كنتُ قد توقّفتُ عن السير بين اللوحات والأعمال الفنية المعروضة حين لمحتُها على الحائط إلى يساري. معرض "اقتراب الآفاق"، صيف 2019. أقف أمام لوحة الفنّان أسد عزّي "صيد 1"، حيث الطبيعة ليست هي الحدث ولا الخلفيّة.
في الجانب الأيسر من اللوحة جسد ظبي تهاجمه ذئاب، تعضُّ ما ظفرت به من ظهره، ذئاب تشي عيونها بأنّها جائعة جدًا، وخائفة من هروب طعامها. يأخذ هذا المشهد مساحة ثُلثَي اللوحة. هنالك ذئبان آخران صريعان أسفل أقدام الظبي في زاوية اللوحة كان قد أطاح بهما. قرناه المتشعّبان غُمّسا بالدم كما يظهر في الثلث الآخر.
يفصل بين ذلك المشهد وهذا الثلث الآخر من اللوحة خط مائل، منكسر باتجاه عقارب الساعة، كثافة اللون الأخضر فيه أكثر من بقيّة اللوحة، وهناك خط ضبابي عريض ينسجم مع لون الظبي، يفصل جسده عن رأسه وليس ثلثا اللوحة عن ثلثها الأخير فحسب، فيبدو المشهد كمن يرى انكسار جسم في الماء. ذئاب أُخرى تنقضّ على رأس الظبي أيضًا، لكن ذلك لا يحول دون أن يبدو رافعًا رأسه عاليًا، بينما عيناه تعلنان التحدي. العناد في الدفاع عن الحياة والخوف من فقدانها هما دائرتا هذه اللوحة.
أدير نظري عن عينَي الظبي لأكتشف فجأة بأن وقوفي تحوّل إلى مسير على سلك عالٍ امتدَّ بين مبنيَين مرتفعَين. كانت البداية من سطح أحدهما، أظنّ أننّي ابتعدت عنه كثيرًا الآن. أتمنّى لو أنّ رقبتي تدور مثل طير، لأعرف المسافة التي قطعتُها، لكن كل ما يمكنني رؤيته هو مراسم إعلان بدء النهار، حيث رمت الشمس أضواءها في السماء، وعلى يديّ اللتين فردتهما للهواء، باردتين ترتجفان دون عصا توازن. ولا طيور تؤنسني، منها فقط ما حطَّ على المبنى وحلَّق نحو جهة أخرى، أو دار حوله في طقوس خاصة.
لا غيوم تصدُّ لوائح الشمس عن عينيّ، والندى ينمو على مساحة جلدي، وأطراف ملابسي. آخذ نفسًا، أدخل الهواء إلى منخريّ عميقًا، أغمض عينيّ، ثم أخرجه صفيرًا. خطوة أُخرى، لكن خارج مساحة السلك. وأهوي. هبوطي سريع، إلّا أنّني أحتفظ بصورة الأشياء من حولي، كما لو أن الزمن صار أبطأ، فأرى المبنى الذي ظننت أنّني سأصله يطفو، يتّخذ مسارًا دون شراع، والسلك الذي وقفتُ عليه كان يربط المبنيين معًا، وكأنهما يستمدّان قوّة الحركة من أقدامي.
أتذكّر كلمات فيلسوف صيني قبل لحظة من هبوطي، فأرجع أكرّرها:
"داخل روح حرّة كليًا
من المشاعر والأفكار
النمر لا يجد غرفة ليدخل إليها بمخالب شرسة
مثل النسيم إذا مرّ".
هي الكلمات ذاتها التي استلهم منها "بروس لي" فنَّه القتالي "اللاشكل". العفويّة، البساطة، مكرّرًا عبارة: "كن مثل الماء".
لأن الماء يستطيع التشكّل بسرعة، وإيجاد طريق في الحالات المختلفة، يقول بروس لي، تتمثل حركات الدفاع والهجوم بحركة الخير والشر، اليين واليانج، فحركتهما مستمرة، في دائرة لامتناهية. وكمقاتل، يقول بروس لي، يجب أن تجد اللحظةُ الفراغَ الذي يمكن أن تتشكل فيه. فعندما تأتيك حركة من الخصم، ستكون قد حرّكت نفسك في الفراغ الذي تركه، لتسدّد ضربتك. أمّا أنا، فما حيلتي خلال سقوطي سوى رؤية لحمي يصبح نافذًا وشفافًا، وعظمي يتلاشى تباعًا.
