28 سبتمبر 2024
بين الديمقراطيتين.. الحقيقية والمتخيلة
رفيق عبد السلام
كثيراً ما يحمل العرب على أنفسهم بقسوة شديدة، في معرض ضيقهم من أوضاعهم العامة، وحالة الاستبداد والفوضى السياسية التي تعصف بهم، مرجعين ذلك، في الغالب الأعم، إلى افتقادهم الثقافة الديمقراطية، وعدم تشبعهم بالقيم الليبرالية. ويميل قطاع واسع من المثقفين العرب إلى تفسير محنة الديمقراطية بثقل الموروث التاريخي، وهشاشة قيم الحرية في ثقافتنا، ومن ذلك انتفاء مفهوم الفردية والذاتية المتحرّرة، نتيجة وطأة الجماعة والانصياع الأعمى للتقاليد، وما شابه ذلك. وتجد هذه القراءات مسوغا لها في الأدبيات الأنوارية الأوروبية، وخصوصا في نسختها الفرنسية التي نزعت إلى إقامة ضربٍ من الثنائية الحادة بين شرقٍ غارق في رتابة الجمود والتقاليد وأوروبا ناهضة وديناميكية ومتحرّرة من الماضي، وفي نظريات الاستبداد الشرقي، منذ كتب مونتسكيو مؤلفه المعروف برسائل فارسية.
وعلى الرغم من أن تراثنا السياسي ليس بريئاً من السلبيات والانحرافات، إلا أنه ليس من اليسير قبول هذه القراءات الماهوية والاستشراقية التي تعودت على بناء خنادق بين الثقافات والأمم، وكان هناك ثقافة راقية وديمقراطية بطبعها، واُخرى منحطة، وغير ديمقراطية بالطبيعة. والحقيقة أنه لا توجد ثقافة نمطية وموحدة، كما أن الثقافة ليست شيئا قبليا جاهزًا، بقدر ما هي حصيلة التفاعلات التاريخية وأشكال استدعاء وتأويل أهلها أو الحاملين لها، بل توجد ثقافاتٌ متعدّدةٌ داخل الثقافة الواحدة. وعليه، من التبسيط المخل تعليق كل مشكلاتنا وأزماتنا الماضية والحاضرة على شماعة الثقافة أو الموروث ومنظومة القيم. وإن كان هناك ما يستحق التشخيص الدقيق، وربما الإدانة، فهو الثقافة السياسية للنخبة التي بينت التجربة العملية أنها ضعيفة الالتزام بالمبادئ الديمقراطية، وتميل إلى الازدواجية والمخاتلة.
قبل سنوات قليلة، وفِي أجواء صعود تيار التغيير، تبدّدت كثيرٌ من تلك المقولات السلبية
والنمطية، وحل بدلا عنها مناخٌ تفاؤلي مطبوع برومانسية الثناء على شباب الثورات، وتطلعه للحرية والكرامة، من خلال مجاسرته على إسقاط أعتى دكتاتوريات المنطقة. فكم من النصوص النثرية والشعرية التي دونت احتفاءً بثورة بوعزيزي المظفرة في تونس، وكم من نصوص دونت ثناء على ثورة 25 يناير الواعدة في مصر.
كاتب هذه السطور ممن يميلون إلى ضرورة تغيير أرضية النقاش أصلا باتجاه مساحاتٍ أخرى، بعيدة عن عالم الثقافة والقيم، إذا أردنا فعلا أن نساهم في تقديم الحلول ومعالجة العاهات السياسية التي تنخر الجسم العربي. ومن ذلك فهم أن الإعاقة الديمقراطية عندنا لا تعود إلى ضعفٍ في تبني الفكرة الديمقراطية، ولا إلى موانع الثقافة والدين وعالم القيم والموروث، بل لعلها تعود إلى الفائض الديمقراطي النظري، في مقابل ضعف الحس التاريخي والعملي، وكأن العرب يقرأون النصوص، ويغرقون في الجدالات النظرية والفقهية أكثر مما يحسنون قراءة الواقع، وتحسّس طبيعة الأرض التي يقفون عليها. ولعل المقاربة التي قدمتها الفيلسوفة الألمانية الأميركية، حنة آرندت، تحمل بعضا من الصلاحية في هذا السياق، فمما ذكرته آرندت، أن أحد أسباب نجاح الثورة الأميركية مقارنة بالثورة الفرنسية يعود إلى أن الآباء المؤسسين في أميركا هم بالأساس رجال قانون وخبرة سياسية، مقارنة بأقرانهم الفرنسيين ممن غلبت عليهم التطلعات المثالية للفلاسفة أكثر من الاعتبارات العملية، وربما تبدو مشكلتنا أشد، حينما نجمع بين قصور النظر وخلل العمل.
