02 نوفمبر 2024
بورقيبة... في نمذجة الزعيم
يُعتبر الزّعيم الحبيب بورقيبة (1903 – 2000) من أوائل المؤسّسين لتونس الحديثة، فمعلوم أنّ الرّجل كان من دعاة التّجديد في مجالات التّشريع والتّعليم والممارسة السياسيّة، وقد وضع أسس الدولة الوطنيّة ومؤسّسات مرحلة ما بعد الاستقلال، وكان له رصيد من الفصاحة وقدرة على الملاسنة ومخاطبة النّاس، على نحو يجمع بين الهزل والجدّ، وبين السياسة واللّباقة، فكان له أَنْ سَاسَ النّاس وحكمهم سنين عددا، وقد حرص على القرب من العامّة، في بداية عهده بالحكم، ما أورث ميل النّاس إليه وولعهم به.
ويلاحظ الدّارس أنّ الرّجل يستهوي بعضهم حتّى اللّحظة، والحقيقة أنّ هذا الأمر قد يُفْهَم، من جهة، أنّ فئة من النّاس ما زالت مبهورة بكاريزما الرّجل، وأخرى مشدودة إليه بهاجس الانتماء الجهوي، في حين يستحضر آخرون بورقيبة ثأرا من ماض قمعيّ، خلّفه خَلَفُه بن علي الذي تنكّر للشّعب وطموحاته، وانكبّ يجمع المال، ويمنعه عن بني الوطن، ويرتدّ سواهم إلى العهد البورقيبي، لخوفهم من أن يغلب التطرّف على الاعتدال، ويتمّ التنكّر لمكتسبات دولة الاستقلال، وفي مقدّمتها مجلّة الأحوال الشخصيّة.
وعودة البورقيبيّة، وإن بدت في الظاهر محاكمة للطّغيان، ومدعاة لحماية منجزات الجمهوريّة، فإنّها، في الحقيقة، حركة ارتداديّة، تستدعي النّظر الموضوعيّ والتّحليل العقلانيّ، فالعودة إلى بورقيبة فعل ماضويّ، يسترجع ممارسة سياسيّة كانت بنت عصرها، ولا يمكن بحال إجراؤها في الآن والهُنَا، فطموحات عدد مهمّ من التونسيّين تبدّلت، وأحلامهم تعدّدت، وأفق مطالبهم اتّسع. يُضاف إلى ذلك أنّ بورقيبة نفسه قد تنكّر لعدد مهمّ من الشعارات التي نادت بها دولة الاستقلال، في مقدّمتها الحرّيات السياسيّة والعدالة الاجتماعيّة والوفاء للانتماء العربيّ والإسلاميّ لتونس، فما من شكّ أنّ بورقيبة فتك بمعارضيه، ونكّل بهم وتابعهم في البلاد وفي المنافي، وإلاّ بماذا نفسّر تصفية اليوسفيّين (أتباع صالح بن يوسف)، ومحاصرة القوميّين، وسجن اليساريّين، والتّنكيل بالإسلاميّين في عهده، فالرّجل لم يكن يرى غير صورته في مرآة الاجتماع التونسي، وإذا رأى أحدهم خلفه، أو بجانبه، كَسَرَهُ وكسَر المرآة معه. كما أنّ الزّعيم لم يرَ حرجا في تصفية خصومه سنة 1962، وفي قمع حركات الاحتجاج التي راح ضحيتها مئات القتلى عامي 1978 (انتفاضة العمّال) و1984 (ثورة الخبز)، وغيّب خصوماً عديدين له خلف الشّمس، حتّى أنّ مصيرهم مجهول، فمنهم من أكله معتقل "صبّاط الظّلام"، ومنهم من تشرّد بين السّجون والمنافي. وكان الرّجل يظنّ أنّه يحمي تونس من المتمرّدين والرّجعيّين، والحال أنّه كان يفعل ما يفعل ليبسط نفوذه، فاحتكر السّلطات جميعا، بحجّة أنّه المجاهد الأكبر، بل قال بالحرف الواحد "تونس هي أنا"، وفي ذلك إمعان في الشخصانيّة، واختزال للطّيف المجتمعي، على ثرائه وامتلائه بالكفاءات والطّاقات، في شخص الفرد الواحد الذي لا يُورِي النّاس إلاّ ما يرى، وقد تأكّد هذا المنهج في التمثّل البورقيبي للشّأن السياسي والشّأن العامّ، بإعلان الرجل "رئيسا مدى الحياة"، بموجب تعديل دستوري، تمّ في 27 ديسمبر/كانون الأول 1974. وكانت تلك سابقة خطيرة في تاريخ الدّيكتاتوريّة بالبلاد التونسيّة، وبمقتضاها أصبحت ممارسة الرّئاسة عملاً يحتكره الزّعيم، ويهمَّش بمقتضاه الآخرون باعتبارهم رعايا، لا مواطنين، في نظره. لذلك، هم غير مؤهّلين للتّداول السّلمي على السّلطة، ما فتح الباب مشرعا لفكرة الانقلاب العسكري، ولاستمرار حلقة الاستبداد مع 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987.
