انتهز المهندس المعماري والمصمم المديني اللبناني إبراهيم منيمنة فرصة سؤاله في نهاية الحوار معه حول أسباب انخفاض عدد المباني التراثية في بيروت المشمولة ضمن "لائحة الحماية"، كي يبدي تفهّمه إزاء دوافع الناس للتأسف من جرّاء غياب جزء عزيز من ذاكرتهم، مضيفًا أن الذاكرة مرتبطة دائمًا بفراغ ما، وإذ لم يعد موجودًا إلا في الصور فإننا نكون في صدد محو ذاكرة جماعية للمدينة.
وقد يكون هذا المحو - في حالة بيروت - مرتبطًا أكثر شيء بسياق اقتصادي وتجاري، لكن لا شك في أنه ينطوي على أبعاد ثقافية - اجتماعية شديدة الخطورة.
وأحسب أنه يقصد بـ"الفراغ" المكان الذي يحدّد تاريخ الذاكرة الجماعية، فيقف حائلًا أمام المحاولات الرامية إلى أن تفرض على هذه الذاكرة الانسحاب من تاريخها ومكانها، وتزيين السبيل أمامها كي تبحث عن رواية جديدة، أو ربما تتشظّى إلى روايات فردية، كما أريد لحال الذاكرة الجماعية عندنا في فلسطين أن تكون.
وثمة الكثير من العوامل التي تقف وراء هكذا محاولات، أولها شروط المُسيطِر الأكولة في ما يختص بـ"تاريخ" المُسيطَر عليه وميراثه وكينونته.
اقــرأ أيضاً
ولا ندلي بجديد حين نعيد إلى الذهن قول الباحث إبراهيم أبو لغد بأن نظرة خاطفة إلى التاريخ الفلسطيني الحديث على امتداد العقود الستة التي تلت "وعد بلفور"، تظهر بجلاء أن الشعب الفلسطيني خضع لعمليتين حاسمتين فريدتين اتسمت بهما التجربة الفلسطينية في القرن العشرين، وتشكلان الأساس لمظهر مهم من مظاهر الكفاح الفلسطيني. وهاتان العمليتان التاريخيتان هما الاقتلاع من الأرض والتشتّت. فقد وجد شعب عاش على أرضه التاريخية وأنشأ هوية ثقافية فلسطينية متميّزة ومؤسسات اجتماعية واقتصادية وأنماطًا اجتماعية وثقافية محدّدة، نفسه وقد سلبت منه أكثر من سبعين بالمئة من أرضه التاريخية، وقامت إسرائيل باتباع سياسة تدمير صارمة لكل تعبير ماديّ عن ميراثه القومي. وهي لم تقدم على محو أكثر من أربعمئة قرية ومدينة فلسطينية خلال الأعوام 1948 - 1967 فحسب، بل أيضًا مستمرة في تدمير أي أثر ماديّ لوجود حضارة فلسطينية في مناطق 1948، ووسّعت عملية المحو لتشمل المناطق المحتلة منذ 1967.
وما تزال عملية إزالة آثار هذا المحو من طرف الأجيال الفلسطينية المتعاقبة في ذروتها.
وبغية الإضاءة على جانب واحد وبسيط منها، نشير إلى أنه قبل خمس سنوات فقط تمكنت "الرقمية للنشر والتوزيع الإلكتروني" في فلسطين من العثور على نسخة من أول رواية فلسطينية هي "الوارث" لخليل بيدس (1874 - 1949)، التي كتبها سنة 1920 بعد أن ترجم روايات أجنبية كثيرة عن الروسية، ونشر أكثرها في مجلة "النفائس".
اقــرأ أيضاً
ولدى إعادة نشرها جرى تصديرها بأنها "رواية اجتماعية غرامية تاريخية" وخطوة نحو إعادة الاعتبار إلى المكتبة الثقافية الفلسطينية التي عانت عقودًا من النسيان والتهميش تحت وطأة ضياع فلسطين، وضياع مكتبات أكثر أدبائها الذين أسسوا لحركة أدبية منذ بدأت فلسطين تتشكل وحدة جغرافية، وما لم يضع منها سرقه الذين سرقوا وطنًا بأكمله، باستثناء سكانه، فمن لم يقتلوه هجّروه، ومن لم يهجروه حاصروه، ومن هجروه سلبوا أملاكه وبيته وأرضه وكتبه.