لم يجد الخطاب العربي صعوبةً تذكر في تلقي الثقافة الليبرالية، وخوض معركة إعادة تأويل الإسلام على ضوء ضغوط الحداثة ومغرياتها، فقد زرعت الحركة الإصلاحية، منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهم في القرن التاسع عشر، بذور فكرة الحرية والحكم المقيد بسلطان القانون والدستور (في إطار ما سماه بعضهم بالمشروطة). وكان من الممكن لهذه المدرسة أن تمد جذورها، وتوسع آفاقها، ومساحات تاثيرها أكثر، لو توفرت الشروط السياسية والتاريخية التي تسمح للعرب بوضع هذه التطلعات السياسية التي عبر عنها الإصلاحيون موضع اختبار عملي، فقد خرج العرب من تحت أنقاض الحرب العالمية الأولى ممزقين ومجزئين، بعد طلاق تاريخي مؤلم مع الترك، وتراوحت أوضاعهم، فيما بعد، بين استعمار استيطاني ووصاية أجنبية. ثم جاءت موجة الاستقلال، لينخرطوا في بناء كيانات وطنية هشة وضعيفة، لا تستطيع الوقوف على رجليها، وزادهم المعطى الصهيوني هشاشةً وضعفا على ضعفهم. وبذلك أصبحت بنية الدولة العربية من أصلها عصية على الترويض والتهذيب الديمقراطيين، ومولدة بطبعها الأزمات. وعليه، من الخطا تجاهل كل هذه المعطيات السياسية والاستراتيجية، والهروب بدلا من ذلك إلى شماعة الفكر والثقافة، لتفسير هذه الإخفاقات. فشل العرب تاريخي سياسي، وليس ثقافيا أو معرفيا.
من الواضح اليوم أن السردية الديمقراطية (الرواية الديمقراطية) فرضت نفسها في العالم العربي، وأضحت من أكثر السرديات هيمنةً على النخب، خصوصا بعد انكسار الموجة الاشتراكية وخفوت جاذبيتها. وإذا استثنينا الجماعات الإسلامية العنيفة التي وضعت في مقدمة أولوياتها إعادة بناء خلافة متخيلة بقوة السلاح والقتال، فإن غالبية التيارات السياسية اتجهت إلى تبني الفكرة الديمقراطية على نحو أو آخر. القوى العروبية، وبعدما خبا وهج الناصرية والبعثية، أصبحت أميل إلى الأدبيات الليبرالية. ولبست المجموعات اليسارية، سواء التي تحالفت مع الحكومات أو التي بقيت في المعارضة، القبعة الديمقراطية. ومال الخط العام للإسلاميين أكثر فأكثر نحو الطرح الديمقراطي الليبرالي، سواء تحت عنوان الشورى أو القراءة البراغماتية للنظام الديمقراطي الحديث.
المشكلة الكبرى أن مكونات كثيرة في النخبة التي تبنت الفكرة الديمقراطية نظريا لم تمانع، واقعا، في تخريب المشروع الديمقراطي، وتسليم المقود لعساكر مغامرين بمسوّغات كثيرة. كما أن القوى السياسية التي توفرت لها فرصة زرع بذور المشروع الديمقراطي وقعت ضحية السردية الديمقراطية، من دون الأخذ بالشروط التاريخية لتحقيق المشروع الديمقراطي على أرض الواقع. كيف ذلك؟ نظرت هذه التيارات التي جاءت بها موجة الربيع العربي إلى النظام الديمقراطي من الزاوية النظرية البحتة، بدل أن تفهم توازنات الواقع، وتتتحسّس طبيعة الأرض التي تقف عليها. تصور هؤلاء أن الديمقراطية تتلخص في الانتخابات وثنائية الأغلبية والأقلية وإفراز البرلمانات وسن التشريعات، وليس أكثر من ذلك. بينما كان من الأحرى والأوْلى بناء توافقات سياسية وتأسيس أوسع قاعدة إجماع ممكن بين القوى السياسية لتحرير الحقل السياسي من قبضة الجيش والقوى المتنفذة، أو في الحد الأدنى تشذيبها وتهذيبها.
