04 نوفمبر 2024
تجهيل الفلسطينيين وموتهم المعلن
قبل العام 1948، وإلى جانب مدارس تابعة لحكومة الانتداب البريطاني ضمّت العدد الأكبر من الطلاب، وجدت في فلسطين مدارس خاصة، عربية وأجنبية. وبلغ عدد الطلاب الفلسطينيين في مختلف المدارس عشية النكبة 120.000 طالب وطالبة، من مجموع السكان العرب الذي بلغ 1.238.000، ووصل معدّل من يستطيعون القراءة والكتابة، والمتعلمين من الفلسطينيين عام 1921، إلى 45%، وهي نسبة متقدمة، مقارنةً بواقع الأمية في الوطن العربي في حينه.
بوقوع فلسطين تحت الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، لم يخسر الفلسطينيون وطنهم، بل أيضا، مصادر عيشهم، أراضيهم التي أجادوا زراعتها، وِرَشَهم، وظائِفَهم، أعمالَهم التجارية، ومدارسَهم ومعاهدَهم وجامعاتِهم. تمسّك اللاجئون الفلسطينيون في بلدان اللجوء بالتعليم أملا وحيدا لحياة أفضل، وعيش كريم، وحَرِصوا على حُصول بناتهم وأبنائِهم على الشهادات الدنيا والعليا، وكانوا في شَتاتِهم عصاميين انطلقوا من صفر اقتصادي واجتماعي.
بداية، شكّل اللاجئون عبئا إنسانيا واجتماعيا، خدميا على المدن العربية المُضيفَة، لكنّهم لم يكونوا عبئا اقتصاديا. وبالإضافة إلى انخراطهم في النضال السياسي عبر حركاتهم الوطنية، كانت كفاءاتهم الفنية والعلمية حصانةً لهم ولأبنائهم، ضد أمراض اجتماعية كثيرة. وسرعان ما اندمجوا في سوق العمل، فكان لهم في لبنان (على سبيل المثال) إسهام حقيقي في نهضة قطاعاتٍ كثيرة، وانتعش الاقتصاد اللبناني بقدومهم بنحو 15 مليون جنيه إسترليني (تعادل اليوم 24 مليار دولار)، وأسهمت اليد العاملة الفلسطينية المدرّبة في العمران، وفي تطوير السهول الساحلية اللبنانية. وكان لإقفال ميناء حيفا، ومطار اللد، شأن مهم في تحويل التجارة والحركة إلى بيروت ميناءً ومطارا. ومن الناحية التعليمية، كان عدد منتسبي الجامعة الأميركية في بيروت من الفلسطينيين، قبل النكبة وبعدها، يضاهي عدد اللبنانين والسوريين (عبد القادر الحسيني، هشام شرابي، كمال ناصر، حيدر عبد الشافي، جورج حبش، وديع حداد...). أما قاعات الجامعة ومدرّجاتها فسمي بعضها بأسماء فلسطينيين أسهموا في نهضة لبنان (طلال أبو غزالة - يافا، وحسيب الصباغ - طبريا).
بفضل جهود وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تَوفّر للفلسطينيين تعليم مناسب، وحظيت مدارسها بالتقدير والسمعة الحسنة، ونافس متفوقوها أشقاءهم العرب في كل المراحل التعليمية، واحتلت نسبة المتعلمين من الفلسطينيين المرتبة الأولى عربيا، ونسبا متقدمة عالميا، في غير مُؤشّر.
تقدم "أونروا" اليوم خدماتها التعليمية في 711 مدرسة، في مناطق عملها، لأكثر من نصف مليون تلميذ وطالب فلسطيني، تحت إشراف 22 ألف معلم ومدرس (غالبيتهم من الفلسطينيين). انعكاس تعليم اللاجئين على أوضاعهم الاقتصادية إيجابا، والدخل المرتفع لمعلمي "أونروا" (بفضل انخفاض القيمة الشرائية لعملات البلدان المضيفة، والارتفاع المضطرد لسعر الدولار، سيما منذ الثمانينات)، منح المعلم فلسطينيا قيمة اجتماعية عالية، وأشتهر المعلمون الفلسطينيون (قسم كبير منهم تم إعدادهم في المعاهد التابعة للوكالة) بكفاءاتهم التربوية والتعليمية.
