30 مارس 2020
بوش الأب شأناً عراقياً
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
ينظر عراقيون كثيرون إلى الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، والذي رحل السبت الماضي (1/12/2018) بغضب وإدانة، بسبب أزمة وحرب الخليج بين عامي 1990 و1991، ويرون أن خطة الحرب التي قادها قامت على تدمير العراق، لا تحرير الكويت فقط، فقد استهدف القصف الجوي الشامل كل مرتكزات البنية التحتية العراقية، من محطات توليد للكهرباء وتصفية المياه إلى مصانع عسكرية ومدنية إلى مستشفيات وملاجئ. وبعد أن انتهت الحرب، أدامت إدارة بوش الأب الحصار الاقتصادي الشامل على العراق، بل وجعلته أداتها السياسية الرئيسية للتعامل، لتتبعها في ذلك الإدارات اللاحقة، حتى جاءت حرب العراق واحتلاله على يد إدارة بوش الابن عام 2003.
دمّر بوش الأب العراق، لكنه لم يتقدم لاحتلال بغداد، ولم يسقط نظام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين. وتمتدحه، أحيانا، الأوساط الأميركية، ومن منظور تاريخي، على ذلك الموقف، بسبب ما شاهده الأميركيون من تبعات للغزو والاحتلال وإسقاط النظام التي حصلت في إدارة بوش الابن. وكان خطاب بوش الأب في اليوم الأخير من فبراير/ شباط عام 1991، بعد وقف إطلاق النار، إشارةً فهمها عراقيون، في أكثر من مكان، دعوة إلى قلب النظام. جاءت الإشارة، في لحظة الانهيار التام للقوات العراقية في الكويت، وانسحابها المبعثر على الطريق الرئيسي الرابط بين العراق والكويت، والذي عرف بطريق الموت، لكثرة الجنود العراقيين الذين قتلوا عليه في أثناء انسحابهم، وبدا مصير العراق كله مبعثرا في تلك اللحظة.
انطلقت قوى شعبية وسياسية معادية لنظام صدّام، لتسقط سلطة الدولة في محافظات الجنوب، ذات الغالبية الشيعية، ومحافظات الشمال ذات الغالبية الكردية. كانت تلك لحظة قاسية في تاريخ العراق الحديث، وتعامل معها النظام بقسوة. وبقي الجدل بشأن ما كان يريده بوش في ندائه العراقيين بأن يتحركوا ضد حكومتهم. وفرت إدارته منطقة حماية للقوى السياسية الكردية في محافظات إقليم كردستان الثلاث، في منطقةٍ أصبحت مستقلة عمليا عن سلطة بغداد. ولكن من غير إقامة دولة كردية مستقلة. استطاع نظام صدام حسين استعادة السيطرة بسرعة على باقي أنحاء العراق، وتمكن من إعادة الإعمار وتوفير الخدمات في ظروف صعبة، لكنه لجأ إلى استخدام مزيد من العنف والقسوة من أجل السيطرة على الحكم.
مع تلك الإشارة إلى العراقيين بالتمرّد بعد الحرب، بقي الجدل التاريخي أيضا بشأن إشارة أخرى قبلها، تمثلت فيما قالته سفيرة بوش الأب في العراق، إبريل غلاسبي، في مقابلتها الشهيرة مع الرئيس العراقي، قبل أيام من اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990. يومها، أخبرها صدام حسين بوجود توتر جدي بين العراق والكويت، واحتمال أن يتطور إلى تبعات عسكرية، فردت عليه بالتأكيد على ضرورة التفاهم والجهود الدبلوماسية، لكنها أضافت أنه ليس لأميركا رأي في الخلافات بين الدول العربية.
احتفلت أميركا، بقيادة بوش الأب بانتصارها، وهي تقود تحالفا من أكثر من ثلاثين دولة على العراق عام 1991. ومن مظاهر ذلك الاحتفال استعراض عسكري عام لم يتكرّر. لكن بوش الأب خسر في الانتخابات التي جرت في العام التالي للحرب أمام سياسي ديمقراطي شاب اسمه بيل كلينتون، كان يعرف أن ما يهم الناخب هو الاقتصاد، وأن انتصار بوش في الحرب لا يعني شيئا أمام تنصله من وعده بعدم زيادة الضرائب الذي شكّل ضربة سياسية قاضية له.
بقي بوش الأب، على الرغم من خسارته الانتخابات شخصية محترمة في أميركا. يمثل تاريخ حياته سجلا حافلا من بداياته العسكرية ضابطا طيارا في الحرب العالمية الثانية إلى المناصب التي احتلها، ممثلا لبلاده في الأمم المتحدة ومديرا لوكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) وعضوا في الكونغرس ثم نائبا للرئيس رونالد ريغان ثم رئيسا. وقد شهدت رئاسته انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية وانفراد الولايات المتحدة قطبا عالميا واحدا مهيمنا، وكان ذلك بالتأكيد ظرفا مناسبا تماما لبوش ليدير أزمة وحرب الخليج بالطريقة التي حصلت.
استثمارا منه التحالف الذي بناه ضد العراق، وإدراكا منه أهمية ربط العراق لقضيته مع القضية الفلسطينية، أطلق بوش الأب ما سميت عملية السلام بين العرب وإسرائيل في مؤتمر مدريد، والتي استمرت في إدارتي بيل كلينتون وبوش الابن، من غير أن تؤدي إلى دولة فلسطينية ذات سيادة، بل إلى مزيد من العنف والتوتر، ومزيد من البؤس للشعب الفلسطيني.
