02 نوفمبر 2024
تداعيات تأمين طرابلس
بعد عام وشهرين من معاناة ويلات القصف والحصار والدمار، آن لسكّان العاصمة الليبية طرابلس أن يناموا في سلام، وأن يأمنوا بعد خوف، وأن يفرحوا بعد قنوط، وأن يسلموا من أزيز الرصاص، وهدير الصواريخ والمدافع، ومن عبث القذائف العشوائية، وسطوة الطائرات القاذفة، المزمجرة التي أربكت حياتهم، وعطّلت أعمالهم، وأقفرت أحواشهم، وهدّمت ممتلكاتهم، ودفعت طيْفا منهم إلى طلب النزوح والهجرة. بعد عام وشهرين من التهديد والوعيد، والترويع والتشريد، وقطع الماء والغاز والكهرباء ساعات يوميا، آن لسكان طرابلس أن يستعيدوا مسار حياتهم الطبيعية، وحقّ لهم أن ينزلوا إلى ساحة الشهداء، متغنّين بأهازيج النصر، رافعين راية "طرابلس واعرة عليك"، بعد أن تمكّنت طلائع "بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليّا، من تأمين الحدود الإدارية للعاصمة الليبية، وفكّ الحصار الذي فرضته عليها كتائب اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
عمليّا، لم يكن تأمين طرابلس سهلا، ولا مرتجلا، بل كان نتاج عمل ميداني دقيق، وجهد عسكري مستدام، تأسّس على خطواتٍ إستراتيجيةٍ مهمّة، تجلّت في استيعاب كتائب الثوّار وقوّات حكومة الوفاق الوطني صدمة الهجوم المفاجئ لأتباع حفتر، وقدرتها على تجاوز خلافاتها البينيّة في وقت قياسي، وتشكيل جدار صدّ ضدّ القوّات الغازية بغاية حماية العاصمة، باعتبارها مركز ثقل سكاني ومؤسّسي، ورمزا للسيادة والثورة. والتوجّه، إثر ذلك، إلى استنزاف قوّات "الفتح المبين" التابعة
لحفتر بطريقة ذكيّة، تبدّت في نجاح طلائع "بركان الغضب" في نصب كمائن لكتائب حفتر، أدّت إلى أسر مئات من أعوانه، ومقتل آخرين، وفرار غيرهم، وحيازة عتاد وذخيرة كثيرين. وأربك ذلك قوّات حفتر، وحدّ من تقدّمها، وجعلها تتعثّر عند تخوم طرابلس. كما تمكّنت المضادّات الأرضية لحكومة الوفاق من إسقاط طائرات قاذفة مأهولة، وأخرى من دون طيّار، وهو ما أنهك القوّة الجوية لمعسكر حفتر، وتأكّد ذلك مع انطلاق عملية "عاصفة السلام" بدعم تقني، ولوجيستي، واستشاري، من تركيا في إطار اتفاقية تعاون دفاعي وبحري بين البلدين. وأدّت العملية إلى استعادة حكومة الوفاق السيطرة على أجواء طرابلس، ووضعت حدّا للهجمات الجوية العشوائية التي كانت تشنّها كتائب حفتر على المدنيين والعسكريين على السواء. واقتضى تأمين طرابلس قطع خطوط الإمداد المؤدّية إلى العاصمة، والتي استخدمها أعوان حفتر لتزويد كتائب عملية الكرامة بالذخيرة والمؤونة والسلاح، والوقود والمال والرّجال، وآخر خطّ إمداد رئيسي، استعادت حكومة الوفاق السيطرة عليه، يصل بين غرب ليبيا وجنوبها، ويمتدّ على مسافة 350 كلم من منطقة العربان جنوب طرابلس إلى حدّ منطقة الشويرف المحاذية لمدينة سبها في عمق الجنوب الليبي. ونجم عن السيطرة على الأجواء وضرب خطوط الإمداد الرئيسية انتقال قوّات "بركان الغضب" من الدفاع إلى الهجوم، وانطلاقها في استرداد المناطق القريبة والأهداف الكبيرة، فاستعادت، في وقت قياسي وبنجاعة لافتة، غريان، ومدن الساحل الغربي، وقاعدة الوُطية، ومطار طرابلس، ومدينة ترهونة، وقصر بني غشير، والأصابعة، والعربان. ولم تقف عند ذلك الحدّ. بل انطلقت في قضم الأهداف البعيدة ذات المسافات الطويلة، مغتنمة انهيار كتائب حفتر، وتشتّت حملة الفتح المبين، وتفكّك دفاعاتها، فتمكّنت طلائع بركان الغضب من استرجاع مدينة بني وليد ومطارها، وامتدّت فدخلت حدود سرت الإدارية. ومن غير البعيد أن تستعيد هذه المدينة الإستراتيجية، وتتجه نحو استرجاع قاعدتي الجُفْرة والقرضابية العسكريتين، وتحرير الهلال النفطي والمنطقة الشرقية، بغاية وضع حدّ لتمرّد خليفة حفتر على الشرعية الأممية، وبهدف بسط سيادة حكومة الوفاق، المعترف بها دوليا، على كل الأراضي الليبية، وضمان مصالح شركاء ليبيا الاقتصاديين.