وبناء على هذا، فإنّ الاحتذاء ببورقيبة ونمذجته أمر لا يسلم لأصحابه مع احترامي لهم، فالرّجل لم يكن قدوة في الديمقراطيّة، وما كان حكيما في مجال العدالة الاجتماعيّة، ففي أواخر عهده اتّسعت الهوّة بين الجهات، وانتشر الفساد وعمّت المحسوبيّة، وتراجع حضور الطّبقة الوسطى في السّلم الاجتماعي. كما أنّ الزّعيم الحبيب بورقيبة لم يكن مشغولاً بتعزيز الانتماء العربي الإسلامي لتونس، فقد فصلها عن محيطها العربي والإسلامي، وأسّس لفكرة الأمّة التونسيّة، مُغازلا الغربَ، عازلا البلد عن أسباب هويّته العربيّة الإسلاميّة، ما أسهم في تهجين الهويّة الثقافيّة للتونسيّين، وجعل بينهم وبين العرب أسوارا.
ولا أظنّ أن أرض الخضراء اليوم ضنينة أو عقيمة، ففيها من الرّجالات ومن الكفاءات كثيرون، وجيل الثورة واع بتحدّيات المرحلة التاريخيّة المعيشة، وحريص على تأمين انتقال سلميّ نحو الديمقراطيّة، وهو الأجدر ببلورة تصوّرات جديدة تناسب المرحلة، وهو الأقدر على انتخاب شخصيّات مستنيرة، تؤسّس لمجتمع تعدّدي، ولدولة تأخذ في الاعتبار تلازم الحقّ والواجب، وتقرّ بالعدالة والمحاسبة والمواطنة، تنظيرا وتطبيقا.
فنحن بحاجة إلى عصر أنوار جديد، لا إلى تكرار تجارب سابقة. وأحرى بنا، إعادة قراءة التاريخ، وتقديم رؤية نقديّة موضوعيّة للعهد البورقيبي، بدل التمادي في التمجيد والتهليل الذي لا يفيد.