لم يدرك الإخوان المسلمون أن المشروع الديمقراطي الوليد، في بلدٍ مثل
مصر، مثقلٍ بالأزمات السياسية والمطالبة الاجتماعية، وبأعباء التدخل الخارجي، يحتاج إلى استمالة أكثر ما يمكن من القوى الاجتماعية والسياسية، وأخذ مصالح الآخرين بالاعتبار، في إطار ما يمكن تسميته فن التسويات والمساومات السياسية، وإن إدارة شؤون الحكم في هذه المنطقة تحتاج إلى ما هو أكثر من ثنائية الأغلبية والأقلية. كما أن تحالفهم مع التيارات السلفية، وإقحام موضوع الأسلمة، زاد في تعميق الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين، علما أن تيارات السلفية كانت، في أغلبها، مخترقة من المال الخليجي، وتحركها أصابع العسكر الخفية.
لا يمكن أن تشتغل الآليات الديمقراطية المعروفة في أجواء الصراع والاستقطاب، لأنها جعلت من أصلها لمعالجة آفة الصراع المُهلك على السلطة، من خلال تسليم الجميع بالآليات والقواعد العامة التي تسمح بتداول السلطة بصورة سلمية، والاستعاضة عن العنف الدموي لانتزاع السلطة أو الاحتفاظ بها، بعنف رمزي يقتصر على المنافسة والحملات الانتخابية الصاخبة. وتتعطل هذه الآليات، حينما يرفض أحد اللاعبين، أو بعضهم، التسليم بقواعدها العامة، أو حينما يتعمق الاستقطاب الداخلي. ولا يقتصر هذا الأمر على العرب، فقد رأينا كيف أصيبت ديمقراطية أوكرانيا في مقتل، بعد أن تعمق الانقسام بين شرق أوكراني منجذب إلى الحضن الروسي وغرب متعلق بأوروبا.
يجب أن يدرك الجميع أن الديمقراطية معركة شاقة ومرهقة في العالم العربي، ودونها موانع وكوابح كثيرة، لا لأن العرب ليسوا ديمقراطيين بالسجية، وإنما لأن هناك قوى داخلية، ومصالح كبرى إقليمية ودولية عصية على الترويض والقبول بالإرادة الشعبية.
لم يعد مجدياً اليوم الاستمرار في تلك الجدالات العقدية والكلامية بشأن علاقة السلام بالديمقراطية، وما إذا كانت الديمقراطية هي الشورى أو غيرها. ليست الديمقراطية عقيدة سياسية أو دينية تستوجب كل هذا النقاش. هي بكل بساطة مجموعة من الآليات التي تسمح بالتخفيف، مثلا، من الرغبة في التحكّم، والاستئثار بالحكم، وجمع السلطات في يد شخص واحد.
ليس مهما اليوم بناء نظريات ديمقراطية، الأهم بناء رؤية عملية في مواجهة آفة الاستبداد المستشري، وإقامة الحد الأدنى الديمقراطي، بما يساعد العرب على ترميم أوضاعهم، وحل مشكلاتهم في إطار مشروع عربي مشترك.
وعلى الرغم من أن تراثنا السياسي ليس بريئاً من السلبيات والانحرافات، إلا أنه ليس من اليسير قبول هذه القراءات الماهوية والاستشراقية التي تعودت على بناء خنادق بين الثقافات والأمم، وكان هناك ثقافة راقية وديمقراطية بطبعها، واُخرى منحطة، وغير ديمقراطية بالطبيعة. والحقيقة أنه لا توجد ثقافة نمطية وموحدة، كما أن الثقافة ليست شيئا قبليا جاهزًا، بقدر ما هي حصيلة التفاعلات التاريخية وأشكال استدعاء وتأويل أهلها أو الحاملين لها، بل توجد ثقافاتٌ متعدّدةٌ داخل الثقافة الواحدة. وعليه، من التبسيط المخل تعليق كل مشكلاتنا وأزماتنا الماضية والحاضرة على شماعة الثقافة أو الموروث ومنظومة القيم. وإن كان هناك ما يستحق التشخيص الدقيق، وربما الإدانة، فهو الثقافة السياسية للنخبة التي بينت التجربة العملية أنها ضعيفة الالتزام بالمبادئ الديمقراطية، وتميل إلى الازدواجية والمخاتلة.
