بوابة بنغازي وخارطة الطريق المحتملة
سواء سقطت بنغازي، لتلعق فيما بعد جراحها، أو استقبلت فاتحيها الجدد، بما تبقى من شعارات الفاتح، فالنتيجة لن تحسمها المعارك، ولن يستقر الوضع في قادم الأيام. علمتنا تجارب الحروب الأهلية في إفريقيا، ومناطق عدة من الوطن العربي، أن رماد المعارك يظل مستعراً في نفوس ضغينة ترتوي من نسغ الخلافات المذهبية والطائفية والقبلية، وما أكثرها. الخلايا النائمة ليست تقنية ابتكرتها القاعدة وأخواتها، وإنما حيلة جادت بها الطبيعة العضوية المتعلقة بالأمراض الأكثر فتكاً، والتي عجز عن مداواتها الطب الحديث. يحدث ذلك، أيضاً، في المجتمعات المعتلة التي تصاب بأمراض الحروب الأهلية. الحرب كيٌّ، ولكن لن يقبض روح تلك الخلايا النائمة. المذهب، القبلية، العائلة والجماعات الملية تنام خلايا، وتموه بالموات عقوداً.
الصومال وأفغانستان والعراق وإسبانيا وجزيرة كورسيكا، وغيرها من المجتمعات التي شهدت أشكالا مختلفةً من الاقتتال الداخلي، بقطع النظر عن حجم بقع الدم التي سالت، وجغرافيتها المادية والرمزية، ظلت تنزف سنوات طويلة. نعلم أن ذلك يتأجج حيناً، ويخفت حيناً آخر، بحسب طبيعة البيئة الحاضنة والسياق الخارجي.
الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بمساعدة قواتٍ تنسب إلى الجيش الليبي، الذي نعلم أنه لم يكن موجوداً حتى في عهد القذافي، يختار وبذكاء كبير، بنغازي بوابة الشرق الليبي المفتوحة على المدى. يرشحها بعضهم، حتى من غير الانفصاليين، أن تكون ضرة لطرابلس التي نافستها حتى شككت في شرعيتها منذ عقود طويلة. بعيداً عن ثقافة الثأر، لا يمكن أن ننسى أن ميلاد ليبيا الحديثة كان عسيراً، ولم تنضج الدولة الليبية بما يكفي، حتى لا تترك لمثل هذه المشاعر مبرراً.
"الإقليم الشرقي" بمداه وتعدده الأنتروبولوجي، وجواره الاستثنائي، وتخومه المفتوحة، دفع ثمناً باهظاً خلال بناء الدولة المتعثر والقاسي. الفرقاء، في هذا الاستثناء البنغازي، ينثرون ملحاً ساماً على الجرح النازف. فللمظلومة جاذبية، أحياناً، بحجم المصيبة.
يجود التوقيت بما تعجز عنه قريحة الفاعلين. يختار حفتر معركته التي يريد لها أن تكون حاسمة، وأنظار العالم تتجه إلى عين العرب، حيث تحشد الولايات المتحدة الأميركية حلفاءها في معركةٍ، لا تقل ضراوة عما خاضته في السنوات الفارطة. ولكن، على خلاف ذلك، تتجه أميركا، هذه المرة، بحلفائها، وهم أكثر صلابةً، باعتبارها معركة ممتلئة مشروعية. المعركة الدولية ضد إرهاب داعش تُخاض باسم القيم الإنسانية النبيلة ضد التوحش الذي فاض. يريد حفتر أن يخوض المعركة نفسها، وتحت الأسباب نفسها، ولكن، في جبهة أخرى، لا تقل أهمية، وهو بهذا يحوز على تأييد دولي وتعاطف جزء لا يستهان به من الليبيين. لعين العرب حساب استراتيجي نادر، لجغرافيتها السياسية وتوقيت معركتها. لا تدعي بنغازي منافسة لها، ولكن، لا تقل عنها شأناً، فهي على مرمى من حوض رخو لربيع عربيٍّ، تتساقط أزهاره قبل الأوان. يجوز، من وجهة النظر هذه، أن يقدم حفتر نفسه لليبيين بطلاً وطنياً، كما، في وسعه أيضاً، أن يقدم نفسه حليفاً ناجعاً للقوى الدولية التي تخوض، حالياً، معركتها في عين العرب وغيرها. من هذه الزاوية، لن تكون الحرب الجارية في بنغازي، لدى عديدين مجرد جولة بين فصائل متنازعة حول السلطة، على غرار حروب أهلية أخرى، ولكنها جبهة من معركة دولية مشروعة.
استفاد حفتر، ولا شك، وبذكاء كبير من أخطاء الإسلاميين القاتلة، بمن فيهم الشق الأكثر اعتدالاً، فحتى الحكومات السابقة لم ترسم مسافة تباين بينها وبين تلك المجموعات الإرهابية. سيكون من السذاجة لو تصورنا الأمر بمنتهى السهولة، نظراً لحال الدولة المعتلة جنينياً، وطبيعة النخب السياسية وتجربتها في العمل السياسي وافتقاد تراث المشاركة السياسية، فضلاً عن غياب الوساطات الاجتماعية المدنية.
على الحدود الشمالية لليبيا، تخوض تونس، مهد الثورات العربية، صراعاً مضاعفاً، وعلى جبهات متعددة، ولا يمكن لما سيحدث في ليبيا إلا أن يضاعف أعباء تلك المعارك، حين تنضاف إليها جبهة أخرى. يخشى أن تمتد تلك النيران الملتهبة إلى تونس، بالتزامن مع الانتخابات التشريعية والرئاسية التي تجري في الأسابيع المقبلة. لن تحدد نتيجة الميدان ما ستنطق به صناديق الاقتراع، ولكن ستتأثر بها بلا شك، خصوصاً أن شركات التسويق الانتخابي قد تفطنت إلى فائض قيمتها.
قد تكون نتائج المعركة الدائرة حالياً في بنغازي، وفي مناطق أخرى مهمة، في تحسين شروط التفاوض بين الفرقاء وتغيير المناخ والمزاج العام في المنطقة. لكن، لن يكون التفاوض بشكل خاص مجدياً ما لم يتم، بالموازاة مع ذلك، بلورة خارطة طريقٍ، يبدو أن معالمها بدأت تتضح، منذ زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى المنطقة، وبعد أن انعقدت جولات متعددة من المفاوضات التي أدارها مسؤولون أمميون. معالم الخارطة تلك تكمن في عزل المجموعات الإرهابية، وأساساً تنظيم أنصار الشريعة. وإدراج فصائل السلام السياسي المعتدل في العملية السياسية، ووضع حد للعزل السياسي الذي طال جل النخب الليبية، بما فيها أنصار نظام العقيد القذافي، وبشكل تدرجي، وضمن شروط يتم تحييدها لاحقاً. وإجراء مفاوضات سياسية للتمهيد لمرحلة انتقالية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار شرعية المؤسسات، مع إسنادها بمؤسسات أخرى، لتكثيف المشاركة السياسية واحتواء القادمين الجدد إلى العملية السياسية المدنية، ثم تنظيم انتخابات أخرى فيما بعد، تكون في مناخ انتخابي وسياسي أفضل، وهو ما لّمح مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا، طارق متري، إليه، حين قال إن الليبيين تسرعوا بإجراء انتخابات ضاعفت من الأزمة، عوض أن تحلها.
ستعدل نتائج ما يجري، حالياً، في بنغازي تفاصيل الطريق. ولكن، ستظل تضاريسها إلى حد كبير ثابتة.