منذ تأسيسها اعتمدت "أونروا" على مساهمات المانحين الدوليين، وتعدّ الولايات المتحدة الأميركية أكبرهم. ومع تزايد عدد اللاجئين، واحتياجاتهم، باتت برامج عملها تحتاج إلى موازنة تبلغ مليارين ومائتي مليون دولار. وبعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مطلع العام الحالي التراجع عن تمويل "أونروا"، جمّدت واشنطن مبلغ 300 مليون دولار من أصل مبلغ إجمالي قدره 365 مليون دولار، ساهمت بها في عام 2017. واستمرارا للابتزاز السياسي للفلسطينيين، وسعيا منه إلى شطب "أونروا" بوصفها العنوان السياسي الأبرز لقضية اللاجئين الفلسطينيين (مقال للكاتب في "العربي الجديد"، 29/8/2018)، تمهيدا لإغلاقها، وشطب قضية اللاجئين على طاولة مفاوضات تُفرض على الفلسطينيين، تحت سقف "صفقة القرن"، يعلن ترامب أخيرا التوقف عن دعم "أونروا".
80% من موازنة "أونروا" تصرف على التعليم، ما يعني أن هذا القطاع سيكون المتضرّر الأكبر، في المدى المنظور والمباشر، جرّاء الخطوة الأميركية التي ستحرم اللاجئين من حقهم وفرصهم في التعلّم، وذلك سيكون له، مع انعكاسات أخرى للخطوة الأميركية، عواقب تهدّد استقرار المنطقة، وتشكل تهديدا حقيقيا لوجود اللاجئين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من انطلاق العام الدراسي لتلاميذ "أونروا" في موعده، إلا أن المفوّض العام للوكالة، بير كرينبول، أعلن الشهر الماضي أن ما لدى الوكالة من تمويل يكفي لإدارة عملياتها حتى نهاية سبتمبر/ أيلول الحالي فقط، ما يهدّد العملية التعليمية بالتوقف. وتضغط الولايات المتحدة على دول عربية وأوروبية لأن تحذو حذوها في حصار الوكالة ماليا، كما كشفت تسريباتٌ صحافيةٌ أن الإدارة الأميركية أبدت استعدادها لتقديم دعم مالي لأولئك الفلسطينيين، مشروط بصيغ تضمن نزع صفة اللجوء عنهم. من ذلك، أن تتلقى الدول المضيفة الأموال المخصصة للاجئين، لتسيّر شؤونهم بديلا عن "أونروا".
يخشى الفلسطينيون ضياع فرص تعليمهم، وهم قلقون على مصيرهم الذي بات مجهولا، وعلى هويتهم الحقوقية والسياسية بصفتهم لاجئين، ويحقّ للدول المضيفة، التي هي أصلا تخشى توطينا للفلسطينيين يبدو اليوم قاب قوسين أو أدنى، أن تشعر بالقلق من الانعكاسات المباشرة، في حال توقف مدارس "أونروا" عن العمل، على أمنها الاجتماعي، لاسيّما وأن مدارسها تعاني نقصا في الموازنة، وفي البنى التحتية والكوادر، كما تدنّت قدرتها الاستيعابية مع اكتظاظ بعضها باللاجئين الناجين من أتون الحرب السورية. أما في المدى البعيد، وتفاعلا مع الخطوة الأميركية وانعكاساتها المحتملة، بدأ حديثٌ في وسائل إعلامية، ومواقع تواصل اجتماعي، يتناول ما تبقى من تجمعات ومخيمات للاجئين الفلسطينيين بوصفها بيئاتٍ مؤهّلة لإنتاج الإرهاب واحتضانه.
يبدو حديثٌ كهذا كلمة حق يُراد بها باطل، فخضوع اللاجئين للتهميش، والإفقار، وسياسات التمييز، والتقليص المضطرد للصفة القانونية لوجودهم في المجتمعات المضيفة إلى حدودها الدنيا، والتعامل معهم عبر البوابة الأمنية تارة، والطائفية تارة أخرى، إضافة إلى خطر التجهيل الذي يتهدّدهم اليوم بإغلاق مدارسهم، عوامل كفيلة بحرفهم نحو الإرهاب، وغيره من أمراض اجتماعية، شأنهم في ذلك شأن أي تجمّع بشري محبط، يواجه ظروفا موضوعية تجعله أهلا لذلك. لكن أن يصبح هذا الحديث، المدار والموجّه، تسويقا للاجئين بوصفهم خطرا إرهابيا، وقنابل موقوتة تهدّد استقرار المنطقة، بغية التحريض عليهم، وأن ينقلب القلق من احتمالات ذلك وبالا على الضّحية، مع التغاضي عن مواجهة الجلاد، هو في حد ذاته تواطؤ مع الخطوات الأميركية - الإسرائيلية الحثيثة التي تجعل قضية اللجوء الفلسطيني "قصة موت معلن".