أصغُر. ومن داخل عيوني تخرج الذكريات، تنفصل عنّي، أفقدها، أمدُّ يدي لها على سبيل العادة، إذ لا رغبة لي بها. مللتُ من ألمها، إذ أكرِّر إخراجها بسيناريوهات مختلفة، حتى أصبحت محاكاتها خيالًا، ونسيتُ شكلها الأصلي. أيّ ذكريات تحمل لوحة "صيد 1"؟ صارت الأشياء أبسط، والسماء لم تعد تبعد عنّي كثيرًا.
هكذا تحوّل جسدي إلى قطرة ندى تنعكس فوقها كل اللوحة، والتي ما برحت تصغُر. اختير لي أن أتعلَّق بجسم ما لمدّة قصيرة، وأهطل، إلى فراغ آخر، لا هو أسود ولا هو أبيض، إذ لم يُرَد لي أن أكون جزءًا من فسيفسائهما التضاديّة.
انتهت أنفاسي على ورقة شجر خضراء، أغرقتني بلونها. خلتُ أنّي سأشقُّ عروقها من قوّة سقوطي، وأجعل الأوراق حولها تصدر حفيفًا، لكنها عانقتني بكل قوّة، ثنت أطرافها عليّ، بدت حقيقية جدًّا. نمت، وتقلّبت على عرقها العريض في المنتصف حتى انسجم تكويري مع رأسها المدبَّب، لامست الأرض، وسلّمت نفسي. بالتأكيد سأعود مع صعود الأرواح الذائبة، مع قيام دورة حياة الطبيعة القادمة. ولن يوقظني أحد في هذه الأثناء. يعود صوت الفيلسوف الصيني يتردّد من حولي:
"هي الروح نفسها
لكن يختلف لحنها في الجبال بين الصنوبر، وبين أشجار الوادي
لا أفكار أو انعكاسات
صفاء مثالي
رغم ذلك تتبع مسارها الخاص
الجميع يراها
لكن لا يد يمكن أن تصلها
مثل مجرى القمر
كالقمر والشمس لا توقف سطوعهما غيوم وضباب
هناك منتصر واحد
حتى قبل أن تبدأ المنافسة
من لا يكوّن عن نفسه أفكارًا مسبقة
من يبقى محتفظًا بوضوح جوهره العظيم".
"كن كالماء يا صديقي".
إلى أن انتشلني صدى صوت حذاء عامل في "المتحف الفلسطيني"، نبَّهني بالابتعاد عن اللوحة بالقدر الكافي، وخَضضتُ رأسي من أحلام اليقظة.
في "صيد 1" لا أبعاد أو ظلال، وتفاصيل قليلة في البيئة المحيطة والأجسام. بذلك، قد تكون اللوحة أقرب إلى التعبير عن الحالة الفلسطينية، بالرغم من أنها لا تحمل أيّاً من الرموز المتعارف عليها للاستدلال على ذلك، سوى أنها معروضة في "المتحف الفلسطيني". لكن، لنفترض أنها وُضعت في متحف آخر في مكان آخر غير فلسطين، ماذا سيكون معناها عندها؟ ما المعنى الذي ستحمله هذه البساطة لو جرى النظر إليها من نقطة خارج السياق الفلسطيني؟ وما الذي يعلن عنه الرقم 1 هنا؟
إن إدراج رقم إلى جانب عنوان اللوحة قد يشير إلى بداية سلسلة من لوحات الصيد، في حين لا تجاورها في المعرض لوحات من جنسها أو من السلسلة نفسها. اللوحات القريبة تعرض طبيعة مألوفة، لا صيد فيها أو دماء نازفة، إنما صورًا من زمن ماضٍ، خلال موسم قطاف البرتقال لفلّاحات وفلّاحين بالثوب الفلسطيني التقليدي، وسط الأرض الرحبة والبيوت القديمة؛ مشهدية مسكونة بمشاعر الحنين التي تضفيها الألوان المستخدمة أيضًا. لكن بالنسبة لعزّي، كما يأتي في دليل معرض "اقتراب الآفاق"، ليست الطبيعة مكانًا للحنين. لكن ماذا يعني قوله هذا وقد تم تعليق لوحته هذه إلى جانب لوحات تصوّر طبيعة يشوبها الحنين؟
ربما لو مددتُ يدي لألمس اللوحة، كنت سأجد الإجابة داخلها، وهو ما أفعله الآن، لأكتشف أن الخط المائل المنكسر ما هو إلا ستار، حالما سحبته إلى الجانبين، انفتح على فضاء ذكريات الفنان نفسه، في لوحاته السابقة.
أسد عزّي، مواليد العام 1955، شفا عمرو، الجليل. إنه ابن الجيل الثاني لجيل ما بعد النكبة.