سياسيا، أنهت معركة طرابلس مقولة "حفتر رجل ليبيا القوي"، وهشّمت صورة ما يسمّى "جيشه العرمرم"، وزادت الهزيمة من عزلة الرجل في الداخل والخارج. وبان للملاحظين أنّه عسكري مغامر، أخذته العزّة بالنّفس، وبالمال والسلاح، والمرتزقة، فداس على الديمقراطية ببوطه العسكري، وشنّ حرْبا عبثية، عشواء، على أهالي طرابلس والمنطقة الغربية، بغرض الاستيلاء على الحكم بقوّة السلاح، لا عبْر الاحتكام إلى صندوق الاقتراع. لكن من دون جدوى. وبعد خسارته المدوّية، بات من المحال القبول بالجنرال خليفة حفتر على طاولة المفاوضات بشأن الأزمة الليبية، لأنّ معظم سكّان المنطقة الغربية أصبحوا يعتبرونه غير مرغوب فيه، وهو في نظرهم شخصية انقلابية، أحادية، غازية، متمرّدة على الشرعية الدولية. وزادت الانتهاكات التي ارتكبتها قوّاته من نفور الناس منه، واستيائهم من معسكر عملية الكرامة. وجديد تلك الانتهاكات الكشف عن وجود ثماني مقابر جماعية وإعدامات بالجملة، خارج القانون، نفّذها أتباع حفتر ضدّ مدنيين في مدينة ترهونة، بشبهة معارضتهم اجتياح طرابلس، وتعاطفهم مع حكومة الوفاق. ودانت الأمم المتحدة ذلك بشدّة، ووعدت بالمساعدة في معرفة هويات الضحايا، وتعقّب مرتكبي
الانتهاكات ومحاكمتهم. والواقع أنّ هزيمة حفتر على تخوم طرابلس هي هزيمة أشياع الثورة المضادّة ودعاة عسكرة الدولة. وفي المقابل، دحر كتائب الفتح المبين هو انتصار لدعاة تمدين الدولة، ومشروع الدمقرطة والتداول السلمي على السلطة في ليبيا. وبكسبها معركة المواجهة مع جماعات حفتر، بعثت هيئة الحكم في طرابلس (المجلس الأعلى للدولة، حكومة الوفاق الوطني) بعدّة رسائل دالّة، أهمّها أنّها قادرةٌ على حماية العاصمة، وأنّها مصمّمة على ردّ العدوان، وتأمين البلاد والمحافظة على وحدتها، ومعنية ببسط نفوذ الدولة على كلّ الأراضي الليبية، وحريصة على الالتزام بمخرجات اتفاق الصخيرات. وعزّز هذا التوجّه من شعبية هيئة الحكم في طرابلس، وساهم في تغيير موقف قوى إقليمية ودولية من حفتر، وتوجّهها نحو مدّ جسور التواصل مع حكومة الوفاق الوطني، للمحافظة على مصالحها في ليبيا.