بعد طول انتظار في محطات التخلي عن اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم سياسيا، يبدو أننا مقبلون هذه المرة على فشل مقصود في التعامل معهم إنسانيا.
بوقوع فلسطين تحت الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، لم يخسر الفلسطينيون وطنهم، بل أيضا، مصادر عيشهم، أراضيهم التي أجادوا زراعتها، وِرَشَهم، وظائِفَهم، أعمالَهم التجارية، ومدارسَهم ومعاهدَهم وجامعاتِهم. تمسّك اللاجئون الفلسطينيون في بلدان اللجوء بالتعليم أملا وحيدا لحياة أفضل، وعيش كريم، وحَرِصوا على حُصول بناتهم وأبنائِهم على الشهادات الدنيا والعليا، وكانوا في شَتاتِهم عصاميين انطلقوا من صفر اقتصادي واجتماعي.
بداية، شكّل اللاجئون عبئا إنسانيا واجتماعيا، خدميا على المدن العربية المُضيفَة، لكنّهم لم يكونوا عبئا اقتصاديا. وبالإضافة إلى انخراطهم في النضال السياسي عبر حركاتهم الوطنية، كانت كفاءاتهم الفنية والعلمية حصانةً لهم ولأبنائهم، ضد أمراض اجتماعية كثيرة. وسرعان ما اندمجوا في سوق العمل، فكان لهم في لبنان (على سبيل المثال) إسهام حقيقي في نهضة قطاعاتٍ كثيرة، وانتعش الاقتصاد اللبناني بقدومهم بنحو 15 مليون جنيه إسترليني (تعادل اليوم 24 مليار دولار)، وأسهمت اليد العاملة الفلسطينية المدرّبة في العمران، وفي تطوير السهول الساحلية اللبنانية. وكان لإقفال ميناء حيفا، ومطار اللد، شأن مهم في تحويل التجارة والحركة إلى بيروت ميناءً ومطارا. ومن الناحية التعليمية، كان عدد منتسبي الجامعة الأميركية في بيروت من الفلسطينيين، قبل النكبة وبعدها، يضاهي عدد اللبنانين والسوريين (عبد القادر الحسيني، هشام شرابي، كمال ناصر، حيدر عبد الشافي، جورج حبش، وديع حداد...). أما قاعات الجامعة ومدرّجاتها فسمي بعضها بأسماء فلسطينيين أسهموا في نهضة لبنان (طلال أبو غزالة - يافا، وحسيب الصباغ - طبريا).
بفضل جهود وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تَوفّر للفلسطينيين تعليم مناسب، وحظيت مدارسها بالتقدير والسمعة الحسنة، ونافس متفوقوها أشقاءهم العرب في كل المراحل التعليمية، واحتلت نسبة المتعلمين من الفلسطينيين المرتبة الأولى عربيا، ونسبا متقدمة عالميا، في غير مُؤشّر.
تقدم "أونروا" اليوم خدماتها التعليمية في 711 مدرسة، في مناطق عملها، لأكثر من نصف مليون تلميذ وطالب فلسطيني، تحت إشراف 22 ألف معلم ومدرس (غالبيتهم من الفلسطينيين). انعكاس تعليم اللاجئين على أوضاعهم الاقتصادية إيجابا، والدخل المرتفع لمعلمي "أونروا" (بفضل انخفاض القيمة الشرائية لعملات البلدان المضيفة، والارتفاع المضطرد لسعر الدولار، سيما منذ الثمانينات)، منح المعلم فلسطينيا قيمة اجتماعية عالية، وأشتهر المعلمون الفلسطينيون (قسم كبير منهم تم إعدادهم في المعاهد التابعة للوكالة) بكفاءاتهم التربوية والتعليمية.
منذ تأسيسها اعتمدت "أونروا" على مساهمات المانحين الدوليين، وتعدّ الولايات المتحدة الأميركية أكبرهم. ومع تزايد عدد اللاجئين، واحتياجاتهم، باتت برامج عملها تحتاج إلى موازنة تبلغ مليارين ومائتي مليون دولار. وبعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مطلع العام الحالي التراجع عن تمويل "أونروا"، جمّدت واشنطن مبلغ 300 مليون دولار من أصل مبلغ إجمالي قدره 365 مليون دولار، ساهمت بها في عام 2017. واستمرارا للابتزاز السياسي للفلسطينيين، وسعيا منه إلى شطب "أونروا" بوصفها العنوان السياسي الأبرز لقضية اللاجئين الفلسطينيين (مقال للكاتب في "العربي الجديد"، 29/8/2018)، تمهيدا لإغلاقها، وشطب قضية اللاجئين على طاولة مفاوضات تُفرض على الفلسطينيين، تحت سقف "صفقة القرن"، يعلن ترامب أخيرا التوقف عن دعم "أونروا".