لكن قصته وقصة عائلته ليست قصة التهجير ذاتها التي مرَّ بها مئات الآلاف من الفلسطينيّين، إنما هي قصة البقاء في الأرض والخضوع للمستعمر كشرط لهذا البقاء. صار والده جنديًا يقاتل مع صفوف جيش الاحتلال، تحت اتفاقية تنص على إجبار الدروز الفلسطينيّين على الانخراط في جيش الاحتلال لتأمين عدم طردهم من فلسطين. يكتب عزّي على إحدى لوحاته: "حلمك قتل سعادتي". كانت تلك اللوحة، لوحة شخصية، بورتريهاً لوالده يحمل فيها سلاحًا.
ثم يعود العامل في المتحف الفلسطيني لينبِّهني من جديد بالابتعاد عن اللوحة بالقدر الكافي.
أنظر نحوها للمرّة الأخيرة فيما أبتعد عنها، حيث بدا مشهد الصيد ذاك والموت الذي يحمله أشبه بنمو قطرة من الندى على جسد الطبيعة.
أكمل جولتي التأمّلية في المعرض، وسرعان ما ألمح فجأة الظبي وقد فرّ من بين براثن الذئاب في لوحة عزّي، ليقف جامدًا في ركن خفي، وقد تحوّل إلى تمثال، أو يبدو وكأنه تحوّل الآن إلى غزال ناصع البياض، لكن من دون تفاصيل، وبملامح عامّة فقط. يقف "غزال فلسطين" لمنال محاميد بتحدٍ، كحال الظبي عند عزّي. إلى يمينه صورة صغيرة دائرية الشكل يحيطها إطار خشبي مستطيل للتمثال، وصورة ثانية إلى جهة يسار، يظهر فيهما الغزال ذاته على الشاطئ. كلا الصورتين مُعلّقتان على الحائط خلف التمثال، أعلى من مستوى رأسه، بمستوى قرنيه. الصورة الأولى فيها زرقة ألوان الشاطئ المألوفة بينما سماؤها رمادية، أما الأخرى فسماؤها زرقاء وشاطئها رمادي. وفي الصورتين والتمثال، يقف الغزال على ثلاث، إذ بُترت إحدى ساقيه الأماميتين بالكامل.
أنظر إلى روح الغزال في جسده المتجمّد، إلى عينيه اللتين تبدوان في لحظاتٍ مكابرةً، وفي لحظات أخرى منكسرةً. من بتر ساق الغزال؟ هل التهجير القسري للفنّانين الفلسطينيّين في العام 1948؟ أم إخفاء أعمالهم كلّها، أو معظمها؟ أو سرقتها؟ هذا الغزال طاولته أيضًا نكبة قاطني هذه الأرض، ليندرج الآن تحت اسم "غزال إسرائيلي". وأكاد أعانقه، هذا الجسد الميت المبتور، على الملأ في المتحف، فيما خيالات جسده تترامى من حوله ومن حولي، تدعوني لأن أقدّم نفسي نذرًا له، وأبقى هناك لأكون ساقه الرابعة، يتكئ عليّ كي لا يهوي أبدًا.
لن نختفي. قد يُبتر لنا طرف كما في عمل "غزال فلسطين"، أو نؤكل كما في ثلثي مساحة لوحة "صيد 1"، أو نتلاشى تباعًا في ثلثها المتبقّي. قد نهوي. قد تذوب هويتنا حتى ينتهي المشهد. لكننا لن نختفي منه، كالماء.
كل يوم يغلق المتحف أبوابه في تمام السادسة مساء، تحلُّ العتمة ويستمر البتر والصيد. لكن المنتصر من يبقى محتفظًا بوضوح جوهره العظيم، كالماء.
"كالقمر والشمس لا يوقف سطوعهما غيوم وضباب
هناك منتصر واحد
حتى قبل أن تبدأ المنافسة
من لا يكوّن عن نفسه أفكارًا مسبقة
من يبقى محتفظًا بوضوح جوهره العظيم".
حتى لو كانت معادلة البقاء هي البتر، أو الصيد الذي ينبّئ بأن ثلثينا سيؤكل، أو ثلثنا سيتلاشى، فإننا في كل الأحوال لن نختفي، كالماء.
* كاتبة من فلسطين
** كُتب هذا النص في إطار ورشة كتابة بعنوان "نقد الفنون البصرية: معرض اقتراب الآفاق نموذجًا"، من تنظيم المتحف الفلسطيني وبإشراف الكاتبة عدنية شبلي