على الصعيد الاجتماعي، بدا واضحا أنّ كتائب عملية الكرامة لم تجد حاضنة شعبية داعمة لها على تخوم العاصمة الليبية، وفي عموم المنطقة الغربية، وعدّها معظم الأهالي قوّات متمرّدة على الشرعية. لذلك لم يحتفلوا بدخولها مدنهم، ولم يأسفوا لرحيلها. وبحسب تقارير متواترة، ارتكبت جماعات حفتر أعمالا انتقامية ضدّ مواطنين ليبيين، فدفعت كثيرين إلى النزوح والهجرة القسرية، وأسرت معارضين لوجودها وأعدمتهم، واستولت على ممتلكات آخرين، واحتلّت منازلهم. وعند انسحابها، عمدت إلى زرع متفجّرات وألغام في بعض الأحواش، وعند مداخل بعض الأحياء ومنافذ المدن، وهو ما دانته بشدّة بعثة الأمم المتّحدة في ليبيا، وعدّته استهدافا متعمّدا لحياة المدنيين. وقد وضعت وزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني خطّة "البلد الآمن" التي تهدف إلى "فرض الأمن وضبطه وملاحقة الجناة والمطلوبين وحماية أرواح المواطنين وأرزاقهم وممتلكاتهم" في المدن والمناطق التي استردّتها الحكومة من قبضة كتائب حفتر. وبعث ذلك رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين، وحفّز مهجّرين ونازحين على العودة إلى منازلهم. ومن المهمّ، في هذا السياق، أن تسعى حكومة فايز السرّاج إلى رأب الشرخ الاجتماعي بين سكان غرب ليبيا وشرقها، والناتج عن هجوم كتائب اللواء المتقاعد على طرابلس، ومن المفيد أن تمدّ جسور التواصل مع وجوه مدنية جديدة في المنطقة الشرقية، لتأمين تسوية بينية داخلية للأزمة الليبية.
ميدانيّا، أخبرت تجربة المتمرد خليفة حفتر على الحكومة المركزية في طرابلس أنّه قد يكسب
منظومات بانتسير الروسية، وطائرات تشنغدو وينغ لونغ (CAIG Wing Loong) الصينية، ودبّابات رمسيس المصرية، وقد يستعين بمرتزقة من فاغنر والجنجويد وغيرهم. لكنّه لا يكسب الحرب، لأنّه لا يتوفّر على قاعدة شعبية داعمة، ولا على غطاء دولي واسع، ولأنّ جنده لا تجمعهم عقيدة عسكرية راسخة. لذلك انهارت كتائب حفتر، وفرّت، تاركة عتادها، وذخيرتها، وملابسها العسكرية في معظم مواجهاتها المباشرة مع قوّات "بركان الغضب".
قال ونستون تشرشل: "ليبيا هي البطن الرخوة للتمساح الأوروبي"، لإدراكه أهمّيتها الإستراتيجية بالنسبة إلى أوروبا. وبعد نجاح حكومة الوفاق وقوّات بركان الغضب في تحييد مشروع حفتر، وتأمين طرابلس والمنطقة الغربية، أحرى بدول الاتحاد الأوروبّي، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، أن تساعد الحكومة المعترف بها دوليّا على بسط سيادتها على كامل التراب الليبي، تحقيقا للشرعية الأممية ولوحدة ليبيا، وضمانا للمصالح الاقتصادية الحيوية لتلك الدول، ولأمنها الإستراتيجي في حوض المتوسّط.
