؛ والآخر عن حقبة تاريخية في لبنان. لكن، كالعادة، تصطدم أفلامنا بحائطٍ كبير هو الإنتاج. فمع غياب صندوق دعم جدّي للسينما اللبنانية، لن تكون هناك قدرة على تأمين تمويل لأفلامنا بسهولة، وأقصد بـ"أفلامنا" ما أفعله أنا وما يفعله مخرجون آخرون أيضًا. سيناريوهات جيّدة عديدة، لي ولغيري من المخرجين، تصطدم بهذا الحائط، فتوضع جانبًا.
7 أعوام مرّت منذ انتهائي من "شتّي يا دني". هذه ليست سهلة. العالم يتغيّر في عامين اثنين، فما بالك بـ7 أعوام، كنتُ خلالها مهمومًا بفكرة فيلم يحاكي الواقع الحالي الذي نعيشه اليوم.
ثمّ عرض عليّ الروائي اللبناني رشيد الضعيف قصّة له. قصة حوارية أو نص حواري يحاكي المرحلة التي نعيشها اليوم. أصالة النصّ كامنةٌ في أنه يحاكي الواقع من خلال عجوزين اثنين. وبالتالي، فإنّ هناك إمكانية إنتاجٍ لهذا المشروع بميزانية متواضعة، فهو يرتكز على شخصيّتين رئيسيّتين وشخصيّتين مساعدتين. ثم أنّ القصّة كلّها تدور في مكانٍ واحد.
هذا العاملان (محاكاة الواقع من خلال عجوزين اثنين وإمكانية الإنتاج) حرّضاني على تحقيق المشروع كمخرج، وكمنتج أيضًا، فأنا استثمرت في المشروع إنتاجيًا، قبل مشاركة منتِجَين آخرين، هما سام لحود وديغول عيد، أثناء تطوّر العمل.
هذا سببٌ مباشر للانتقال من عالمٍ إلى آخر في مساري السينمائي. الحظّ حالفني لرغبتي في عمل يُحاكي الواقع، فجاءني هذا النص الحواري.
(*) هذه ليست المرة الأولى التي تتعاون فيها مع رشيد الضعيف. روايته "المستبدّ" (1983) أساس فيلمك الأول "زنّار النار".
ـ هناك صداقة تجمعني برشيد الضعيف منذ زمن بعيد. تجربتي معه عائدة إلى عام 2002. بعد سيناريوهات كثيرة لم أتمكّن من تحقيق أي واحد منها، وأفلام وثائقية طويلة ومتوسطة أنجزتها في فترات مختلفة، قرأتُ "المستبدّ" و"فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم" (1986)، فقرّرت تحقيق فيلمٍ، يكون الاعتماد الأساسي فيه على "المستبدّ". لكن، أثناء كتابتي السيناريو، أدخلت شخصية موجودة في "فسحة مستهدفة...". يومها، قال لي رشيد: "أنا كتبتُ روايتي. أنتَ اشتغِلْ فيلمَك. افعلْ ما تريد".
هكذا أنجزتُ "زنّار النار". ظروف إنتاجه صعبة. لم ينجح في شبّاك التذاكر أبدًا، فهو يتناول الحرب اللبنانية من داخلها، من زواريبها ومتاهاتها ومناخها وعبثيتها. هذه كانت قوّته، كما قيل فيه مرارًا. لكن ما فاجأني فعليًا هو أن الفيلم نفسه يُدرَّس في الجامعة، ويُعرض أمام طلابٍ لديهم شغفٌ بمعرفة الحرب وماهيتها. "زنّار النار" يتعامل مع معاناة الناس من داخل المعاناة، ولا يستعرض الحرب بأسلوب الأكشن والتشويق.
في هذه التجربة، لم تكن هناك أي علاقة لرشيد بالسيناريو، فهو منحني حرية مطلقة في التعامل مع روايته.
ثم كان "شتّي يا دني" (2010)، الذي يتناول تداعيات الحرب لا الحرب بحدّ ذاتها. لكنه كان عملي أنا، بمساهمة إيمان حميدان وسام بردويل.
(*) مع "غود مورنينغ"، التقيْتَ رشيد الضعيف ثانيةً.