قبل سنوات قليلة، وفِي أجواء صعود تيار التغيير، تبدّدت كثيرٌ من تلك المقولات السلبية
كاتب هذه السطور ممن يميلون إلى ضرورة تغيير أرضية النقاش أصلا باتجاه مساحاتٍ أخرى، بعيدة عن عالم الثقافة والقيم، إذا أردنا فعلا أن نساهم في تقديم الحلول ومعالجة العاهات السياسية التي تنخر الجسم العربي. ومن ذلك فهم أن الإعاقة الديمقراطية عندنا لا تعود إلى ضعفٍ في تبني الفكرة الديمقراطية، ولا إلى موانع الثقافة والدين وعالم القيم والموروث، بل لعلها تعود إلى الفائض الديمقراطي النظري، في مقابل ضعف الحس التاريخي والعملي، وكأن العرب يقرأون النصوص، ويغرقون في الجدالات النظرية والفقهية أكثر مما يحسنون قراءة الواقع، وتحسّس طبيعة الأرض التي يقفون عليها. ولعل المقاربة التي قدمتها الفيلسوفة الألمانية الأميركية، حنة آرندت، تحمل بعضا من الصلاحية في هذا السياق، فمما ذكرته آرندت، أن أحد أسباب نجاح الثورة الأميركية مقارنة بالثورة الفرنسية يعود إلى أن الآباء المؤسسين في أميركا هم بالأساس رجال قانون وخبرة سياسية، مقارنة بأقرانهم الفرنسيين ممن غلبت عليهم التطلعات المثالية للفلاسفة أكثر من الاعتبارات العملية، وربما تبدو مشكلتنا أشد، حينما نجمع بين قصور النظر وخلل العمل.
لم يجد الخطاب العربي صعوبةً تذكر في تلقي الثقافة الليبرالية، وخوض معركة إعادة تأويل الإسلام على ضوء ضغوط الحداثة ومغرياتها، فقد زرعت الحركة الإصلاحية، منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهم في القرن التاسع عشر، بذور فكرة الحرية والحكم المقيد بسلطان القانون والدستور (في إطار ما سماه بعضهم بالمشروطة). وكان من الممكن لهذه المدرسة أن تمد جذورها، وتوسع آفاقها، ومساحات تاثيرها أكثر، لو توفرت الشروط السياسية والتاريخية التي تسمح للعرب بوضع هذه التطلعات السياسية التي عبر عنها الإصلاحيون موضع اختبار عملي، فقد خرج العرب من تحت أنقاض الحرب العالمية الأولى ممزقين ومجزئين، بعد طلاق تاريخي مؤلم مع الترك، وتراوحت أوضاعهم، فيما بعد، بين استعمار استيطاني ووصاية أجنبية. ثم جاءت موجة الاستقلال، لينخرطوا في بناء كيانات وطنية هشة وضعيفة، لا تستطيع الوقوف على رجليها، وزادهم المعطى الصهيوني هشاشةً وضعفا على ضعفهم. وبذلك أصبحت بنية الدولة العربية من أصلها عصية على الترويض والتهذيب الديمقراطيين، ومولدة بطبعها الأزمات. وعليه، من الخطا تجاهل كل هذه المعطيات السياسية والاستراتيجية، والهروب بدلا من ذلك إلى شماعة الفكر والثقافة، لتفسير هذه الإخفاقات. فشل العرب تاريخي سياسي، وليس ثقافيا أو معرفيا.
