02 نوفمبر 2024
تحديات مكافحة الفساد في تونس
احتلت تونس المرتبة 76 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2015، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في برلين، ويعنى المؤشر برصد الفساد الإداري والمالي المشهود في 168 دولة، والوقوف على مدى جدية أصحاب القرار في البلدان المعنية في مكافحة الفساد. ويستند القائمون عليه إلى مسوحات وبيانات ومقابلات ميدانية مع رجال أعمال، ومحللين وخبراء لديهم اطلاع واسع على مدى انتشار ظاهرة الفساد في الأقطار على مدار النظر. وتعرّف المنظمة الفساد بأنه "إساءة استغلال السلطة المؤتمنة من أجل المصلحة الشخصية"، ومصطلح السلطة متعلق بالنفوذ الإداري أو السياسي أو الاقتصادي الذي يوظفه طرفٌ ما لخدمة مصالح شخصية أو فئوية أو جهوية، على حساب المجموعة الوطنية. وللفساد تجليات مختلفة، من قبيل الرشوة، والمحسوبية، والبيروقراطية، والمحاباة، وإهدار المال العام، ومركزة الثروة، وانخرام التسيير، وسوء التصرف في إدارة الموارد المالية والبشرية في المؤسسات. وكان الفساد مستشرياً في تونس قبل الثورة، حتى صنفت منظمة الشفافية الدولية الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، من بين الـ 15 شخصية الأكثر فسادا في العالم، وسبق أن أصدر البنك الدولي دراسة وسمها بـ "كلّ شيء داخل الأسرة، تَحَكُّم الدّولة في تونس"، وأبرزت هيمنة الأسرة الحاكمة زمن بن علي على مفاصل الإدارة وعلى المشهد الاقتصادي، على نحو شاعت معه ثقافة الزبونية، والمحسوبية، والاستيلاء على المال العام بطرق غير مشروعة.
قامت الثورة في تونس لمكافحة الفساد، ولتحقيق العدالة، وإعمال النزاهة، لكن الواقع يخبر بعد خمس سنوات أن منسوب الفساد لم يشهد تراجعاً، بل ازداد وتوسع، ولم يعد قاصراً على عائلةٍ بعينها، بل أصبح ظاهرة منتشرة، مفزعة، تنذر بإرباك الاقتصاد التونسي، وتفكيك الإدارة، وتزيد من تشويه صورة تونس لدى المستثمرين، وتساهم في تعزيز أزمة الثقة بين المواطن والدولة. وكشفت دراسةٌ أعدتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين أن 77 % من التونسيين يعتبرون أن الرشوة تفاقمت بعد الثورة، وأكد 27% من المستجوبين أنهم دفعوا رشى صغيرة تتراوح بين خمسة دنانير و 50 ديناراً، لتسهيل معاملاتهم اليومية مع الهياكل الإدارية. ويذهب 43% من التونسيين إلى أن الرشوة تيسر قضاء الحوائج، واعتبرها 39% عادة. ويدفع 96% من المستجوبين الرشوة لربح الوقت والمال، ولتفادي العقوبة. وفي مقدمة القطاعات التي تستشري فيها ظاهرة الرشوة قطاع الأمن والديوانة، يليهما قطاع العدالة، والصحة، والجماعات المحلية، (بلديات ومعتمديات). وتكمن الخطورة في أن أغلب المستجوبين ميالون إلى اختراق القانون وركوب الفساد، لتحقيق مآرب شخصية. ويمثل العون الإداري الطرف المتسبب في الرشوة بنسبة 56%، ويمثل الوسيط المساعد على تأمين الرشوة نسبة 19%، في حين يكون المواطن المساهم الرئيسي في حدوث الارتشاء بنسبة 25 %.
ويفسر انتشار الفساد المالي المؤسساتي على هذا النحو بعدة أسباب، لعل أهمها شيوع ثقافة الانتهازية، والربح السريع لدى عدد من الموظفين، وكثرة التعقيدات الإدارية البيروقراطية، التي تدفع مواطنين إلى ركوب الوصولية لقضاء شؤونهم، وغياب هياكل رقابية رادعة، جادة في مكافحة الفساد، وشعور مواطنين بتراخي الدولة في محاسبة المفسدين، قبل الثورة وبعدها، وهو ما أغراهم بالانخراط في دوائر الفساد، والمساهمة فيه على كيفيةٍ ما. وذلك في زمن يجري فيه التعتيم على ملفات الفساد، وتحرص فيه بعض اللوبيات المتنفذة، وبعض وسائل الإعلام المشبوهة على تبييض أباطرة الفساد. وعلى الرغم من أن الدستور الجديد (14 يناير/ كانون الثاني 2014) نص على إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وشدّد على ضرورة تعقب المفسدين ومحاسبتهم، فإنه لم يحدد الآليات القانونية التفصيلية لمشروع التصدي للفساد ومحاكمة مرتكبيه، كما لم يتم بعد إصدار قانون يحمي المبلغين عن الفساد، أو يضبط كيفيات تثمين جهودهم في هذا المال.
كما أن المؤسسات الرقابية المعنية بمكافحة الفساد، وفي مقدمتها وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومنظمات المجتمع المدني، تبدو ذات حضور ديكوري/صوري، حتى أننا لم نسمع لها استراتيجية واضحة المعالم في مواجهة آفة الفساد ومعالجته، ولم نر لها منجزاً استقصائيا، تحقيقياً/ إجرائياً واسعاً في هذا الخصوص. ولعل ذلك راجع إلى محدودية صلاحياتها، وعدم إمدادها بالموارد المالية والبشرية الكافية، فضلا عن غياب الإطار التشريعي/ التقنيني الخاص بتنظيم مشروع مكافحة الفساد.
