فاشلٌ في أن أجد قصّةً لأي شيء! إلّا لأنني اعتدتُ العبور بإهمال بين الثوابت، دون التوقّف عندها، أو لأنني ابن محطّة الأوتوبيس القديمة.
لحظة! هذه فكرة تحتاج أكثرَ من تفسير.
ولتبدأ الحكاية كما يلي: محطّة أوتوبيس وسط المدينة، المدينة الكسلى، الساعة (على برج مبنى البلدية) تشير إلى التاسعة. كانت تشير إليها طوال اليوم، منذ أسبوع، شهر أو سنوات، ظلّت تشير إليها طوال الليل. محطّة الأوتوبيس تنتظر مرور آخر زائر... تنتظر وتنتظر وتنتظر...
مشهدٌ ثانٍ: الليلة تطول، والمدينة نائمة، الأزقّة مهجورة من رياح نوفمبر الباردة، كلّ شيء واقف، منذ أسبوع، شهر أو سنوات، نفس الساعة واقفة، تنتظر من يصلحها... تنتظر وتنتظر وتنتظر...
مشهد ثالث: شخصٌ يتلقّى بضجر مِرسالاً من بعيد، يقلّب القِرطاسَ بين يديه، يفتحه ثم يلفّه ثانياً، وبنفس الضجر يشير بأكمامه إلى الحاشية أن "ابنوها هناك!". على قمّة الهضبة العالية، تبدأ الأشغال اللانهائية، أشغال دامت أسبوعاً، شهراً، سنوات ولم تنتهِ بعد. كان ذلك منذ ألف عام، ألف عام والمدينة تنتظر إتمام بنائها... تنتظر وتنتظر وتنتظر...
مشهد أخير: أنا، أُولَد على مصطبة الانتظار الباردة والغريبة، في محطّة الأوتوبيس وسط المدينة، كلُّ شيء حولي ينتظر: المحطّة، الساعة، الناس وليل المدينة. أنا كذلك، مثلهم، أنتظر وأنتظر وأنتظر...
في كتابه "أفواه الزمن"، يكتب إدواردو غاليانو، بلسان صيّاد الذهب القديم، الشبح الأخير، وهو منكفئ يبحث في الرمال عن معدن أحلامه: "زوجتي جميلة جدّاً، إنها تنتظرني! في العشرين من عمرها، منذ نصف قرن وهي في العشرين، في مكان ما من العالم".
بنفس الكيفية أعذر ذلك الإحساس العرضي لأستاذي الفلسطيني، وهو يعبر شارعاً عامراً، يفتح ذراعيه للناس، والتاريخ يحضن الكلَّ في رحم الغرابة، غرابة المكان في قلب سائح. الحركة في الشارع ليست إلّا تمثُّلاً عرضياً لانتظار ما.
الكاتب يكتب، ممرِّراً أطراف أصابعه على جدران البلدة القديمة، يفتح شبّاكه فجراً لصوت المئذنة الشجي، المنظوم بوحشة على مقام مغربي. أفكّر: وجدة، مدينة الأربع مئة مئذنة ترحّب بك، وبكل من صحبك من أبناء العمومة. هذه الحميمية الشرقية، على ضفاف "الواد الناشف"، واد الزمن الجافِّ والمنسي، الذي يفلق المدينة نصفَين من حجرٍ، فخ بائسٌ، يفلت العابرين عادةً بصيغة جمالية، ويمسك أبناءه بمخلب الانتظار.
حيرةٌ، كما كان اسم المدينة القديم، هي ما يضعك فيها المكان الثابت، بجدلية ارتباطه بالزمان المتغيّر، تنافر وبطء؛ أنت هنا موجود، وهناك يمرُّ كل شيء أمامك، وما بينكما هوّة لا تقدِر على عبورها مسيراً إلى نفسك في الضفّة الثانية. نفس الهوّة تفصل المدينة عن اكتمالها، تفصل عقرب الساعة عن حركته، المحطّة عن القادم الجديد.
أقعدُ، على مصطبة باردة وغريبة، وأفكر مقلّداً طاليس: الانتظار هو كلُّ شيء.
* كاتب من المغرب