80% من موازنة "أونروا" تصرف على التعليم، ما يعني أن هذا القطاع سيكون المتضرّر الأكبر، في المدى المنظور والمباشر، جرّاء الخطوة الأميركية التي ستحرم اللاجئين من حقهم وفرصهم في التعلّم، وذلك سيكون له، مع انعكاسات أخرى للخطوة الأميركية، عواقب تهدّد استقرار المنطقة، وتشكل تهديدا حقيقيا لوجود اللاجئين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من انطلاق العام الدراسي لتلاميذ "أونروا" في موعده، إلا أن المفوّض العام للوكالة، بير كرينبول، أعلن الشهر الماضي أن ما لدى الوكالة من تمويل يكفي لإدارة عملياتها حتى نهاية سبتمبر/ أيلول الحالي فقط، ما يهدّد العملية التعليمية بالتوقف. وتضغط الولايات المتحدة على دول عربية وأوروبية لأن تحذو حذوها في حصار الوكالة ماليا، كما كشفت تسريباتٌ صحافيةٌ أن الإدارة الأميركية أبدت استعدادها لتقديم دعم مالي لأولئك الفلسطينيين، مشروط بصيغ تضمن نزع صفة اللجوء عنهم. من ذلك، أن تتلقى الدول المضيفة الأموال المخصصة للاجئين، لتسيّر شؤونهم بديلا عن "أونروا".
يخشى الفلسطينيون ضياع فرص تعليمهم، وهم قلقون على مصيرهم الذي بات مجهولا، وعلى هويتهم الحقوقية والسياسية بصفتهم لاجئين، ويحقّ للدول المضيفة، التي هي أصلا تخشى توطينا للفلسطينيين يبدو اليوم قاب قوسين أو أدنى، أن تشعر بالقلق من الانعكاسات المباشرة، في حال توقف مدارس "أونروا" عن العمل، على أمنها الاجتماعي، لاسيّما وأن مدارسها تعاني نقصا في الموازنة، وفي البنى التحتية والكوادر، كما تدنّت قدرتها الاستيعابية مع اكتظاظ بعضها باللاجئين الناجين من أتون الحرب السورية. أما في المدى البعيد، وتفاعلا مع الخطوة الأميركية وانعكاساتها المحتملة، بدأ حديثٌ في وسائل إعلامية، ومواقع تواصل اجتماعي، يتناول ما تبقى من تجمعات ومخيمات للاجئين الفلسطينيين بوصفها بيئاتٍ مؤهّلة لإنتاج الإرهاب واحتضانه.
يبدو حديثٌ كهذا كلمة حق يُراد بها باطل، فخضوع اللاجئين للتهميش، والإفقار، وسياسات التمييز، والتقليص المضطرد للصفة القانونية لوجودهم في المجتمعات المضيفة إلى حدودها الدنيا، والتعامل معهم عبر البوابة الأمنية تارة، والطائفية تارة أخرى، إضافة إلى خطر التجهيل الذي يتهدّدهم اليوم بإغلاق مدارسهم، عوامل كفيلة بحرفهم نحو الإرهاب، وغيره من أمراض اجتماعية، شأنهم في ذلك شأن أي تجمّع بشري محبط، يواجه ظروفا موضوعية تجعله أهلا لذلك. لكن أن يصبح هذا الحديث، المدار والموجّه، تسويقا للاجئين بوصفهم خطرا إرهابيا، وقنابل موقوتة تهدّد استقرار المنطقة، بغية التحريض عليهم، وأن ينقلب القلق من احتمالات ذلك وبالا على الضّحية، مع التغاضي عن مواجهة الجلاد، هو في حد ذاته تواطؤ مع الخطوات الأميركية - الإسرائيلية الحثيثة التي تجعل قضية اللجوء الفلسطيني "قصة موت معلن".
بعد طول انتظار في محطات التخلي عن اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم سياسيا، يبدو أننا مقبلون هذه المرة على فشل مقصود في التعامل معهم إنسانيا.