سياسيا، أنهت معركة طرابلس مقولة "حفتر رجل ليبيا القوي"، وهشّمت صورة ما يسمّى "جيشه العرمرم"، وزادت الهزيمة من عزلة الرجل في الداخل والخارج. وبان للملاحظين أنّه عسكري مغامر، أخذته العزّة بالنّفس، وبالمال والسلاح، والمرتزقة، فداس على الديمقراطية ببوطه العسكري، وشنّ حرْبا عبثية، عشواء، على أهالي طرابلس والمنطقة الغربية، بغرض الاستيلاء على الحكم بقوّة السلاح، لا عبْر الاحتكام إلى صندوق الاقتراع. لكن من دون جدوى. وبعد خسارته المدوّية، بات من المحال القبول بالجنرال خليفة حفتر على طاولة المفاوضات بشأن الأزمة الليبية، لأنّ معظم سكّان المنطقة الغربية أصبحوا يعتبرونه غير مرغوب فيه، وهو في نظرهم شخصية انقلابية، أحادية، غازية، متمرّدة على الشرعية الدولية. وزادت الانتهاكات التي ارتكبتها قوّاته من نفور الناس منه، واستيائهم من معسكر عملية الكرامة. وجديد تلك الانتهاكات الكشف عن وجود ثماني مقابر جماعية وإعدامات بالجملة، خارج القانون، نفّذها أتباع حفتر ضدّ مدنيين في مدينة ترهونة، بشبهة معارضتهم اجتياح طرابلس، وتعاطفهم مع حكومة الوفاق. ودانت الأمم المتحدة ذلك بشدّة، ووعدت بالمساعدة في معرفة هويات الضحايا، وتعقّب مرتكبي
على الصعيد الاجتماعي، بدا واضحا أنّ كتائب عملية الكرامة لم تجد حاضنة شعبية داعمة لها على تخوم العاصمة الليبية، وفي عموم المنطقة الغربية، وعدّها معظم الأهالي قوّات متمرّدة على الشرعية. لذلك لم يحتفلوا بدخولها مدنهم، ولم يأسفوا لرحيلها. وبحسب تقارير متواترة، ارتكبت جماعات حفتر أعمالا انتقامية ضدّ مواطنين ليبيين، فدفعت كثيرين إلى النزوح والهجرة القسرية، وأسرت معارضين لوجودها وأعدمتهم، واستولت على ممتلكات آخرين، واحتلّت منازلهم. وعند انسحابها، عمدت إلى زرع متفجّرات وألغام في بعض الأحواش، وعند مداخل بعض الأحياء ومنافذ المدن، وهو ما دانته بشدّة بعثة الأمم المتّحدة في ليبيا، وعدّته استهدافا متعمّدا لحياة المدنيين. وقد وضعت وزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني خطّة "البلد الآمن" التي تهدف إلى "فرض الأمن وضبطه وملاحقة الجناة والمطلوبين وحماية أرواح المواطنين وأرزاقهم وممتلكاتهم" في المدن والمناطق التي استردّتها الحكومة من قبضة كتائب حفتر. وبعث ذلك رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين، وحفّز مهجّرين ونازحين على العودة إلى منازلهم. ومن المهمّ، في هذا السياق، أن تسعى حكومة فايز السرّاج إلى رأب الشرخ الاجتماعي بين سكان غرب ليبيا وشرقها، والناتج عن هجوم كتائب اللواء المتقاعد على طرابلس، ومن المفيد أن تمدّ جسور التواصل مع وجوه مدنية جديدة في المنطقة الشرقية، لتأمين تسوية بينية داخلية للأزمة الليبية.
ميدانيّا، أخبرت تجربة المتمرد خليفة حفتر على الحكومة المركزية في طرابلس أنّه قد يكسب
قال ونستون تشرشل: "ليبيا هي البطن الرخوة للتمساح الأوروبي"، لإدراكه أهمّيتها الإستراتيجية بالنسبة إلى أوروبا. وبعد نجاح حكومة الوفاق وقوّات بركان الغضب في تحييد مشروع حفتر، وتأمين طرابلس والمنطقة الغربية، أحرى بدول الاتحاد الأوروبّي، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، أن تساعد الحكومة المعترف بها دوليّا على بسط سيادتها على كامل التراب الليبي، تحقيقا للشرعية الأممية ولوحدة ليبيا، وضمانا للمصالح الاقتصادية الحيوية لتلك الدول، ولأمنها الإستراتيجي في حوض المتوسّط.