وعودة البورقيبيّة، وإن بدت في الظاهر محاكمة للطّغيان، ومدعاة لحماية منجزات الجمهوريّة، فإنّها، في الحقيقة، حركة ارتداديّة، تستدعي النّظر الموضوعيّ والتّحليل العقلانيّ، فالعودة إلى بورقيبة فعل ماضويّ، يسترجع ممارسة سياسيّة كانت بنت عصرها، ولا يمكن بحال إجراؤها في الآن والهُنَا، فطموحات عدد مهمّ من التونسيّين تبدّلت، وأحلامهم تعدّدت، وأفق مطالبهم اتّسع. يُضاف إلى ذلك أنّ بورقيبة نفسه قد تنكّر لعدد مهمّ من الشعارات التي نادت بها دولة الاستقلال، في مقدّمتها الحرّيات السياسيّة والعدالة الاجتماعيّة والوفاء للانتماء العربيّ والإسلاميّ لتونس، فما من شكّ أنّ بورقيبة فتك بمعارضيه، ونكّل بهم وتابعهم في البلاد وفي المنافي، وإلاّ بماذا نفسّر تصفية اليوسفيّين (أتباع صالح بن يوسف)، ومحاصرة القوميّين، وسجن اليساريّين، والتّنكيل بالإسلاميّين في عهده، فالرّجل لم يكن يرى غير صورته في مرآة الاجتماع التونسي، وإذا رأى أحدهم خلفه، أو بجانبه، كَسَرَهُ وكسَر المرآة معه. كما أنّ الزّعيم لم يرَ حرجا في تصفية خصومه سنة 1962، وفي قمع حركات الاحتجاج التي راح ضحيتها مئات القتلى عامي 1978 (انتفاضة العمّال) و1984 (ثورة الخبز)، وغيّب خصوماً عديدين له خلف الشّمس، حتّى أنّ مصيرهم مجهول، فمنهم من أكله معتقل "صبّاط الظّلام"، ومنهم من تشرّد بين السّجون والمنافي. وكان الرّجل يظنّ أنّه يحمي تونس من المتمرّدين والرّجعيّين، والحال أنّه كان يفعل ما يفعل ليبسط نفوذه، فاحتكر السّلطات جميعا، بحجّة أنّه المجاهد الأكبر، بل قال بالحرف الواحد "تونس هي أنا"، وفي ذلك إمعان في الشخصانيّة، واختزال للطّيف المجتمعي، على ثرائه وامتلائه بالكفاءات والطّاقات، في شخص الفرد الواحد الذي لا يُورِي النّاس إلاّ ما يرى، وقد تأكّد هذا المنهج في التمثّل البورقيبي للشّأن السياسي والشّأن العامّ، بإعلان الرجل "رئيسا مدى الحياة"، بموجب تعديل دستوري، تمّ في 27 ديسمبر/كانون الأول 1974. وكانت تلك سابقة خطيرة في تاريخ الدّيكتاتوريّة بالبلاد التونسيّة، وبمقتضاها أصبحت ممارسة الرّئاسة عملاً يحتكره الزّعيم، ويهمَّش بمقتضاه الآخرون باعتبارهم رعايا، لا مواطنين، في نظره. لذلك، هم غير مؤهّلين للتّداول السّلمي على السّلطة، ما فتح الباب مشرعا لفكرة الانقلاب العسكري، ولاستمرار حلقة الاستبداد مع 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987.
وبناء على هذا، فإنّ الاحتذاء ببورقيبة ونمذجته أمر لا يسلم لأصحابه مع احترامي لهم، فالرّجل لم يكن قدوة في الديمقراطيّة، وما كان حكيما في مجال العدالة الاجتماعيّة، ففي أواخر عهده اتّسعت الهوّة بين الجهات، وانتشر الفساد وعمّت المحسوبيّة، وتراجع حضور الطّبقة الوسطى في السّلم الاجتماعي. كما أنّ الزّعيم الحبيب بورقيبة لم يكن مشغولاً بتعزيز الانتماء العربي الإسلامي لتونس، فقد فصلها عن محيطها العربي والإسلامي، وأسّس لفكرة الأمّة التونسيّة، مُغازلا الغربَ، عازلا البلد عن أسباب هويّته العربيّة الإسلاميّة، ما أسهم في تهجين الهويّة الثقافيّة للتونسيّين، وجعل بينهم وبين العرب أسوارا.
ولا أظنّ أن أرض الخضراء اليوم ضنينة أو عقيمة، ففيها من الرّجالات ومن الكفاءات كثيرون، وجيل الثورة واع بتحدّيات المرحلة التاريخيّة المعيشة، وحريص على تأمين انتقال سلميّ نحو الديمقراطيّة، وهو الأجدر ببلورة تصوّرات جديدة تناسب المرحلة، وهو الأقدر على انتخاب شخصيّات مستنيرة، تؤسّس لمجتمع تعدّدي، ولدولة تأخذ في الاعتبار تلازم الحقّ والواجب، وتقرّ بالعدالة والمحاسبة والمواطنة، تنظيرا وتطبيقا.
فنحن بحاجة إلى عصر أنوار جديد، لا إلى تكرار تجارب سابقة. وأحرى بنا، إعادة قراءة التاريخ، وتقديم رؤية نقديّة موضوعيّة للعهد البورقيبي، بدل التمادي في التمجيد والتهليل الذي لا يفيد.