تحقيقي الصحافي الذي لم ينشر بعد
- اطلع بسرعة، الدكتور بدو ياك.
بادلته الحيطة والخوف سائلاً: ماذا يريد..ألم يقل؟
أجاب: خبرتني السكرتيرة، قالت لي بس يوصل عدنان يطلع فوراً.
لا يوجد أحدٌ غيرنا نحن الذين عملنا في جريدة "البعث"، يعرف ما معنى أن يطلبك تركي صقر على نحو عاجل. فهو المدير العام ورئيس التحرير منذ 17 سنة، وهو ذو خلفية عسكرية، تسلم الإدارة سنة 1983 برتبة نقيب، ولم يغادرها إلا سنة 2000 وهو برتبة لواء! ومن فرط ما عانى الصحافيون منه، يمكننا القول: كل سنة من الـ 17 بألف سنة مما تعدّون.
تركي صقر يكره الحوار (والديمقراطية طبعاً)، والأخذ والعطاء، وقلما يصغي لمن يحدثه، وإن أصغى برهة ولم يعجبه الكلام، وقلما يعجبه كلام، اختصر على المتحدث الطريق قائلاً:
- انقلع. انقلع.
وصلتُ الطابق السادس، ولا أعرف إن كان الدم ما يزال يجري في عروقي أم أنه تجمد. دخلت مكتب السكرتيرة، وبكل ما أمتلك من أدب وامتثال، قلت: الدكتور طالبني.
فأومأت لي بيدها، أن أجلس.
جلست لفترة قصيرة لا تزيد على أربع ساعات!!! وكلما قلت لها راجياً:
- يا ريت تذكري الدكتور أني هون، وإنه هو اللي طالبني.
ترد علي: قلت له، بس ما فيني ألح عليه، أنت تعرف طبعه.
فأقول لها: ولكن ممكن ينسى، وجلّ من لا ينسى.
فترد: أنت بتعرف، الدكتور ما بينسى.
أخيراً، دخلت مكتب المدير العام الدكتور تركي صقر. وللإيضاح، لا تزيد المسافة بين باب المكتب وطاولة الدكتور عن مائة متر، مشيتها متعثراً بخطاي.
سلمت على السيد الدكتور، وقبل أن أقول أي شيء، ويا للدهشة، راح يكيل المدائح لشخصي الكريم، ولطريقتي الشيقة في الكتابة، ومهنيتي العالية، وانضباطي. ولأن هذا الكلام الأنيق كان جديداً علي، فقد قلت في نفسي: الله يعطينا خير هاليوم.
ومع انتهاء هذه المقدمة الدبلوماسية الطارئة، عاد الدكتور إلى طبيعته، وقال لي، بصيغة الأمر العسكري غير القابل للنقاش، أو الرفض، أو حتى الاستيضاح:
- يوجد مخالفة سكنية في شارع بغداد، وسط دمشق، مقابل كازية الأزبكية، اذهب، وتقصَّ الأمر، واكتب لنا تحقيقاً حول الموضوع.
سألت، بطبقة صوت تحسدني عليها فيروز: ولكن أنا حالياً أعمل في القسم الاقتصادي، وتركت قسم التحقيقات منذ سنوات، و...
وقبل أن أكمل قال: روح شوف شو القصة، واكتب تحقيق. خلص.
غادرت مكتبه بغير الحفاوة التي استُقبلت بها، لذا بدأت الوساوس تجتاحني، وشرع عقلي يعرض علي خمسين فكرة بالدقيقة: "يا ترى أيش القصة؟ ومين وراها؟ وليش اختارني أنا مو غيري؟". وأسئلة أخرى لا تكتمل بسبب الأمر العسكري الذي أعطيَ إليّ على مبدأ "نفذ ثم اعترض".
كان ثمة أمين تحرير راق ومحترم، معروف لدى الصحافيين السوريين، اسمه وليد مشوّح "أبو نجيب". كان يهتم بالكفاءات وينصف الزملاء عبر طرائقه اللطيفة، ومقدرته على الإقناع. خطر لي أن ألجأ إليه. دخلت مكتبه، وسلمت عليه، ولا بد أنه لاحظ تغير معالم وجهي، إذ سرعان ما طلب مني أن أجلس، وقال لي بحنان: الله يعطينا خيرك.
