يأتي تكريم صاحب "الحلزون العنيد" بعد أيّام قليلة من ظهوره في أحد برامج الكاميرا الخفية على قناة "النهار" الخاصّة، تعرّض فيه إلى مساءَلة بوليسية عنيفة حول معتَقداته الدينية وأُجبر خلاله على تلاوة الشهادتَين، هو الذي كان قد أثار ضجّةً، قبل سنتَين، حين صرّح في برنامج تلفزيوني بأنه "ملحد"، قبل أن يعود ويتراجع عن تصريحاته.
حرّيات على المحكّ
أثار "المقلب" التلفزيوني، الذي بُثّ في الواحد والثلاثين من الشهر الماضي، موجة غضب واستنكار في الأوساط الإعلامية والثقافية الجزائرية، وتفاعَل على شبكات التواصل الاجتماعي. كما أصدر كتّاب وصحافيون وناشطون بيانًا أدانوا فيه ما وصفوه بـ "الاعتداء السافر والمقصود على الروائي الكبير".
واعتبر قرابة ألف موقّع على البيان، الذي حمل عنوان "لم يعد الصمت ممكنًا"، أن البرنامج شكّل "صدمةً للمثقّفين والمشاهدين والمجتمع المدني، بسبب موضوع الحلقة، وأسلوب الترويع الذي مورس على الروائي في استنطاقه، والتدخّل في حرّيته الشخصية، وإرغامه على التصريح بعقيدته قسرًا وتحت التهديد"، وأن "هذه الممارسة تمثّل تدخّلًا سافرًا في حريّة الكاتب، وتشكّل ضغطًا على وعي المشاهد ووصايةً على ضميره ومساسًا بحرّيته".
لم تتوقّف الأمور عند هذا الحد؛ إذ تحوّل البيان إلى وقفة نُظّمت في الثالث من حزيران/ يونيو الجاري في الجزائر العاصمة، للاحتجاج على "حالة الانفلات الإعلامي التي باتت تهدّد المجتمع الجزائري"، ومطالبة السلطة بوضع حدٍّ لممارساتها التي يقول كثيرون إنها تقوم على مبدأ الكيل بمكيالَين؛ حيثُ تُشجّع القنوات المحسوبة عليها (خصوصًا قناة "النهار") وتتغاضى عن تجاوزاتها المهنية الكثيرة، بينما تشدّد الخناق على المؤسّسات الإعلامية الأُخرى.
عشوائيات في الفضاء
نُظّمت الوقفة أمام مقرّ "سلطة ضبط السمعي البصري"، وهي هيئةٌ رسمية تُشرف على تنظيم عمل القنوات التلفزيونية الجزائرية، ويُفتَرض أن تتدخّل في حالات كهذه. لكن الهيئة، التي أصدرت قُبَيل حلول شهر رمضان بيانًا حذّرت فيه القنوات من برامج الكاميرا الخفية التي "تحمل مشاهد عنف وتسيء إلى كرامة الإنسان"، التزمت الصمت هذه المرّة، هي التي كانت تتدخّل في كلّ شاردة وواردة، حين يتعلّق الأمر بقنوات أخرى.
خلال الوقفة، استقبل زواوي بن حمّادي، رئيسُ "سلطة ضبط السمعي البصري"، بوجدرة وعددًا من المحتجّين، وأخبرهم أن هيئته لا تملك أيّة صلاحيات للتدخّل في عمل القنوات التلفزيونية، وأن كلّ ما بوسعها فعله هو إصدار بيان يُدين البرنامج ويتضامن مع الروائي.
يتجاوز عددالقنوات الفضائية الجزائرية العشرين قناةً. لكنها تعمل في جوّ تحكمه الفوضى؛ حيثُ تُعتَبر، من الناحية القانونية، قنوات أجنبية. وقد جرى منح الاعتماد لخمس منها فقط، بينما تعمل البقية بشكل غير قانوني، وهو ما يثير انتقادات للسلطة التي تُتّهم بالمماطلة في استكمال النصوص التشريعية التي تنظّم عمل القطاع، بهدف ترك ثغرات تسهّل تدخّلها لإغلاق قنوات لا توافق هواها؛ كما حدث مع قناتَي "الأطلس" و"الوطن الجزائرية"، اللتين أُغلقتا بدعوى أنهما تعملان "خارج القانون".