توفي بوش الأب عن عمر ناهز 94 عاما، وفيما يتم تذكره بإكبار في أميركا، فإن ذكراه في العراق والعالم العربي ستبقى مرتبطةً بوقوفه بقوة بوجه محاولة إعادة رسم الخرائط وتحريره الكويت، وإعادته لها دولة ذات سيادة، وبتدميره العراق في الحرب، ثم محاصرته القاسية.
دمّر بوش الأب العراق، لكنه لم يتقدم لاحتلال بغداد، ولم يسقط نظام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين. وتمتدحه، أحيانا، الأوساط الأميركية، ومن منظور تاريخي، على ذلك الموقف، بسبب ما شاهده الأميركيون من تبعات للغزو والاحتلال وإسقاط النظام التي حصلت في إدارة بوش الابن. وكان خطاب بوش الأب في اليوم الأخير من فبراير/ شباط عام 1991، بعد وقف إطلاق النار، إشارةً فهمها عراقيون، في أكثر من مكان، دعوة إلى قلب النظام. جاءت الإشارة، في لحظة الانهيار التام للقوات العراقية في الكويت، وانسحابها المبعثر على الطريق الرئيسي الرابط بين العراق والكويت، والذي عرف بطريق الموت، لكثرة الجنود العراقيين الذين قتلوا عليه في أثناء انسحابهم، وبدا مصير العراق كله مبعثرا في تلك اللحظة.
انطلقت قوى شعبية وسياسية معادية لنظام صدّام، لتسقط سلطة الدولة في محافظات الجنوب، ذات الغالبية الشيعية، ومحافظات الشمال ذات الغالبية الكردية. كانت تلك لحظة قاسية في تاريخ العراق الحديث، وتعامل معها النظام بقسوة. وبقي الجدل بشأن ما كان يريده بوش في ندائه العراقيين بأن يتحركوا ضد حكومتهم. وفرت إدارته منطقة حماية للقوى السياسية الكردية في محافظات إقليم كردستان الثلاث، في منطقةٍ أصبحت مستقلة عمليا عن سلطة بغداد. ولكن من غير إقامة دولة كردية مستقلة. استطاع نظام صدام حسين استعادة السيطرة بسرعة على باقي أنحاء العراق، وتمكن من إعادة الإعمار وتوفير الخدمات في ظروف صعبة، لكنه لجأ إلى استخدام مزيد من العنف والقسوة من أجل السيطرة على الحكم.
مع تلك الإشارة إلى العراقيين بالتمرّد بعد الحرب، بقي الجدل التاريخي أيضا بشأن إشارة أخرى قبلها، تمثلت فيما قالته سفيرة بوش الأب في العراق، إبريل غلاسبي، في مقابلتها الشهيرة مع الرئيس العراقي، قبل أيام من اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990. يومها، أخبرها صدام حسين بوجود توتر جدي بين العراق والكويت، واحتمال أن يتطور إلى تبعات عسكرية، فردت عليه بالتأكيد على ضرورة التفاهم والجهود الدبلوماسية، لكنها أضافت أنه ليس لأميركا رأي في الخلافات بين الدول العربية.
احتفلت أميركا، بقيادة بوش الأب بانتصارها، وهي تقود تحالفا من أكثر من ثلاثين دولة على العراق عام 1991. ومن مظاهر ذلك الاحتفال استعراض عسكري عام لم يتكرّر. لكن بوش الأب خسر في الانتخابات التي جرت في العام التالي للحرب أمام سياسي ديمقراطي شاب اسمه بيل كلينتون، كان يعرف أن ما يهم الناخب هو الاقتصاد، وأن انتصار بوش في الحرب لا يعني شيئا أمام تنصله من وعده بعدم زيادة الضرائب الذي شكّل ضربة سياسية قاضية له.
بقي بوش الأب، على الرغم من خسارته الانتخابات شخصية محترمة في أميركا. يمثل تاريخ حياته سجلا حافلا من بداياته العسكرية ضابطا طيارا في الحرب العالمية الثانية إلى المناصب التي احتلها، ممثلا لبلاده في الأمم المتحدة ومديرا لوكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) وعضوا في الكونغرس ثم نائبا للرئيس رونالد ريغان ثم رئيسا. وقد شهدت رئاسته انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية وانفراد الولايات المتحدة قطبا عالميا واحدا مهيمنا، وكان ذلك بالتأكيد ظرفا مناسبا تماما لبوش ليدير أزمة وحرب الخليج بالطريقة التي حصلت.
استثمارا منه التحالف الذي بناه ضد العراق، وإدراكا منه أهمية ربط العراق لقضيته مع القضية الفلسطينية، أطلق بوش الأب ما سميت عملية السلام بين العرب وإسرائيل في مؤتمر مدريد، والتي استمرت في إدارتي بيل كلينتون وبوش الابن، من غير أن تؤدي إلى دولة فلسطينية ذات سيادة، بل إلى مزيد من العنف والتوتر، ومزيد من البؤس للشعب الفلسطيني.
توفي بوش الأب عن عمر ناهز 94 عاما، وفيما يتم تذكره بإكبار في أميركا، فإن ذكراه في العراق والعالم العربي ستبقى مرتبطةً بوقوفه بقوة بوجه محاولة إعادة رسم الخرائط وتحريره الكويت، وإعادته لها دولة ذات سيادة، وبتدميره العراق في الحرب، ثم محاصرته القاسية.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020