في أثناء تجولي في شوارع العاصمة السيريلانكية، كولومبو، عرض شاب سيريلانكي أن يكون مرشدي السياحي في المدينة. وفي أثناء سيرنا في ميدان العاصمة، أشار الشاب إلى حطام فندق كبير وقال:"هذا الفندق المُدمر قصفته طائرات نمور التاميل المعارضة للحكومة وقتلت عدداً كبيراً من الناس". دهشت من قدرة حركة نمور التاميل على قصف العاصمة بالطيران.
عبر تتبع قصة نمور التاميل كحركة معارضة مسلحة ناضلت ضد حكومة وجيشها النظامي، يمكن اكتشاف ماذا حققت الحركة على الأرض بعدما امتلكت هذه القوة العسكرية الجبارة والضاربة.
قصة نمور التاميل
تأسست حركة "نمور التاميل" عام 1976 بهدف الضغط على النظام للاعتراف بحقوق أقلية التاميل الهندوسية، التي تشكل 18% تقريبا من سكان سيريلانكا، وبعد انسداد الأفق السياسي أمام نضالها الدستوري اتخذت العنف وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية، إذ تمت عسكرة الحركة بالكامل وتكوين جناح عسكري لها ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
أولاً نمور البحر: هي قوة حربية برمائية تقوم باستخدام القوة البحرية وعمليات الدعم اللوجستي وخدمات النقل البحري، وتعتمد في الأساس على عدد من الزوارق الخفيفة. وكان ينتسب إلى هذه القوة حوالى 2000 جندي وقد دمرت قوة نمور البحر قرابة 35 ٪ إلى 50٪ من القوات البحرية السيريلانكية الساحلية.
ثانياً نمور الجو: تُعتبر نمور التاميل هي المنظمة الوحيدة والجهة غير الحكومية الوحيدة على مستوى العالم، التي كانت تمتلك قوة جوية تتكون من خمس طائرات خفيفة. ظهرت تلك القوة لأول مرة في عام 2007 عندما قاموا بمهاجمة قاعدة جوية للجيش السيريلانكي. وقاموا لاحقا بأربع غارات جوية في 2009 ، وأسقط الجيش السيريلانكي طائرتين لنمور الجو في هجوم انتحاري على كولومبو.
ثالثاً النمور السود: هي المجموعة الخاصة بالعمليات الانتحارية التى تأمر منتسبيها بالتضحية بالنفس، والموت من أجل الحركة عبر إعطائهم كبسولات من سم السيانيد يتم تناولها في حالة القبض عليهم، وقد تمكن الجناح العسكري للحركة من اغتيال حاكم منطقة جافنا عام 1975، واغتيال رئيس الوزراء الهندي، راجيف غاندي، في مدينة مدراس عام 1992، واغتيال رئيس سيريلانكا، بريماداسا، سنة 1993، بالإضافة إلى الهجوم على مطار كولومبو عام 2001.
اقرأ أيضا: مصر.. أكذوبة الشعب المسالم بطبعه
حصاد العسكرة
دخلت سيريلانكا في حرب أهلية طاحنة تعد من أطول الحروب الأهلية في القارة الآسيوية؛ إذ استخدم الجيش السيريلانكي القوة المُفرطة تجاه سكان المناطق التي توجد فيها حركة نمور التاميل وهجرهم قسراً، وهذا أدى إلى زيادة حدة الصراع وأنشأ حاضنة اجتماعية متعاطفة مع استخدام العنف ضد النظام، وفي النهاية تمكن الجيش السيريلانكي من قتل زعيم حركة نمور التاميل، فلوبيلاي برابهاكران، والقضاء على العديد من قواته، وهذا ما دعا الحركة لإعلان الاستسلام بعد 30 عاما من القتال بين نمور التاميل والحكومة المركزية، وبعدما بلغ عدد ضحايا النزاع قرابة (70 ألف قتيل، 900 ألف لاجئ، 100 ألف نازح).
النتيجة الصادمة في قصة نمور التاميل هى هزيمتهم واستسلامهم الكامل على الرغم من تمتعهم بالقوة العسكرية الضاربة، والعقيدة العسكرية الراسخة، والبيئة الجغرافية المساعدة، وعدم تحقيقهم أي هدف سياسي سعوا إليه وقدموا التضحيات من أجله، ما جعلني أصل لقناعة قوية مفادها أنه لا يمكن لتنظيم معارض أن يتغلب على نظام عسكري بدون تعاطف جماهيري في طول البلاد وعرضها؛ فليس كافياً أن يحصل التنظيم على القوة العسكرية الضاربة، وتأييد دائرته الاجتماعية العرقية أو الدينية أو الأيديولوجية الضيقة.
