القرارات الانقلابية الصادمة، ليست غريبة عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن ما صدر، ليل الخميس، من قرار عن البيت الأبيض، كان من الصنف الذي دعا الغالبية الساحقة من المراجع والدوائر والأوساط في واشنطن، إلى دق ناقوس الخطر بشأنه، كما لم يحصل من قبل.
بدأ ترامب نهاره بإعلان حرب تجارية، واختتمه باستبدال مستشاره للأمن القومي الجنرال إتش آر ماكماستر، بالسفير الأميركي السابق في الأمم المتحدة جون بولتون، "الحربي"، وأحد بقايا المحافظين الجدد الذين هندسوا غزو العراق عام 2003.
كلتا الخطوتين جاءت مشحونة بالألغام؛ الأولى، تنطوي على خطر اندلاع حرب تجارية دولية، لا يجني منها أحد غير الأذى والخسائر. والثانية أي تعيين بولتون، ليست أقل من "وصفة حرب مع كوريا أو إيران"، كما قال ريتشارد بانتر الأستاذ الجامعي والمحامي الرسمي للبيت الأبيض في زمن الرئيس الأسبق جورج بوش الابن.
قرار ترامب، بفرض تعريفة جمركية "تزيل الحيف التجاري" على حزمة بضائع من الصين قيمتها 60 مليار دولار تستوردها أميركا، إلى جانب قراره، قبل أيام، بفرض رسوم على استيراد الحديد 25%، والألمنيوم 10%، والذي يدخل حيز التنفيذ، اليوم الجمعة؛ يؤذنان بالعودة إلى الحمائية المحكومة بالاصطدام مع العولمة السائدة، وبما يوسّع رقعة المجابهة إذا ما تعذّر لجم انفلاتها. وأول إنذار في هذا الخصوص، صدر عن بورصة نيويورك التي هبطت تعاملاتها، اليوم الجمعة، بـ724 نقطة أي ما يعادل 3% من قيمة سوقها.
وجاء ذلك، حسب قراءات أسواق المال، كتعبير عن التخوّف من نشوب مثل هذه الحرب التجارية التي لا يستبعدها المختصون؛ لا سيما أنّ الصين توعّدت بالرد، وبما يؤدي إلى دحرجة حجارة الدومينو، خاصة إذا ما تمكّنت الإدارة الأميركية من جرّ بعض الحلفاء، كما تأمل، إلى لعبتها.
المعروف أنّ ترامب أصرّ على هذه السياسة، رغم تحذيرات معاونيه ومستشاره الاقتصادي الأول غاري كون الذي استقال اعتراضاً على الرسوم، بل رغم مناشدات كبار الاقتصاديين والأكاديميين، لا سيما أنّ الوضع الاقتصادي الأميركي في عزّ صعوده الذي لا يتلاءم مع الحمائية. وبالأخص أنّ تجارب هذا التوجه في زمن الرئيسين رونالد ريغان وبوش الابن، لحماية بعض الصناعات ومنها الحديد، باءت بالفشل وجرى التراجع عنها.
لذا، تساءل مراقبون عن الداعي لمثل هذا الإجراء الآن، وضد الصين بالذات، عشية القمة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، والتي لعبت بكين دوراً في عقدها. ويُطرح تساؤلٌ حول إمكانية أن يكون ترامب اتخذ قراره هذا، إما لإرضاء قاعدته التي وعدها بذلك أثناء الحملة الانتخابية، وإما لافتعال أزمة تطيح بالقمة الكورية أو تلهي عن متاعبه الداخلية.
وعلى الرغم من المجازفة التي ينطوي عليها قرار ترامب التجاري، إلا أنّ خطورته تبقى باهتة أمام التغييرات الأخيرة في مجلس الأمن القومي، وآخرها اختيار بولتون كمستشار لشؤون الأمن القومي محل الجنرال ماكماستر.
