مع تزايد الرفض الشعبي البيلاروسي للرئيس "المنتخب" بنسبة تفوق 80 في المائة، ألكسندر لوكاشينكو، يبرز دور الصورة والخبر كعاملين حاسمين في مواجهة مستمرة منذ نحو أسبوعين بين قوى الأمن والجيش المؤيدة للوكاشينكو من ناحية، وإعلاميين وصحافيين مؤيدين لحركة الشارع من ناحية ثانية.
ظلّ لوكاشينكو يردّد، على طريقة مستبدي العالم الثالث، طيلة الفترة الممتدة منذ اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات التاسع من أغسطس/آب الحالي، أنه لن يرحل عن السلطة إلا إذا قُتل. ورغم أن ما يقدر بـ200 ألف متظاهر يوم 23 أغسطس/آب خرجوا في شوارع مينسك يهتفون "ارحل"، إلا أنّ الرئيس اختار الظهور بمظهر "القوي" الذي يطوف بطائرة حوامة فوق المتظاهرين، برفقة طاقم إعلامي خاص به، ممسكاً بسلاح "كلاشنكوف" ومرتدياً جعبة عسكرية، مصرحاً باستهزاء أن المتظاهرين "فروا كالفئران" (فيما هم يصفونه بالصرصار). نزل الرجل إلى جنوده متجولاً ومعتلياً إحدى المدرعات والسلاح بيده، مهدداً مرة أخرى بقوة لم يستخدمها بعد.
أثار الظهور نقمة المعلقين على "تويتر"، حيث اعتبر بعضهم أنه أمام "حالة أفريقية"، وآخرون علقوا بالقول إنه "إنزال لإرهابي"، تعقيباً على نزوله من الحوامة وهو مسلح. ولفت معلقون بيلاروسيون باستهزاء لحمل لوكاشينكو كلاشنكوف "بلا مخزن طلقات... الخيانة في كل مكان"، وآخرون كتبوا "هؤلاء يخشون منه".
Lukashenka arrived at his residency with the gun in his hands. pic.twitter.com/Lzqj2rLaiq
— Franak Viačorka (@franakviacorka) August 23, 2020
الصورة الهامة عن شيطنة تحركات الشارع التي استفزت البيلاروسيين العاديين على مواقع التواصل الاجتماعي، استفزت أيضاً صحافيين عملوا في ماكينة البروباغندا الرسمية حتى وقت قريب. ففي شهادته، يقول كبير مذيعي المحطة التلفزيونية الرسمية المسيطر عليها من لوكاشينكو، "تي في بي تي" TV BT، سيرغي كوزلوفيتي، إنه منذ اليوم التالي لإعلان النتائج (يوم الاثنين 10 أغسطس/آب)، ومع اندلاع مظاهرات ليلية "كنا مضطرين لتقديم معلومات جافة عن وجود محتجين، ولكن في منتصف النهار بدأنا نشير بأصابع الاتهامات حول ما آلت إليه الأوضاع".
ويضيف كوزلوفيتي للتلفزيون الدنماركي عن آلية عمل الماكينة الدعائية في بيلاروسيا، المهيمن عليها حكومياً، "وصل إلينا بيان صحافي أُرسل إلى المحطات، حيث تزايد عدد المشاهدين أثناء قطع الإنترنت عن البلد لثلاثة أيام، لنقرأ على الناس أن المتظاهرين حفنة من مدمني المخدرات والعاطلين من العمل، وفي الواقع كان لي أصدقاء بين المحتجين الذين وصفهم البيان الرسمي بذلك الشكل، فلم نذكر شيئاً عن العنف وإطلاق النار على المحتجين، وفي تلك اللحظة الأخلاقية الحاسمة تخليت عن عملي وغادرت المحطة بعد عام من العمل فيها، فلم يكن إعلاما بل بروباغندا تستهدف البلد".
وقد شهدت بيلاروسيا خلال فترة الاحتجاجات إضرابات طاولت مذيعين وصحافيين في المؤسسات المهيمن عليها من الدولة. ومثل 300 من زملائه، شعر سيرغي كوزلوفيتي بعد الإضراب بأنه غير قادر على تحمل التحول إلى آلة دعائية لرئيس يتهم المتظاهرين بالعمالة والخيانة للخارج.
استُبدل صحافيون يعملون في تلك المؤسسات بعد إضرابهم ومُنع مَن وقّع على بيانات مؤيدة لنشر "الحقيقة" على التلفزيون من دخوله. أثناء فترة الإضراب، بدت شاشة التلفزيون الرسمي البيلاروسي خالية من المذيعين الذين أصروا على الابتعاد عن أداء الدور قبل أن يعلن لوكاشينكو قبوله إعادة إجراء الانتخابات الرئاسية ورفع يده عن وسائل الإعلام. وحين عاند لوكاشينكو مطالب الشعب تحول كوزلوفيتي وغيره إلى صحافة الموبايل. حملوا كاميراتهم ونزلوا إلى الشارع بين المتظاهرين ينقلون الحقيقة كما هي وليس من نصوص جاهزة من الدولة. على قناته في "يوتيوب" و"إنستغرام" تحول مع غيره إلى "صوت الناس"، بنقل مطالبهم وصورهم على عكس اتهامات لوكاشينكو أنهم "مدمنو مخدرات وعملاء للأجانب".
لعبة البروباغندا في بيلاروسيا تذكر صحافيين غربيين بذات ألاعيب مستبدي العالم الثالث، والدول العربية، حيث برز منذ البداية الاتهام بأن المتظاهرين "مندسون" و"عملاء للغرب".
مضى لوكاشينكو ومؤيدوه في بث دعاية تقول إن "حلف شمال الأطلسي يتدخل ويتجهز لاجتياح بيلاروسيا"، حيث يحذر مراسلون غربيون واسكندينافيون من أن الاتكاء على الدعم السياسي والإعلامي الروسي مستمر في جعل لوكاشينكو يتحدى إرادة شعبه، ومنظره وهو مسلح ببندقية روسية ليس سوى إشارة بالنسبة لهؤلاء إلى المدى الذي يريد الذهاب إليه في عناده.
لكنّ الحقيقة أنّه في روسيا البيضاء التي يتجول رئيسها بسلاحه مهدداً بحرب أهلية، لا يوجد حماية لحرية الصحافة والتعبير، وتطلق الصحافة الغربية على لوكاشينكو لقب "آخر ديكتاتوريي أوروبا". ورغم وجود 9 قنوات تلفزيونية تغطي في بثها كل أراضي الدولة، إلا أنها قنوات تخضع لهيمنة رجال لوكاشينكو ورقابة مشددة، ولا تبث أخبارا سوى التي ترسلها السلطات. وكذلك الصحافة، فهي تحت سيطرة رسمية حكومية.
وبحسب مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود" تحتل بيلاروسيا المرتبة 153 من بين 180 دولة في مؤشرات حرية الصحافة، فيما تحتل الدنمارك، على سبيل المقارنة، المرتبة الثالثة عالميا. ويصف مركز "فريدوم هاوس" الأميركي للأبحاث الديمقراطية بيلاروسيا بأنها "دولة بوليسية استبدادية يتم التلاعب فيها بكل الانتخابات، وبشكل صارخ يجري تقييد الحريات المدنية".