لدعم هذه القناعة السابقة، سأعرض لكم تجربة أخرى تُرسخ هذه الفكرة. في المرحلة الجامعية وأنا طالب في كلية الآداب في جامعة القاهرة، شاهدت لأول مرة شعار الجماعة الإسلامية، ورأيت مظاهراتهم الصاخبة، واستمعت إلى هتافهم الشهير " يا مبارك .. يا مبارك .. المنصة في انتظارك ..." فما هي قصتهم؟؟ وما هي مسيرتهم، وكيف انتهى مسارهم ؟؟
اقرأ أيضا: بانتظار المصالحة مع الرئيس المؤمن صدقي صبحي
تجربة الجماعة الإسلامية المصرية
تأسست الجماعة الإسلامية في مصر أوائل سبعينيات القرن الماضي على يد صلاح هاشم في جامعة أسيوط، وكان لها أعضاء في معظم الجامعات المصرية. اقتصرت الجماعة في سنواتها الأولى على الأنشطة الثقافية والاجتماعية، وعارضت استضافة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، شاه إيران، ورفضت زيارة السادات القدس المحتلة وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وفي الثمانينيات من القرن المُنصرم تحالفت الجماعة مع تنظيم الجهاد للإطاحة بالنظام، وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981 اغتالت مجموعة من الجماعة وتنظيم الجهاد بقيادة الملازم الأول، خالد الإسلامبولي، أنور السادات في أثناء حضوره العرض العسكري السنوي لذكرى انتصار أكتوبر 1973.
بعد يومين من ذلك الحدث، هاجم أعضاء الجناح العسكري للجماعة مديرية الأمن ومراكز الشرطة في أسيوط، واحتلوا المدينة في معركة شديدة قتل فيها عدد كبير من أفراد الشرطة والقوات الخاصة، وأدى اغتيال المتحدث باسم الجماعة، علاء محيي الدين، في أغسطس/آب 1993، إلى اندلاع شرارة مواجهات دموية عنيفة بين الجماعة وبين نظام مبارك، واغتالت الجماعة رئيس مجلس الشعب السابق، رفعت المحجوب، ثأراً لاغتيال المتحدث باسمها. وتواصلت المواجهات بين الجماعة والنظام سبع سنوات انتهت بإعلان قادة الجماعة الإسلامية مبادرة لوقف العنف في يوليو/تموز1997 بعد قيامها بمراجعات لمنهجها.
يتضح لنا من تجربتي نمور التاميل والجماعة الإسلامية ستة محاور استراتيجية هامة هي:
أولاً: حمل التنظيمات السلاح واستخدامها القوة في التغيير لا يُعد مرادفا للانتصار وتحقيق الأهداف السياسية، التي تُناضل في سبيلها.
ثانياً: الأنظمة العسكرية محترفة ومعتادة على مواجهة العنف المسلح، ولها أدواتها الفعالة والناجزة في هذا المضمار، بل العديد من الأنظمة المستبدة عندما تواجه تياراً معارضا قويا تميل إلى عسكرة النزاع، وجر الفريق المعارض إلى حمل السلاح حتى يسهل عزله والقضاء عليه.
ثالثاً: تحقيق التنظيمات المُسلحة خسائر في صفوف النظام وقواته وتعطيل البلاد لا يساوي النصر؛ فالتاميل كبدوا النظام السيريلانكي خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك فشلوا في تحقيق أهدافهم، والجماعة الإسلامية نجحت في اغتيال رئيس النظام السياسي المصري لكنها فشلت في تحقيق أهدافها في نهاية المطاف.
رابعاً: لجوء التنظيمات السياسية للنضال المسلح في الدول القومية يتسبب في عزلها بدرجة كبيرة عن مكامن التأييد والدعم الجماهيري العام، وبالتالي يسهل التغلب عليها من قبل النظام.
خامساً: التنظيمات المسلحة عادة ما تستخدم خطاباً أيديولوجياً حاداً، حتى تتمكن من الحفاظ على الروح القتالية لأفرادها؛ وهذا الخطاب الأيديولوجي لا يجذب الجماهير ولا يتناسب مع اهتمامها ؛فالتحليل القائل بأن النزاع الدائر في مصر الآن هو معركة بين الإسلام والعلمانية، أو بين الكفر والإيمان لا يكاد يحظى بدعم جماهيري يُذكر.
سادساً: غالبا استخدام العنف في إحداث التغيير في التجارب السياسية المعاصرة لم يفض إلى بناء مجتمعات حرة، بل زاد من حدة الصراع السياسي وأدخل العديد من المجتمعات في حروب أهلية طاحنة مفتوحة المدى.
-------
اقرأ أيضاً:
مصر.. القصاص ليس الحلّ