ـ التقيْتُه ثانيةً، نعم. لكن العمل معه هذه المرة مختلفٌ عن السابق. هو الآن متورّط منذ البداية، من القصّة ـ التي كتبها ولم ينشرها لرغبته في تقديمها كعملٍ مشهديّ ـ إلى كتابة السيناريو. تجربة خاصة، لكنها مثيرة ومهمّة: كيف يكون التعامل بين مخرج وكاتب بشكل حميميّ. أستطيع التحدّث كثيرًا عن هذا التعامل، لكن في النهاية وصلنا إلى نتيجة أن أحدنا يُكمِل الآخر: أنا برؤيتي الإخراجية والبناء الفيلمي والتركيبة الدرامية والرؤية السينمائية، ورشيد من ناحية تطوير الكتابة كمَشَاهد وحوارات.
أنا من محبّذي كتابة السيناريو دائمًا مع روائي أو مُشارك، أو مع شخصين اثنين آخرين في الوقت نفسه. لكن على الأقل أميل إلى التعاون مع شخص واحد. لا مشكلة عندي في هذا المجال، على نقيض مخرجين آخرين، كلّ واحد منهم يكتب السيناريو الخاص به وحده، ويصنع فيلمه من الألف إلى الياء وحده. بعض هذه الأفلام يشكو من ضعفٍ في كتابة السيناريو.
(*) في روايات رشيد الضعيف، هناك نَفَسٌ سينمائي في سرد حكاية أو التقاط لحظة أو تناول حالة.
ـ بالتأكيد. رشيد كتب هذه القصّة بعينٍ سينمائية لأنها مبنية على ملاحظة أناس عديدين، مُسنّين وغير مُسنّين، وعلى الاستماع إليهم، فهو من روّاد المقاهي أيضًا، ويعرف هذا العالم وتفاصيله. هناك طبعًا إضافات منه على الملاحظة والاستماع. هذا تراه في روايات سابقة له فعلاً، لأن لديه مشهدية في كتابته الروائية. رواياته بعيدة عن البلاغة التي نعرفها وقريبة من الناس ومن حميمياتهم وخصوصياتهم، وهذا ما يُعجبني فيها. قوّة الفن، والسينما طبعًا، تكمن في خصوصية الدخول إلى التفاصيل لا في طرح أفكار عامة.
(*) لكن، كيف كان العمل معه؟
ـ لم يكن سهلاً. اختلفنا كثيرًا على نقاط عديدة. كنا نمضي 3 أو 4 أيام في نقاشٍ حول مشهدٍ واحد مُثير لإشكاليٍة ما بيننا. هناك مشاهد أضفتها أنا أثناء التصوير، لم تكن موجودة في القصّة. مثلاً: وقوع الطبيب (غبريال يمين) عن كرسيّه عند وقوفه. هذا لم يكن موجودًا. هذا نوع من المَشاهد يُشكّل تحفيزًا للمُشاهد على متابعة الفيلم، وتُعتَبر قفزة في سياق دراما الفيلم. حوارات طويلة أجريناها حول مسائل كهذه. كان هناك صراع، لكنه مُثير ومُثمر في النهاية، لأن كلّ شيء كان يصبّ في مصلحة الفيلم.
(*) حسنًا، لننتقل إلى "داخل المقهى"، أي إلى هذا المكان الواحد الذي تجري فيه أحداث "غود مورنينغ". كيف تمّ تركيب الفيلم على أساسه؟
ـ الشرط الأساسي الذي وضعته على نفسي لإنجاز هذا المشروع مرتبط بضرورة العثور على مقهى أو صالة أو ديكور معيّن، يرتفع عن الأرض طابقًا واحدًا، وله واجهة عريضة تُطلّ على شارع من شوارع بيروت. هذا أساسي جدًا بالنسبة إليّ. فلسياق العمل كلّه 3 مستويات: المستوى الأساسي هو المقهى ومساحته؛ والمستوى الثاني هو أن نرى الخارج من داخل المقهى دائمًا؛ والمستوى الثالث هو الشاشة الصغيرة المعلّقة على الحائط، التي تبثّ أخبار لبنان والعالم، وملاحق إخبارية بخصوص انفجارات وعمليات إرهابية في الضاحية الجنوبية لبيروت وباريس.