وتوقع الناقد عادل الأسطة، الذي راجع الرواية وقدّم لها، أنه مع نشرها، الآن، فإن دارسين كثيرين ممن لم يقرأوها واعتمدوا في كتابتهم عنها على ما تركه لنا د. ناصر الدين الأسد من ملخّص لها في كتابه "خليل بيدس رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين" (1963)، سوف يعيدون النظر في ما كتبوا، وربما يكون هو واحدًا منهم. فـ"لقد كتبت عن صورة اليهود في الرواية، وحين شرعت في قراءتها، لاحظت أنني قد أكتب، الآن، غير ما كتبته يوم اعتمدت على الملخص الذي قدمه لنا د. الأسد".
اقــرأ أيضاً
وبحسب الناقد نفسه، كتب الروائي نصه لعامة القراء، وانحاز للفضيلة ضد الرذيلة، وراعى الجانب الفني. وربما تبدو "الوارث" الآن رواية عادية في موضوعها وأسلوبها وطريقة معالجتها، لكنها ستظل رواية مهمة لدارسي الأدب الفلسطيني وقارئيه، لكونها اللبنة الأولى في عمارة الفن الروائي الفلسطيني الذي أخذ ينمو ويزهو ويقوى، وينافس أيضا فنونًا أخرى مثل الشعر والقصة القصيرة.
بمثل هذه اللبنة يثبت الفلسطينيون أنهم أنشأوا ثقافة في وطنهم وأنهم كانوا يمتلكون هوية ثقافية متميّزة تشكل أساسًا ضروريًا للمجتمع السياسي وتؤكد الحاجة إلى إقامة دولة مستقلة تحافظ على هذه الثقافة وتطوّرهـا.
وأحسب أنه يقصد بـ"الفراغ" المكان الذي يحدّد تاريخ الذاكرة الجماعية، فيقف حائلًا أمام المحاولات الرامية إلى أن تفرض على هذه الذاكرة الانسحاب من تاريخها ومكانها، وتزيين السبيل أمامها كي تبحث عن رواية جديدة، أو ربما تتشظّى إلى روايات فردية، كما أريد لحال الذاكرة الجماعية عندنا في فلسطين أن تكون.
وثمة الكثير من العوامل التي تقف وراء هكذا محاولات، أولها شروط المُسيطِر الأكولة في ما يختص بـ"تاريخ" المُسيطَر عليه وميراثه وكينونته.
وما تزال عملية إزالة آثار هذا المحو من طرف الأجيال الفلسطينية المتعاقبة في ذروتها.
وبغية الإضاءة على جانب واحد وبسيط منها، نشير إلى أنه قبل خمس سنوات فقط تمكنت "الرقمية للنشر والتوزيع الإلكتروني" في فلسطين من العثور على نسخة من أول رواية فلسطينية هي "الوارث" لخليل بيدس (1874 - 1949)، التي كتبها سنة 1920 بعد أن ترجم روايات أجنبية كثيرة عن الروسية، ونشر أكثرها في مجلة "النفائس".
وتوقع الناقد عادل الأسطة، الذي راجع الرواية وقدّم لها، أنه مع نشرها، الآن، فإن دارسين كثيرين ممن لم يقرأوها واعتمدوا في كتابتهم عنها على ما تركه لنا د. ناصر الدين الأسد من ملخّص لها في كتابه "خليل بيدس رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين" (1963)، سوف يعيدون النظر في ما كتبوا، وربما يكون هو واحدًا منهم. فـ"لقد كتبت عن صورة اليهود في الرواية، وحين شرعت في قراءتها، لاحظت أنني قد أكتب، الآن، غير ما كتبته يوم اعتمدت على الملخص الذي قدمه لنا د. الأسد".
بمثل هذه اللبنة يثبت الفلسطينيون أنهم أنشأوا ثقافة في وطنهم وأنهم كانوا يمتلكون هوية ثقافية متميّزة تشكل أساسًا ضروريًا للمجتمع السياسي وتؤكد الحاجة إلى إقامة دولة مستقلة تحافظ على هذه الثقافة وتطوّرهـا.