من الواضح اليوم أن السردية الديمقراطية (الرواية الديمقراطية) فرضت نفسها في العالم العربي، وأضحت من أكثر السرديات هيمنةً على النخب، خصوصا بعد انكسار الموجة الاشتراكية وخفوت جاذبيتها. وإذا استثنينا الجماعات الإسلامية العنيفة التي وضعت في مقدمة أولوياتها إعادة بناء خلافة متخيلة بقوة السلاح والقتال، فإن غالبية التيارات السياسية اتجهت إلى تبني الفكرة الديمقراطية على نحو أو آخر. القوى العروبية، وبعدما خبا وهج الناصرية والبعثية، أصبحت أميل إلى الأدبيات الليبرالية. ولبست المجموعات اليسارية، سواء التي تحالفت مع الحكومات أو التي بقيت في المعارضة، القبعة الديمقراطية. ومال الخط العام للإسلاميين أكثر فأكثر نحو الطرح الديمقراطي الليبرالي، سواء تحت عنوان الشورى أو القراءة البراغماتية للنظام الديمقراطي الحديث.
المشكلة الكبرى أن مكونات كثيرة في النخبة التي تبنت الفكرة الديمقراطية نظريا لم تمانع، واقعا، في تخريب المشروع الديمقراطي، وتسليم المقود لعساكر مغامرين بمسوّغات كثيرة. كما أن القوى السياسية التي توفرت لها فرصة زرع بذور المشروع الديمقراطي وقعت ضحية السردية الديمقراطية، من دون الأخذ بالشروط التاريخية لتحقيق المشروع الديمقراطي على أرض الواقع. كيف ذلك؟ نظرت هذه التيارات التي جاءت بها موجة الربيع العربي إلى النظام الديمقراطي من الزاوية النظرية البحتة، بدل أن تفهم توازنات الواقع، وتتتحسّس طبيعة الأرض التي تقف عليها. تصور هؤلاء أن الديمقراطية تتلخص في الانتخابات وثنائية الأغلبية والأقلية وإفراز البرلمانات وسن التشريعات، وليس أكثر من ذلك. بينما كان من الأحرى والأوْلى بناء توافقات سياسية وتأسيس أوسع قاعدة إجماع ممكن بين القوى السياسية لتحرير الحقل السياسي من قبضة الجيش والقوى المتنفذة، أو في الحد الأدنى تشذيبها وتهذيبها.
لم يدرك الإخوان المسلمون أن المشروع الديمقراطي الوليد، في بلدٍ مثل
لا يمكن أن تشتغل الآليات الديمقراطية المعروفة في أجواء الصراع والاستقطاب، لأنها جعلت من أصلها لمعالجة آفة الصراع المُهلك على السلطة، من خلال تسليم الجميع بالآليات والقواعد العامة التي تسمح بتداول السلطة بصورة سلمية، والاستعاضة عن العنف الدموي لانتزاع السلطة أو الاحتفاظ بها، بعنف رمزي يقتصر على المنافسة والحملات الانتخابية الصاخبة. وتتعطل هذه الآليات، حينما يرفض أحد اللاعبين، أو بعضهم، التسليم بقواعدها العامة، أو حينما يتعمق الاستقطاب الداخلي. ولا يقتصر هذا الأمر على العرب، فقد رأينا كيف أصيبت ديمقراطية أوكرانيا في مقتل، بعد أن تعمق الانقسام بين شرق أوكراني منجذب إلى الحضن الروسي وغرب متعلق بأوروبا.
يجب أن يدرك الجميع أن الديمقراطية معركة شاقة ومرهقة في العالم العربي، ودونها موانع وكوابح كثيرة، لا لأن العرب ليسوا ديمقراطيين بالسجية، وإنما لأن هناك قوى داخلية، ومصالح كبرى إقليمية ودولية عصية على الترويض والقبول بالإرادة الشعبية.
لم يعد مجدياً اليوم الاستمرار في تلك الجدالات العقدية والكلامية بشأن علاقة السلام بالديمقراطية، وما إذا كانت الديمقراطية هي الشورى أو غيرها. ليست الديمقراطية عقيدة سياسية أو دينية تستوجب كل هذا النقاش. هي بكل بساطة مجموعة من الآليات التي تسمح بالتخفيف، مثلا، من الرغبة في التحكّم، والاستئثار بالحكم، وجمع السلطات في يد شخص واحد.
ليس مهما اليوم بناء نظريات ديمقراطية، الأهم بناء رؤية عملية في مواجهة آفة الاستبداد المستشري، وإقامة الحد الأدنى الديمقراطي، بما يساعد العرب على ترميم أوضاعهم، وحل مشكلاتهم في إطار مشروع عربي مشترك.
مقالات أخرى
19 يوليو 2024
20 يونيو 2024
03 مايو 2024