بوتفليقة الصغير
غير أن أبرز ما شهدته الوقفة، هو حضور سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس ومستشاره الشخصي الذي يوصَف بالرجل القوي في السلطة، ويعتبره بعضهم الرئيس الفعلي، بعد غياب شقيقه عن المشهد السياسي بسبب وضعه الصحي منذ عام 2012.
اقترب "بوتفليقة الصغير" من بوجدرة، وهمس له بأن ما تعرّض إليه كان أمرًا فظيعًا، معربًا عن تضامنه معه. غير أن الروائي لم يعرف محدّثه، فسأله من يكون. أجاب الرجل معرّفًا بنفسه، فعلّق بوجدرة: "لكن، ينبغي التحرّك".
بمجرّد أن تحرّك الرجل من مكانه، ارتفع صوتٌ نسائي يطالبه بالرحيل، لأنه "غير مرغوب فيه"، وتبعته أصوات أخرى تصفه وأسرته بالدكتاتورية. غادر بوتفليقة، لكنه كان قد فتح صفحةً أخرى للجدل.
على الشبكات الاجتماعية، كان النقاش حول ما حدث مع بوجدرة قد حُرّف منذ البداية. حاول بعضهم تحجيم الحراك، الذي سعى إلى لفت الأنظار إلى تجاوزات القنوات الخاصّة وحالة التردّي التي آل إليها المشهد الإعلامي، واختصارَه في قضية "روائي يجهر بإلحاده"، مع ما تثيره العبارة من حساسية في الأوساط الشعبوية.
وبظهوره النادر، أخذ بوتفليقة النقاش إلى منطقة أخرى؛ حيثُ قُرئت مشاركته في الوقفة الاحتجاجية على أنها خطوة استباقية لحملة انتخابية مبكّرة يطرَح فيها نفسه خليفةً لشقيقه. بل إن بعضهم شكّك في الوقفة برمّتها، معتبرًا أنها كانت "مؤامرة".
بعض القراءات رأت فيها إعلانًا غير مباشر بأن الرجل يرفع يديه عن القناة التي تُتّهم بأنها تأتمر بأوامره، بينما رأت أخرى بأنها محاولة للتبرؤ من ممارساتها في العلن، بينما يدعمها في الخفاء.
واكتفت قراءات أخرى باعتبار مشاركة الرجل تعبيرًا عن حنينه لأيديولوجيته اليسارية؛ بما أن بوتفليقة أستاذ جامعي ونقابي سابق، وبوجدرة روائي محسوب على اليسار. وهذه القراءة ستفتح جبهةً جديدةً أمام المحتجّين وتضعهم جميعًا في سلّة أيديولوجية واحدة، مع ارتفاع الأصوات المحذّرة من "خطر معسكر اليساريين والشيوعيين والملحدين"، مثلما عبّر عنه رئيس أحد الأحزاب الإسلامية.
كان من اللافت تركُّز الحديث حول معسكر أيديولوجي لا وجود له في الجزائر، بالمعنى الفعلي. فالأيديولوجيا الوحيدة التي يمكن لمسها في البلد هي الأيديولوجيا(ت) الإسلامية.
تكريم وغياب
هكذا، كان من الطبيعي أن يُربَط ورود اسم بوجدرة ضمن قائمة المكرّمين بإهانته في البرنامج وما تبعها من جدل؛ إذ رأى فيها متابعون خطوةً لإعادة الاعتبار إلى الروائي من رئيس الجمهورية، بعد أن تضامن معه شقيقه الأصغر.
غير أن المكلّفة بالإعلام في وزارة الثقافة، جهيدة ميهوبي، سارعت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى التوضيح بأن لا علاقة بين الأمرَين؛ موضّحةً بأن القائمة كانت مُعدَّة سلفًا، وهي الثانية بعد تكريم 31 اسمًا في نيسان/ أبريل الماضي بالوسام نفسه.
وفي "أوبرا الجزائر"، حيثُ جرى التكريم مساء أمس الأربعاء، اشرأبت الأعناق مع ذكر اسم بوجدرة. لكن الأخير فضّل الغياب، مكتفيًا بإرسال أحد مقرّبيه لتسلُّم "وسام الاستحقاق".