الإطاحة بماكماستر كانت بحكم المحسومة منذ أسابيع، ويبدو أنّ انتقاده في مؤتمر ميونخ الأمني، للتدخل الروسي المحتمل في الانتخابات الأميركية، أثار غضب ترامب وكتب نهاية دوره. ومع أنّ بولتون الذي لا يحتاج تعيينه في هذا المنصب لموافقة مجلس الشيوخ، برز في الأيام الأخيرة كبديل عن ماكماستر، إلا أنّ اختياره لم يخلُ من المفاجأة والتحدّي.
من المعلوم أنّ بولتون، كان قد رشّحه ترامب في بداية إدارته لمنصب نائب وزير الخارجية. لكن هذا الموقع يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ الذي حذر من تعيينه، ما فرض استبعاده.
ويُذكر أنّ الرئيس جورج بوش الابن، كان قد اختار بولتون، كسفير في الأمم المتحدة. لكن مجلس الشيوخ رفض الموافقة على تعيينه، ما حمل بوش على اغتنام فرصة وجود المجلس في إجازة، والقيام بتعيينه، لأنّ القانون يعفيه من تحصيل موافقة مجلس الشيوخ في هذه الحالة.
خدم بولتون في هذا الموقع، أقل من سنة ونصف بين 2005 ونهاية 2006، وشغل قبلها بين 2001 و2005 منصب معاون وزير الخارجية لشؤون الحد من الأسلحة. قضى مدته في الأمم المتحدة بالمناكفة والمشاكسة ضد المنظمة الدولية، بزعم أنّها معادية للولايات المتحدة.
بعدها انتسب إلى مؤسسة المشروع الأميركي "أميركان إنتربرايز إنستيتوت" المحافظة، ثم معلقاً في شبكة "فوكس نيوز" عرين اليمين الأميركي والحليف الإعلامي الأول للرئيس ترامب. والرجل لا يخفي قناعاته وتوجهاته ومواقفه، ويعمل على ترجمتها وتحويلها إلى سياسات، عكس ما تتطلب مهمته كمستشار، بأن يكون المصفاة الأخيرة للمعلومات والمواقف والآراء التي ترد من مختلف الوزارات المعنية إلى البيت الأبيض.
من قناعات بولتون، أنّه يدعو إلى ضربة عسكرية استباقية ضد كوريا الشمالية، على أساس أنّ الرئيس "يتمتع بالصلاحية" للقيام بمثل هذا الهجوم. كما يدعو إلى "تغيير النظام في إيران بالقوة"، ناهيك عن انحيازه الكامل لإسرائيل التي لا يمانع استخدامها للسلاح النووي ضد إيران.
وبذلك يكتمل العقد: غادر اثنان من "صمامات الأمان" في الإدارة الأميركية، وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي إتش آر ماكماستر. ويتردد أنّ ترامب في طريقه للتخلّص من كبير المسؤولين في البيت الأبيض الجنرال جون كيلي، وترك وظيفته شاغرة.
وليس معروفاً إلى متى يصمد الجنرال الثالث وزير الدفاع جيمس ماتيس، المعوّل عليه لفرملة البيت الأبيض. ولن يكون من المستبعد أن يغادر أو يجري حمله على المغادرة، بعد احتلال الصقور (بولتون، وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو، ورئيسة وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" جينا هاسبل) لمعظم مقاعد مجلس الأمن القومي السبعة.
معادلة أثارت مخاوف واسعة في دوائر السياسة الخارجية كما في الكونغرس. المثلث العسكري الكابح كما كان الاعتقاد، انتهت مدته والمرحلة القريبة ساخنة: في 12 مايو/أيار المقبل، يحل استحقاق بحث الاتفاق النووي الإيراني المرشح بقوة للنسف.
وفي الشهر ذاته، من المقرر انعقاد القمة الأميركية الكورية التي يمكن أن تصبح مهددة، أو أن تنعقد لتفشل، وليكون الفشل بالتالي مدخلاً لتصعيد لاحق. الاعتقاد السائد الآن بعد هذه التغييرات، في الإدارة الأميركية، أنّ كل السيناريوهات "الصدامية" صارت مفتوحة.