لا شيء يواسي أهل لبنان. مواطنون مطحونون بالأزمات المعيشية، لا كهرباء في بيوتهم، لا اتصالات وخدمات عامة، لا بنى تحتية، فيروس كورونا يفتك بهم، والمصارف تحتجز أموالهم، الليرة تنهار أمام الدولار، الاحتكار يسيطر على الأسواق ويرفع الأسعار بنسب تتعدى 500 في المائة، والفاسدون يسيطرون على كل مفاصل الحكم في البلاد... بؤرة المعاناة هذه تعرضت لانفجار مدمر، أتى على الأرواح والمباني والطرقات، وحكم على آلاف اللبنانيين بالتشرد.
أظهرت التحقيقات الأولية، أن الانفجار ناتج عن فساد كبير حل في مرفأ بيروت، أكثر من ألفي طن من نترات الأمونيوم كانت موجودة في العنبر 12 في مرفأ بيروت، مخزنة من دون أي إجراءات وقائية، يعلم بوجودها أهل الحكم والأحزاب والمسؤولون في إدارة مرفأ بيروت منذ العام 2013، ولم يقوموا بأي إجراء لإزالتها من مرفق اقتصادي تحيطه المناطق السكنية، أو لحمايتها وتحصين المخزن من وقوع الكارثة.
الحكومة اللبنانية اجتمعت أمس، وقررت وضع المسؤولين عن التخزين والحراسة في المرفأ قيد الإقامة المنزلية لمنعهم من السفر، وأسقطت المسؤولية عن كل الرؤوس الكبيرة في المرفأ والحكومة والأحزاب والبرلمان والقضاء وكل من يعلم بوجود هذه المواد ولم يحرّك ساكناً.
وحول مرفأ بيروت المدمّر، أحياء سكنية تجمع في كل بيت مصيبة؛ من جرحى وقتلى ومفقودين، إلى بيوت مهشّمة جزئياً أو كلياً، ما شرّد وفق محافظ بيروت مروان عبود أكثر من 300 ألف عائلة من بيوتها، وفيما الرقم غير مؤكد كونه غير ناتج عن مسح علمي، إلا أن الأكيد أن هذه العائلات التي خسرت بيوتها، عدد كبير منها ينوء تحت أزمة اقتصادية طاحنة.
الخسائر المقدرة وفق المحافظ تراوح بين 19 و15 مليار دولار، ولكن لا مسح أضرار حصل، ولا لجان رسمية تحققت من هذا الرقم ولا يوجد إحصاء حقيقي يمكن الركون إليه لتقدير ما خلّفه الانفجار الكبير فعلاً.
قبل الانفجار، ألحق الإغلاق للسيطرة على جائحة الفيروس التاجي خسائر كبيرة بالأعمال التجارية ولدى العمال غير الرسميين الذين يشكلون أكثر من نصف العمالة في لبنان، وسط تفاقم أزمة نقدية تركت معظم اللبنانيين غير قادرين على الوصول إلى مدخراتهم أو الاقتراض.
الحكومة مفلسة، دخلت في محادثات مع صندوق النقد الدولي من أجل خطة إنقاذ، إلا أن الخلافات بين الأحزاب السياسية وبين أركان المنظومة المالية من جهة والنقدية من جهة أخرى أوقفت المحادثات بعد عرض أرقام متناقضة عن حجم الخسائر المالية التي يرزح تحتها لبنان.
ثم جاء انفجار الثلاثاء الكارثي الذي اندلع خارج منطقة الميناء في العاصمة ليحطم كل شيء، مما أسفر عن مقتل أكثر من 130 شخصاً، وفقدان العشرات وإصابة أكثر من 5 آلاف لبناني.
جاء الانفجار ، الذي غذته شحنة كبيرة من نترات الأمونيوم المخزنة في الميناء على الرغم من تحذيرات السلامة المتكررة، في أسوأ مرحلة يمر بها لبنان، الذي يعاني من أعمق أزمة سياسية ومالية منذ انتهاء الحرب الأهلية منذ العام 1990. مع انحسار القتال، أصبح أمراء الحرب السابقون حكام البلاد، وفق ما يقوله تقرير "بلومبيرغ" "واقترضوا إلى أقصى درجة، ثم نهبوا خزائن الدولة لمدة ثلاثة عقود حتى لم يتبق فيها شيء".
طاول الانفجار الميناء الأكبر في البلاد ودمر صوامع الحبوب الرئيسية، مما يزيد توقعات ارتفاع الأسعار إلى أعلى المستويات مع تعطل سلاسل التوريد.
وكما العادة في كل مصيبة ترتكبها السلطات، طالب لبنان بمساعدة دولية مع تزايد المخاوف بشأن النقص في دولة تعتمد بشكل كبير على الواردات. قدمت فرنسا وألمانيا وقطر والكويت وسلطنة عمان ودول أخرى مساعدات طبية ومساعدة في عمليات الإنقاذ. لكن عقوداً من الفساد والفشل في إثبات أن الطبقة السياسية في لبنان جادة بشأن الإصلاح تعني أن المانحين لا يزالون مترددين في تزويد الحكومة أي دعم للميزانية، حيث إن أي مساعدة إنسانية تستهدف قطاعات محددة مثل الصحة.
وقال أيهم كامل، رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا، في مذكرة: "لم يعد يعتقد عدد كبير من الجمهور أن الحكومة قادرة على الإدارة. سوف تتعمق الأزمة الاقتصادية أيضا حيث إن الميناء هو صمام التجارة الرئيسي وقاعدة للعديد من السلع المخزنة التي تنتظر الدخول إلى الأسواق".
فقدت الحكومة عدداً من مستشاريها ومسؤوليها الرئيسيين واستقال وزير الخارجية هذا الأسبوع، محبطًا من أن النخب السياسية مشغولة للغاية بحماية مصالحها الخاصة بدلاً من اتخاذ الخطوات التي طالب بها المقرضون المحتملون لإنقاذ الاقتصاد من الدمار.
أعلنت السلطة أن بيروت "مدينة منكوبة"، وقال نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، فرحان حق، خلال مؤتمره الصحافي اليومي بنيويورك: "نتوقع أن يؤدي الضرر الذي لحق بالميناء إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والأمن الغذائي بشكل كبير في لبنان الذي يستورد نحو 80-85% من المواد الغذائية".
في الوقت نفسه، قال حق، إن برنامج الأغذية العالمي يقوم بتقييم الاحتياجات الغذائية واحتياجات المأوى للذين تضررت منازلهم، موضحا أن الأمم المتحدة "تنظر في جميع الخيارات لإيجاد طرق لتوفير المساعدة المالية لجهود الاستجابة المتواصلة".