أوجزت له القصة، فقال بهدوء:
- لا تكتب شي، انزل وتابع شغلك في قسم الاقتصاد.
سألته بخوف: والدكتور؟
قال: إذا سألك (ليش ما كتبت؟) قلو أبو نجيب كلفني بموضوع تاني.
قلت: وإذا أصر؟
قال: بسيطة، بوقتها اطلب منه أن يعطيك ورقة مهمة رسمية بتوقيعه شخصياً.
وهمس لي: بصراحة عدنان، أنا شامم ريحة مو طيبة من هاي القصة. بقى دير بالك.
في اليوم التالي، وكما في سابقه، رأيت مراقب الدوام ينتظر مجيئي وكأنني ضيف دبلوماسي رفيع أخرتْ وصولَه عواملُ أمنية.
قال لي: وينك؟ الدكتور سأل عليك مرتين، اطلع لعنده عالسريع.
صعدت وأنا أفكر كيف سأبدأ، وكيف سأقول إن أمين التحرير كلفني بعمل آخر، وأتوقع ردة فعل الدكتور، وماذا سأفعل إزاءها.
دخلت مكتب السكرتيرة، ولكنها هذه المرة أدخلتني سريعاً، وما إن لمحني حتى بادرني بالسؤال:
- شو يا عدنان؟ شو صار معك؟
قلت بأدب أحسد نفسي عليه:
- والله يا دكتور ما رحت، لأن الأستاذ وليد مشوح كلفني بموضوع تاني، وقال لي إن موضوع المخالفة يمكن تأجيله لأنه مو حدث استثنائي، ومالو صبغة آنية.
تغيرت نبرته إلى ما قبل الشتيمة بقليل، وقال:
- روح فوراً، اترك كل الشغل اللي بيدك، ولا ترجع لهون إلا وفي جعبتك معلومات عن المخالفة ومين وراها، واستطلع آراء الجيران في الحارة. يلا تحرك.
قلت: بصراحة دكتور، مخالفة في شارع بغداد، أرقى شوارع دمشق، لا بد وراها شي مسؤول كبير، وممكن أنا أتعرض لمساءلة، فإذا بتريد عطيني تكليف خطي.
نظر إلي شذراً، وقال: طيب. روح اكتب مهمة وهاتها.
وفعلاً وقع لي المهمة، فحملتها وذهبت إلى مكتب أبي نجيب، وأخبرته بالتطورات الجديدة، فنصحني بالامتثال للأمر، ولكن، مع ضرورة التروي، والهدوء، وعدم الاصطدام مع أحد، وإذا تعرضتُ لأي خطر، أو شاهدتُ ما يثير الريبة، أن أعود.
نزلت في سيارة الجريدة الحكومية التي توحي نمرتها الخضراء بأنها سيارة جيش أو أمن أو حكومة، واصطحبت معي المصور، وذهبنا إلى مكان المخالفة.
كانت المخالفة التي ذهبنا لأجلها بادية للعيان، فقد بنى أحدُهم على سطح إحدى البنايات طابقاً كاملاً من دون ترخيص. وأذكر للتاريخ أن رجلاً مسناً، وهو صاحب حانوت مجاور للبناء، نصحني بالعودة من حيث أتيت، وحينما استوضحته عن السبب همس في أذني قائلاً: "لك ابني هدول ناس ما بيخافوا الله".
لم أكترث لكلام الرجل، فهو، المسكين، لا يعرف الدكتور تركي صقر، ولا يقدر أنني أقوم بهذا العمل غصباً عني.
طلبتُ من المصور، ماجد أسعد، أن يلتقط صوراً للمبنى المخالف من جميع الجهات، وبينما هو يفعل إذ حاوطتنا مجموعة من الشبان، أعتقد أن جلهم، إن لم أقل جميعهم، أبطال سابقون في كمال الأجسام والملاكمة والكاراتيه. سألونا عما نفعل، ومن نحن، فما كان مني إلا أن أبرزت المهمة الموقعة من الدكتور بالقلم الأخضر. وقلت:
- أنا الصحافي عدنان عبد الرزاق من جريدة "البعث"، وهاي مهمة رسمية، وهادا توقيع المدير العام.