والواقع أن تحقيق الانتقال الاقتصادي، وإقامة دولة القانون والمؤسسات، يستوجب تفعيل مشروع مكافحة الفساد، الذي يقتضي إرادة سياسية قوية، دافعة له، وإطاراً تشريعياً منظما له، ومجتمعاً مدنياً متعلقاً به، حريصاً عليه. ومن المهم، في هذا السياق، إحداث هياكل رقابية تحقيقية، مستقلة، فاعلة، ومنفصلة عن الأجهزة الإدارية الداخلية للمؤسسات، لتتولى القيام بالمراقبة والمراجعة والمساءلة، في كنف النزاهة والموضوعية، على نحو يضمن الانتقال بمصطلح الشفافية، من كونه شعاراً انتخابياً واعداً، إلى كونه واقعاً يحياه الناس في الجمهورية الثانية.
قامت الثورة في تونس لمكافحة الفساد، ولتحقيق العدالة، وإعمال النزاهة، لكن الواقع يخبر بعد خمس سنوات أن منسوب الفساد لم يشهد تراجعاً، بل ازداد وتوسع، ولم يعد قاصراً على عائلةٍ بعينها، بل أصبح ظاهرة منتشرة، مفزعة، تنذر بإرباك الاقتصاد التونسي، وتفكيك الإدارة، وتزيد من تشويه صورة تونس لدى المستثمرين، وتساهم في تعزيز أزمة الثقة بين المواطن والدولة. وكشفت دراسةٌ أعدتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين أن 77 % من التونسيين يعتبرون أن الرشوة تفاقمت بعد الثورة، وأكد 27% من المستجوبين أنهم دفعوا رشى صغيرة تتراوح بين خمسة دنانير و 50 ديناراً، لتسهيل معاملاتهم اليومية مع الهياكل الإدارية. ويذهب 43% من التونسيين إلى أن الرشوة تيسر قضاء الحوائج، واعتبرها 39% عادة. ويدفع 96% من المستجوبين الرشوة لربح الوقت والمال، ولتفادي العقوبة. وفي مقدمة القطاعات التي تستشري فيها ظاهرة الرشوة قطاع الأمن والديوانة، يليهما قطاع العدالة، والصحة، والجماعات المحلية، (بلديات ومعتمديات). وتكمن الخطورة في أن أغلب المستجوبين ميالون إلى اختراق القانون وركوب الفساد، لتحقيق مآرب شخصية. ويمثل العون الإداري الطرف المتسبب في الرشوة بنسبة 56%، ويمثل الوسيط المساعد على تأمين الرشوة نسبة 19%، في حين يكون المواطن المساهم الرئيسي في حدوث الارتشاء بنسبة 25 %.
ويفسر انتشار الفساد المالي المؤسساتي على هذا النحو بعدة أسباب، لعل أهمها شيوع ثقافة الانتهازية، والربح السريع لدى عدد من الموظفين، وكثرة التعقيدات الإدارية البيروقراطية، التي تدفع مواطنين إلى ركوب الوصولية لقضاء شؤونهم، وغياب هياكل رقابية رادعة، جادة في مكافحة الفساد، وشعور مواطنين بتراخي الدولة في محاسبة المفسدين، قبل الثورة وبعدها، وهو ما أغراهم بالانخراط في دوائر الفساد، والمساهمة فيه على كيفيةٍ ما. وذلك في زمن يجري فيه التعتيم على ملفات الفساد، وتحرص فيه بعض اللوبيات المتنفذة، وبعض وسائل الإعلام المشبوهة على تبييض أباطرة الفساد. وعلى الرغم من أن الدستور الجديد (14 يناير/ كانون الثاني 2014) نص على إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وشدّد على ضرورة تعقب المفسدين ومحاسبتهم، فإنه لم يحدد الآليات القانونية التفصيلية لمشروع التصدي للفساد ومحاكمة مرتكبيه، كما لم يتم بعد إصدار قانون يحمي المبلغين عن الفساد، أو يضبط كيفيات تثمين جهودهم في هذا المال.
كما أن المؤسسات الرقابية المعنية بمكافحة الفساد، وفي مقدمتها وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومنظمات المجتمع المدني، تبدو ذات حضور ديكوري/صوري، حتى أننا لم نسمع لها استراتيجية واضحة المعالم في مواجهة آفة الفساد ومعالجته، ولم نر لها منجزاً استقصائيا، تحقيقياً/ إجرائياً واسعاً في هذا الخصوص. ولعل ذلك راجع إلى محدودية صلاحياتها، وعدم إمدادها بالموارد المالية والبشرية الكافية، فضلا عن غياب الإطار التشريعي/ التقنيني الخاص بتنظيم مشروع مكافحة الفساد.
والواقع أن تحقيق الانتقال الاقتصادي، وإقامة دولة القانون والمؤسسات، يستوجب تفعيل مشروع مكافحة الفساد، الذي يقتضي إرادة سياسية قوية، دافعة له، وإطاراً تشريعياً منظما له، ومجتمعاً مدنياً متعلقاً به، حريصاً عليه. ومن المهم، في هذا السياق، إحداث هياكل رقابية تحقيقية، مستقلة، فاعلة، ومنفصلة عن الأجهزة الإدارية الداخلية للمؤسسات، لتتولى القيام بالمراقبة والمراجعة والمساءلة، في كنف النزاهة والموضوعية، على نحو يضمن الانتقال بمصطلح الشفافية، من كونه شعاراً انتخابياً واعداً، إلى كونه واقعاً يحياه الناس في الجمهورية الثانية.