هناك 4 شخصيات (اثنتان أساسيتان واثنتان مساعدتان) موجودة في المقهى بشكل يومي: الطبيب والجنرال والصحافي الشاب والنادلة. لكن، هناك شخصية خامسة أيضًا هي الكاميرا، لأنها موجودة دائمًا في المقهى ولا تخرج منه أبدًا. الكاميرا تعكس تقريبًا وجهة نظر العجوزين، خاصةً عندما نرى الخارج وما يحدث فيه. أودّ هنا لفت الانتباه إلى أن أغلب المَشاهد الخارجية التي نراها من داخل المقهى ملتقطة من المسافة نفسها للمجال البصري، أي للعين البشرية.
إذًا، بات كلّ شيء واضحًا ومحدّدًا: الخارج والداخل والشاشة، وهذه كلّها مساحة المقهى، مع امتدادٍ على الخارج (العين البشرية)، وامتداد افتراضي عبر شاشة تلفزيونية صغيرة مفتوحة على أحداث لبنان والعالم. هذا المقهى/ المكان كان ملهى سابقًا وهو مهجور حاليًا، وكان ملائمًا جدّا لما أرغب فيه تمامًا. استأجرناه، وأعدنا تركيب ديكور المقهى كاملاً. كان مقصودًا أن يُقدِّم الديكور مقهىً من مقاهي بيروت اليوم وليس مقهى بيروتيًا قديمًا، مع أراجيل وطاولات زهر كما في أفلام أخرى. أنا لستُ من محبّذي الفولكلور في السينما، ولا الصُور النمطية. ربما يكون المقهى قديمًا بعض الشيء، لكنه بيروتي راهن. وهو شبه خاو، فأنا أشعر أن هذه المقاهي خاوية، وأنها ستُغلق أبوابها. هذا تعبير يقوله أحدهم في سياق الفيلم. نهاية مساحة. المقهى ـ الذي يأتي الناس إليه اليوم للتحدّث مع بعضهم بعضاً ـ يندثر. نهاية الأشياء.
(*) أظنّ أن تصويرًا سينمائيًا داخل مساحة محدّدة وصغيرة كهذا المقهى صعبٌ.
ـ بالتأكيد، فالعملية الإخراجية محتاجة إلى حِرفية وتقنية من ناحية إضاءة المكان وتحريك الكاميرا في مساحة محدودة جدًا. أردتُ نورًا خاصًّا بالعمل، وهذا من صنيع مدير التصوير ميلاد طوق، الذي ابتكر طريقة لإضاءة المكان. اشتغلنا معًا على ضوء المقهى الذي هو ضوء الفيلم أيضًا، واعتمدنا على الضوء الطبيعي.
(*) ماذا عن الشخصيات، خصوصًا شخصيتي الطبيب (غبريال يمين) والجنرال (عادل شاهين). أظنّ أنه لم يكن سهلاً عليك اختيار ممثلين اثنين يتمكّنان من تقديم الشخصيتين كما هما تمامًا في الحياة اليومية لعجوزين اثنين. أتذكّر أنك بحثت كثيرًا عنهما.
ـ كنتُ قلقًا جدًا أثناء تحضير المشروع بخصوص الممثلين الاثنين اللذين سيؤدّيان الشخصيتين الأساسيتين. منذ البداية، كنتُ أرغب في العثور عليهما في وقت واحد، لأن الشخصيتين تُشكلان معًا "ديو"، وهما متفاهمتان إحداهما مع الأخرى ولو بالإشارة. هما صديقان منذ زمن بعيد، ولديهما "كلمات ـ مفاتيح" بينهما تختصر أشياء كثيرة. لذا، كنتُ أبحث عن ممثلين اثنين يمنحاني شعورًا بتوافقهما معًا ويتلاءمان سويًا مع شخصيّتيهما.
