تحية إعجاب إلى هؤلاء

09 اغسطس 2016

من جلسات مؤتمر المركز العربي في تونس

+ الخط -
تابعت باهتمام، ثلاثة أيام، تدخلات أكاديميين ونشطاء غربيين، شاركوا بجدية في فعاليات مؤتمر "استراتيجيات المقاطعة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتهايد" الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مدينة الحمامات التونسية التي لا تزال تنتظر استقبال زوارها، لتكشف لهم أسرارها وجمالها.
لم يأت هؤلاء للسياحة، وليكونوا مجرد ضيوفٍ في حفل استعراضي، وإنما قدموا ليشاركوا في معركةٍ يؤمنون بشرعيتها، وبضرورة خوضها، مهما بدت موازين القوى مختلةً لصالح إسرائيل. هم يعلمون مسبقاً أن هذه الحرب التي، وإن كانت وسائلها سلميةً، إلا أنهم قد يخسرون خلالها وظائفهم، وقد تشوّه سمعتهم وسائل الإعلام المدعومة من المنظمات الصهيونية في بلدانهم، وقد يتّهمون بأنهم معادون للسامية. ومع ذلك، تراهم يبتسمون وكلهم استعداد لتقديم تضحياتٍ جسيمةٍ من أجل قضيةٍ يعتبرونها عادلة، وإن كانت تخصّ شعباً بعيداً عنهم بعشرات آلاف الكيلومترات.
الأغرب من ذلك كله أن هؤلاء النشطاء الغربيين يخوضون معركةً، أصبح كثيرون من الساسة العرب يعتبرونها قضيةً خاسرةً مسبقاً، ومنهم من ذهب إلى حد اعتقاد أن المقاطعة الاقتصادية مضرّة بالقضية الفلسطينية، فالرئيس محمود عباس لا يزال يرفض معاقبة إسرائيل وعزلها، على الرغم من استمرار سرقة الأرض، وشدة الحصار، واستشهاد مئات من الشباب الفلسطيني في عمر الزهور.
إلى جانب السلطة الوطنية، هناك جزء من المجتمع المدني الفلسطيني يقف ضد هذه الحملة التي انطلقت قبل حوالي عشرين عاما. كما تتمتع البرجوازية الإسرائيلية بمليون دولار تأتيها من السوق الفلسطينية، وبعشرة ملايين دولار تقدم لها سنوياً من الجمهور العربي الذي يستمر في الإقبال على استهلاك البضائع الإسرائيلية. على الرغم من هذا كله، يصرّ هؤلاء الأكاديميون والنشطاء الغربيون على خوض المعركة ضد العنصرية الإسرائيلية.
في الوقت الذي دبّ فيه اليأس لدى فلسطينيين وعربٍ كثيرين، وكادوا أن يعلنوها صراحةً أن إسرائيل دولة لا تقهر، يقف هؤلاء النشطاء، بكل ثقة وإيمان، ليؤكّدوا من مواقعهم أن الحركة الصهيونية ضعيفة اليوم، مهما حاولت إسرائيل أن تبدو قويةً، وكأنهم ينظرون إلى ما يجري بعيونٍ تختلف عن عيون هؤلاء العرب. إنهم يتمتعون بحاسةٍ سادسةٍ ثاقبةٍ، تجعلهم في موقعٍ مرتفعٍ يتجاوز العوائق الظاهرية، ما يجعلهم أقدر على استشراف المستقبل.
يؤمن هؤلاء بأن المعركة ضد الصهيونية أخلاقيةٌ بدرجة أساسية. كشفت لهم الأحداث والوقائع أن هذه الحركة فقدت كثيراً من بريقها، وأصبحت عاجزةً عن الاستمرار في إنتاج الأكاذيب ونشرها في صفوف الغربيين. كما أصبح هؤلاء يخشون على أنفسهم، وعلى مجتمعاتهم من الاستمرار في تصديق ما يُروى لهم عن الماضي، في حين أن الواقع الجاثم أمامهم يؤكد لهم أن السياسة الإسرائيلية المعتمدة حالياً من الجيش والحكومات المتعاقبة، بيمينها ويسارها، عنصريةٌ بامتياز، ولا تختلف في جوهرها عن الفاشية في شيء، وهي يومياً تتصدّى لشعبٍ أعزل ومنتهك الحقوق، عبر القتل البارد واغتصاب الأرض وتدمير أحلام الطفولة.
ما حققته حملة مقاطعة إسرائيل، ورفض شراء منتجات المصانع المقامة داخل المستوطنات، هو من فضل هؤلاء الأكاديميين والنشطاء الغربيين. وقد ذكّرني هذا بصديق أميركي، تعرفت عليه قبل سنوات في زيارة للولايات المتحدة، اسمه جوزاف شكلا، وقد حدثني يومها عن ضرورة مقاطعة شركاتٍ كبرى، مثل كوكاكولا وماك دونالد، وسلسلة مقاهي ستير بوكس، لأنها تدعم اقتصاد المستوطنات الإسرائيلية، وتموّل جيش الاحتلال حتى يقتل الفلسطينيين. استغربت، يومها، ليس من كلامه، ولكن من التزامه بما يقول، إذ لا يزال يسخر كامل جهوده، بعد أن استقرّ في عواصم عربية عديدة، آخرها القاهرة ليستمر في نضاله ضد العدو الإسرائيلي، تاركاً خلفه ما يعتبرها معظم الشباب العربي الجنة الأميركية .
نعم، هناك شيء ما ينقصنا نحن العرب، وهو ليس بسيطاً، على الرغم من أننا ندّعي امتلاكه، بل ونزعم أننا نصدّره إلى بقية الناس والشعوب. ما ينقصنا فعلا هو ... الأخلاق.