فردوا على غير المتوقع بشتائم وسباب لا تسمح لي تربيتي المنزلية بذكرها، عليّ وعلى المدير العام تركي صقر، وعلى الرفيق عبد الله الأحمر، الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي (هكذا بالتفصيل).
وأخذ أحدهم الكاميرا من ماجد، مع لكمة سريعة، وهمَّ بكسرها، فقال له آخر تبدو عليه الهيبة:
- لا تكسرا، شق الفيلم، ورجعلو ياها.
وقال مخاطباً إياي: بعد دقيقة إذا شفتكم هون بدي (سباب على الأمهات، مرة أخرى أعتذر عن ذكرها بسبب تربيتي المنزلية).
فاتني أن أقول لكم إن السائق هرب مذ تحلق الأبطال الميامين حولنا، فأخذت أنا وماجد سيارة أجرة وعدنا إلى الجريدة، نجر ذيول الخيبة والفشل، مستائين من السباب على أمي وأم ماجد فقط.
دخلت مبنى الجريدة، ومن دون أن أسلم على (أبو علي الاستعلامات) صعدتُ إلى الطابق السادس.
قلت للسكرتيرة: وينو؟
قالت: راح عالبيت.
فدخلت غرفة مدير التحرير الأستاذ محمد منصور "أبو يعرب"، ورويت له القصة والعرق يتصبب من كل مسامات جسدي.
قال: لازم تحكي للدكتور.
قلت له: راح عالبيت.
قال: دق له عَ الثلاثي.
(الثلاثي: خط هاتفي مباشر بين الجريدة ومنزل الدكتور، لا يتصل عبره إلا مسؤول كبير، أو مدير التحرير، أو المحرر المناوب، أو رئيس المفرزة الأمنية، لأمر جلل)، ولكن لا تقل أنك في غرفتي.
اتصلت. رد الدكتور بصوت يكاد لا يسمع.
فقلت: مرحبا دكتور.
قال: أهلاً. مين؟
وما إن قلت له "أنا عدنان عبد الرزاق" حتى علت طبقة الصوت لدرجة (جواب) يصعب على محمد عبد المطلب تأديتها:
- شو في؟ ليش عم تتصل لهون؟
قلت له: بدي خبرك شو صار معنا، هدول الجماعة أهانونا، وسبوك أنت شخصياً، وسبوا الرفيق أبو جهاد عبد الله الأحمر.
قال: أي شو يعني؟ برأيك نبعت لهم دبابات وصواريخ تقصفهم؟ خلص خلص، المسا تعا لعندي عالمكتب.
حينما تسلم النقيب تركي إدارة الجريدة سنة 1983 أحضر معه مساعد أول اسمه، أبو حسن، وأصبح يعمل رئيساً لمكتبه في الدوام المسائي، مكان السكرتيرة.
المهم، أبو حسن أدخلني إلى مكتب الدكتور الذي بادرني بالسؤال:
شو صار يا عدنان؟
فحكيت له القصة باختصار، ولكني أسهبتُ في عرض بند الشتائم الخاص به وبأبي جهاد الأحمر.
نظر إليّ بغضب، لكنه صمت كمن وقعت عليه الحجة وحُكْم القاضي. وقال:
روح هلق. واكتب لنا تحقيق صحافي حول الموضوع، واذكر فيه كل شيء، حتى المسبات.
فاتني أن أقول لكم إن المخالفة كانت لرجل الأعمال السوري، محمد حمشو، وهو من شركاء آل الأسد، وبالأخص المهندس المظلي فقيد الأمة والوطن، الرائد الركن باسل الأسد، الابن الأكبر لحافظ الاسد الذي قضى جراء حادث سير على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994.
الخلاصة: سهرت حتى ساعات الفجر الأولى، وخططتُ تحقيقاً صحافياً، أو بصيغة أدق، شكاية، وضعتُ فيها خبرتي إضافة إلى ما كبتُّه في نفسي من قهر، وفي اليوم التالي حضرتُ إلى الجريدة متنشطاً، وصعدتُ إلى الطابق السادس، ودخلت مكتب الدكتور وفق السيناريو القهري. وسلمت التحقيق باليد للدكتور تركي صقر.
كان هذا في سنة 1997. والتحقيق لم ينشر حتى 2017.