استعرضتُ ممثلين مُسنّين بعض الشيء ومعروفين. هم قلّة، لكنهم موجودون. لم أقتنع بأي واحد منهم. تردّدت كثيرًا وفكّرت كثيرًا بالخيارات المتاحة لي. حينها، شاهدتُ "صبمارين"، وهو فيلم قصير للّبنانية مونيا عقل، يظهر فيه عادل شاهين مؤدّيًا دورًا صغيرًا. أعرف عادل منذ زمن طويل، أيام "معهد الفنون الجميلة" (الجامعة اللبنانية)، وبيننا مودة وصداقة. لكنّه، خصوصًا بعد تقاعده، بات شبه منعزل، ولم ينخرط في العمل السينمائي أبدًا، والمسرحي أيضًا. ربما قرار منه أن يبتعد عن هذا كلّه. ربما لم يتصل به أحد سابقًا. لا أعرف. مشاهدتي إياه في هذا الفيلم القصير كانت صدمة إيجابية. اتصلت به، وعرضت عليه التعاون معي، والتقينا، وقرأ السيناريو. أردتُ عادل شاهين، لأن شخصية الجنرال في "غود مورنينغ" تشبهه كثيرًا، بحركاتها وحيويتها ومُزاحِها، وبروح الفكاهة فيها، وبعفويتها. هذه طبيعة عادل شاهين. شعرتُ أن المسافة بينه وبين شخصية الجنرال صغيرة جدًا، فلهما حركة الجسد نفسها وطريقة الكلام نفسها.
موافقة عادل شاهين على الدور أسعدتني جدًا. لكن وفاته مؤلمة لي. مُحزن أنه فارق الحياة بعد انتهاء الفيلم.
(*) وماذا عن شخصية الطبيب؟
ـ العثور على ممثل للشخصية الثانية صعبٌ. بعد عادل شاهين، كنتُ أريد ممثلاً قريبًا جدًا من الطبيب، الذي يتمتّع بشخصية متّزنة وهادئة، تكون متناقضة مع شخصية الجنرال، أو معاكسة لها. غبريال يمين صديق قديم أيضًا. فكّرت به، وانتبهت إلى أن بعض الماكياج كفيلٌ بجعله يتلاءم مع شكل الشخصية وعمرها. لغبريال مهنيّة كبيرة ومتينة في التمثيل. قادرٌ هو على تأدية شخصية أكبر منه سنًا بنحو 20 أو 25 عامًا.
المفاجأة السارّة لي حدثت في أول اجتماع بين عادل وغبريال، وكنت معهما مُراقبًا. كان الاجتماع مُهمّا. بعد 10 دقائق فقط من الكلام بينهما من دون كاميرا ولا "كاستنغ"، باتا منسجِمَين أحدهما مع الآخر، كأنهما صديقان منذ سنين طويلة.
(*) هناك أيضًا رودريغ سليمان في دور الصحافي الشاب ومايا داغر في دور النادلة.
ـ رودريغ سليمان محترف ومعروف. يُعجبني هدوؤه. يختزل الأمور بتمثيله، معتمدًا على إشارات ونظرات بعيدًا عن التصنّع والتكلّف. عمره مناسب لشخصية الصحافي الشاب (35 ـ 40 عامًا). كنتُ أريد نادلة خفِرة، تنتمي اجتماعيًا إلى طبقة متوسطة عادية، ولها سحر ما. نادلة تضيء بوجودها المقهى، وتكون العنصر الشبابي الأصغر سنًّا من الجميع، ويكون حضورها رائعًا وممتعًا. وجدت هذا كلّه في مايا داغر، الطالبة في "معهد الفنون".
(*) كيف تعاملت معهم، قبل التصوير وأثناء العمل؟
ـ أولاً، لا أستسيغ تعبير "إدارة الممثل"، وأفضّل عليه "توجيه الممثل". أي أني أوجّهه بطريقة الحكي وحركة الجسم واليدين والنظرة إلخ. طلبتُ من الجميع الالتزام بالحوار لأنه مشغول بدقّة، لكني تركت لهم مساحة صغيرة للارتجال. في بداية التصوير، كانوا يخرجون على الشخصيات والنص والحوارات، لكن لاحقًا انخرطوا جميعهم في الأدوار، وكانوا يؤدّون المطلوب منهم، مع بعض الارتجال المقبول، بطريقة سلسة ومهنية، فكنّا غالبًا ما نُصوّر المَشاهد من دون تكرار كثير. عادل شاهين وغبريال يمين لا يُمثّلان الدورين بل يعيشانهما. التناغم بينهما جميل، وهو ركيزة الفيلم.
أخبرني عادل أنه قرأ السيناريو أكثر من 50 مرّة، لأنه أراد أن يهضم المَشاهد والحوارات. عرف كلّ شيء منذ البداية.
