نشط الحديث الأميركي عن إيران في الآونة الأخيرة. عوامل وتطورات عدة دفعته إلى الواجهة، على رأسها خطوات التصعيد التي اتخذتها إدارة دونالد ترامب في الفترة الأخيرة، واقتراب الذكرى السنوية الأولى (8 مايو/أيار المقبل) لانسحابها من الاتفاق النووي، ثم انتهاء مدة الإعفاءات (يوم الخميس في 2 مايو) التي منحتها واشنطن لبعض الدول لشراء النفط الإيراني.
ترافق ذلك مع استمرار التضارب في خطاب الإدارة الأميركية حول الموضوع، كما واكبته محاولات إيرانية نوعية لكسر الجليد، وربما لفتح خطوط ترمي إلى خفض حرارة الأزمة مع واشنطن.
منذ البداية، اختارت إدارة دونالد ترامب التشدد مع إيران. مع مجيء الثنائي جون بولتون – مايك بومبيو، نُظّم هذا التوجه، وبدأ يُترجم على الأرض بخطوات تسارعت وتيرتها مؤخراً. بالرغم من ذلك، بقي الوزير بومبيو يربط التصعيد بهدف حمل طهران على "تغيير سلوكها" في المنطقة والعالم، في حين بقي بولتون يتحدث، وإن مواربةً، عن "تغيير النظام".
تباين بين اثنين من الصقور تجاه إيران، أثار الحيرة والتساؤل. ثمة من يعزو ذلك إلى وجود خلاف غير محسوم داخل الإدارة حول سياستها الإيرانية، في حين يرى آخرون أن التضارب ليس في حقيقته سوى توزيع أدوار لإرباك القيادة الإيرانية، وتسعير خلافات الأجنحة في النظام لزعزعة تماسكه.
في اليومين الماضيين، ازداد التساؤل وارتسمت حوله علامات استفهام جديدة، لأن التباين بين بولتون وبومبيو تقاطع مع نشاطات قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في نيويورك وتواصل لأيام عدة.
المستشار جون بولتون، في رده أمس الأول الأحد على سؤال عما إذا كانت الإدارة تسعى من خلال حصارها وضغوطها إلى "تغيير النظام" في طهران، قال إن "الشعب الايراني يستحق نظاماً أفضل". شيفرة يعبر من خلالها عن موقفه المعروف باعتباره من دعاة التغيير.
وبعد أقل من 24 ساعة على تصريح بولتون، قال الوزير بومبيو في معرض رده على سؤال مماثل، بأن الإدارة تطالب إيران بممارسة "سلوك الدولة العادية". وأضاف: "إذا فعلت، فنحن مستعدون وبكل طيبة خاطر أن نتفاعل معها لنعيدها إلى حظيرة المجتمع الدولي". ومع أن التمايز بين الموقفين ليس بجديد، إلا أن كلام الوزير وتزامنه مع تحرك ظريف وخطابه من نيويورك أثار الاهتمام، لما انطوى عليه ذلك من إشارات رمزية متبادلة، ولو على سبيل جسّ النبض، للعثور على مدخل لوقف التدهور على الأقل.
التحرك الدبلوماسي الذي تولاه الوزير ظريف من نيويورك بدا أقرب إلى حملة دبوماسية مضادة من داخل الساحة الأميركية لاحتواء هجمة الإدارة والتخفيف من حدة اندفاعها. وقد نجح في إيصال رسالته، وربما كسب بعض التفهم، لكن من دون أي تعاطف.
تبدّى ذلك في مقابلات عدة أجرتها معه أكثر من شبكة ووسيلة إعلام أميركية، وفرت له منبراً هاماً في برامجها الأخبارية الرئيسية يوم الأحد. وقد نأى فيها ظريف عن لغة التحذير والتهويل ولا حتى بالتلميح. اكتفى بعرض سردية بلاده لأزمتها مع واشنطن، مع التركيز على الانسحاب من الاتفاق النووي الذي يعرف الوزير أنه أثار اعتراضات أميركية واسعة، حتى في أشد البيئات الأميركية خصومة مع إيران، مثل الكونغرس. وإذ اشتكى من التحريض الذي تقوم به "إسرائيل ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان لجر واشنطن إلى حرب مع ايران"، إلا أنه حرص على الإعراب عن اعتقاده بأن "الرئيس ترامب لن يفعل ذلك... لأنه تعهد في حملته الانتخابية بالكف عن حروب الخارج". إشارة فسرها البعض على أنها مؤشر على استعدادٍ للقيام بانعطافة إيرانية محتملة باتجاه الانفتاح، وإن مواربة، "لدرء مخاطر مدمرة" إذا نجحت واشنطن في تصفير صادرات النفط الإيراني، أو حتى تقليصها إلى حد كبير.
في هذا الصدد، جرى التوقف عند كلام ظريف الذي كشف عن "تلقيه رسالة من مسؤول أميركي تتعلق بتبادل السجناء بين البلدين" بما قد ينطوي على استعداد طهران للمضي بعملية من هذا النوع، لعلّها تكون ثغرة تؤدي إلى حلحلة، مهما كانت مساحتها ضئيلة. وزارة الخارجية الأميركية امتنعت عن التعليق على كلام ظريف. عدم نفيها يشير هو الآخر إلى انفتاح في هذا الخصوص. والمعروف أن استعادة سجناء أميركيين ورقة تخدم البيت الأبيض في حملة انتخابات الرئاسة التي دخلت بداياتها.
الإشارات التي صدرت عن الجانبين ربما جرى تحميلها أكثر مما تحتمل. المؤكد أنها غير معهودة، وإن مرت بالنهاية كسحابة صيف. والمؤكد الآخر أن إدارة ترامب تسارع في التصعيد من غير تصور واضح لمآلاته.
واقع يعكسه عزف بومبيو وبولتون على وترين مختلفين، حتى ولو كان عن عمد وتصميم. فلو كانت الخطة محسومة من ناحية الوسائل والأغراض، لكان من الطبيعي أن يتوحد خطاب الإدارة حولها في هذا الطور المتقدم من فصولها. ولحين تبلور المزيد من الخيوط، تبقى واشنطن مشغولة بالجدل حول جدوى وملاءمة سياسة التصعيد مع إيران وغاياتها الغامضة ومحاذيرها.