(*) أودّ التوقّف قليلاً عند عادل شاهين. هناك مشكلة صغيرة في نبرة صوته، فهي غير متبدّلة أبدًا، ولها رنّة مُتعِبة قليلاً على السمع لأنها تبقى على المستوى نفسه طوال الوقت. كأنّ في نبرته رتابة. غبريال مثلاً يُجيد اللعب بنبرته وصوته، رغم أنهما يبقيان كما هما تقريبًا.
ـ ربما صحيح ما تقوله. ربما. لكن، لا تنسى أن هذا هو أول دور سينمائي كبير لعادل. أول فيلم يمثّل فيه. كان يتعب. الحرارة المرتفعة أثناء التصوير كانت تُزعجه وتُثقل عليه. ربما تأثّرت مَشَاهد معينة بحالته هو كشخص مُتعَب، فهو يبلغ 76 عامًا، ويمرّ في حالة تعب. لكنّي تركت صوته ورتابة صوته كما هما. وجدت أن لا بأس بذلك. لم تُزعجني نبرة صوته، ولم تكن مشكلة لي. تركتها كما هي، خصوصًا أن الفيلمَ حواريٌّ.
(*) هناك أمر آخر: الفواصل بين المَشَاهد. بدَتْ لي ثقيلة هي الأخرى، وغير مريحة في عملية السرد. فالجمل المبثوثة على الشاشة بدت لي كأنها تُخبر المُشاهد ما سيراه ويكتشفه ويعرفه. لكن في النهاية، أعرف أن هذا خيارك كمخرج.
ـ تركت الفواصل كما هي ثم حذفتها وأعدتها مرّات عديدة. في المونتاج (حسين يونس)، تردّدت كثيرًا بين إبقائها وحذفها. ليس لأني غير مقتنع، ففي النهاية هذا فيلم لا حبكة له، ولا توجد وصلة درامية بين المَشَاهد، فأنا لا أروي حكاية. رغم هذا، هناك تصاعد درامي من فصل إلى آخر. هناك تطوّر درامي. شعرتُ بحاجة إلى التقطيع بين يوم وآخر، فالأيام ليست متتالية، بل هناك "أيام". شعرتُ بحاجة إلى ما يُنبِّه الجمهور إلى الفيلم بين وقتٍ وآخر. بحاجة إلى إيقاظ حشريته.
كان يُمكن ترك الأسود يفصل بين مقطع وآخر، لكن الأسود ربما يُزيد من رتابة المناخ اليومي للعجوزين. الكتابة (في الفواصل بين المقاطع) بالطريقة المكتوبة بها إشارة تساعد الجمهور على التنبّه. هناك من سيحبّ هذا، ومن لن يحبّ. لكن، كما قلتَ أنتَ: هذا خياري كمخرج.
(*) وسام حجيج مؤلّف موسيقى الفيلم. هو أيضًا تعاون معك سابقًا، إذْ ألّف موسيقى "شتّي يا دني".
ـ صحيح. هو مؤلّف موسيقي للأفلام في فرنسا. ألّف مقطوعات موسيقية لأفلام وثائقية وقصيرة، كما وضع موسيقى "ضربة في الرأس" للمغربي هشام العسري. لديه ثقافة سينمائية، ومنخرط في هذا المجال. هناك موسيقيون بارعون، لكنهم لا يعرفون صنع موسيقى لفيلم أو لصورة.
تحدّثت إلى وسام وأخبرته عن الفيلم بشكل عام. أعطيته إشارات إلى ما أريده. قلت له: "في الفيلم 4 شخصيات وأريد 4 آلات موسيقية والباقي عليك". هو اختار الآلات وألّف الموسيقى بعد قراءة السيناريو. شغل الموسيقى يُرافق التصوير والمونتاج. أنا لا أضع موسيقى في أفلامي من البداية إلى النهاية. استعملها فقط في مشاهد معيّنة، وأريدها داخل إيقاع الفيلم وفي أعماق مناخه وأجوائه. أحيانًا، تحمل الموسيقى بعض المَشاهد وتنقلها من مكان إلى آخر. بالنسبة إليّ، الموسيقى في الفيلم ليست تزيينية بل جمالية وعملية.
وسام وأنا قريبان أحدنا من الآخر. هو ابني. ربما لهذا تمكّن من وضع موسيقى ارتحتُ إليها كثيرًا. بعض الذين استمعوا إليها أخبروني أنهم تذوّقوها.