01 أكتوبر 2022
تديين الصراع.. بين التاريخ والسياسة
بعد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، عاد إلى الواجهة جدل "تديين الصراع"، وأثر تراجع حركات المقاومة العلمانية لصالح حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما.
الإشكالية الأولى التاريخية بهذا الطرح هي مخادعة إسقاط حقب كاملة من تاريخ قادة المقاومة الأوائل. كان مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، رائداً في العمل العسكري بتأسيسه "جيش الجهاد المقدس"، كما كان رائداً في العمل السياسي أيضاً، ومازالت صورته مع هتلر في زيارته الشهيرة إلى برلين حاضرة، وكان الشيخ عزالدين القسام شيخاً أزهرياً مُعمماً، قاد تنظيما مسلحاً، وخلفه بعد وفاته شيخ آخر، هو فرحان السعدي.
لكن هذا الخطاب، والذي دأب إسلاميون على إبرازه، مخادع، يخفي إشكالية أخرى: إنهم ليسوا الإسلاميين أنفسهم. في الحقبة الأولى، كان هؤلاء الإسلاميون قياداتٍ محليةً طبيعية، لم يقدّموا أنفسهم، ولم ينظر الناس إليهم إلا كأحدى فئات "وجهاء المجتمع"، لم يكونوا متمايزين عنه، ولا يحملون مشروعاً منفصلاً ضد مكوّنات فيه. بينما في الحقبة الثانية، ظهرت حركات الإسلام السياسي التي تمثل تنظيماتٍ تميز أعضاؤها، وتضع الحكم المتمايز هدفاً لها، كما يظهر مثلاً في رؤية حركة حماس لمنظمة التحرير في ميثاق 1988: "تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية، وهكذا نحسبها، والفكرة العلمانية مناقضةٌ للفكرة الدينية مناقضةً تامة.. يوم تتبنّى منظمة التحرير الفلسطينية الإسلام كنهج حياة، فنحن جنودها"، هكذا ليس الخلاف سياسياً مع اختيارات المنظمة، بل هو خلاف وجودي بحت مع عقيدتها! كان تطوراً إيجابياً أن "حماس" حذفت هذا المقطع أخيراً في ميثاق 2017.
إشكالية تاريخية أخرى، هي طرح "تديين الصراع" سببا لا نتيجة. الواقع أن الانطلاقة الحقيقية لمنظمة التحرير ولياسر عرفات جاء بعد إحراز الانتصار المدوي في معركة الكرامة عام 1968، وكانت العمليات النوعية ذات الصدى العالمي للجبهة الشعبية عنصراً لا يقل أهمية في تكوينها عن الأفكار الماركسية. وفي المقابل، كان صعود الإسلاميين نتيجة مباشرة لتعثر منظمة التحرير، وتدهورها في مراحل الخروج من الأردن، ثم من لبنان، مع ما شاب متاهات السياسة من فساد وتلاعب. وفقد الحلم جاذبيته وفاعليته.
إشكالية أخرى هي اعتبار أن هناك شعباً فلسطينياً موحداً متجاوزاً للتاريخ، لكن دخله مكوّن شاذ عن هويته الأصلية، سواء كان المكوّن هو الإسلامية أو العلمانية. الواقع أنها كلها تيارات تمثل الشعب، كأي شعب آخر، ويجب أن تكون قاعدة تحديد مساحة كل منها انتخابات نزيهة في إطار دستوري مع قبول الاختلاف، كأي شعب آخر.
الأهم من كل ما سبق هو النقاش حول المستقبل، لا التاريخ، حول "تديين القضية" كأداة سياسية. يركز خصوم الإسلاميين على مضار هذا التديين من زاوية شنّه حرباً عقائدية أزلية ضد اليهود، بما يعنيه ذلك من خسارة تعاطفٍ دولي، وتحويل القضية عن أنها قضية شعب مظلوم ومحتل، لكونها صراعاً وجودياً وعالمياً سيستمر إلى الأبد بين المسلمين واليهود، حتى إذا نشأت الدولة الفلسطينية.
تفتح هذه الأفكار، أيضا، مخاوف داخلية عديدة، فمن مساحة جهاد اليهود نفسها لمجرد أنهم يهود يأتي أيضاً جهاد "الغرب الصليبي" (الوصف مذكور في ميثاق "حماس" القديم وحُذف حديثاً)، كما سيأتي جهاد "المسلمين المرتدّين"، كما شهدنا مراراً حتى في غزة نفسها بإعلان السلفية الجهادية تكفير "حماس" وصدامهما عام 2009.
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال فاعلية وأهمية زاوية دينية أخرى، قادمة من سورة الإسراء وتقديس "ثالث الحرمين"، ما يجعل مسلماً في آخر العالم متضامناً مع القضية، ومستعداً لتقديم ماله ووقته لها.
ومن اللافت هنا النموذج الإسرائيلي نفسه، فمؤسسو إسرائيل كانوا علمانيين أقحاحا، لا يؤمنون بالعهد القديم ككتاب سماوي مقدس، ومع ذلك استخدموه رابطة قومية بصورة أقرب إلى اعتباره مثل "ألف ليلة وليلة" أو "الشاهنامه". موروث ثقافي يجمع شعباً.
ولعل هذه الموازنة هي ما يحتاج تحريراً، حول كيفية الوصول إلى صيغة تستبعد مكونات "تديين الصراع" المدمرة، وتستبقي مكوناته المفيدة، كنموذج إسلاميي ما قبل التنظيمات، حيث الرابطة الثقافية والحضارية لا تتعارض مع تطور مختلف مكونات المجتمع، ومع قيم الإنسانية العالمية.
الإشكالية الأولى التاريخية بهذا الطرح هي مخادعة إسقاط حقب كاملة من تاريخ قادة المقاومة الأوائل. كان مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، رائداً في العمل العسكري بتأسيسه "جيش الجهاد المقدس"، كما كان رائداً في العمل السياسي أيضاً، ومازالت صورته مع هتلر في زيارته الشهيرة إلى برلين حاضرة، وكان الشيخ عزالدين القسام شيخاً أزهرياً مُعمماً، قاد تنظيما مسلحاً، وخلفه بعد وفاته شيخ آخر، هو فرحان السعدي.
لكن هذا الخطاب، والذي دأب إسلاميون على إبرازه، مخادع، يخفي إشكالية أخرى: إنهم ليسوا الإسلاميين أنفسهم. في الحقبة الأولى، كان هؤلاء الإسلاميون قياداتٍ محليةً طبيعية، لم يقدّموا أنفسهم، ولم ينظر الناس إليهم إلا كأحدى فئات "وجهاء المجتمع"، لم يكونوا متمايزين عنه، ولا يحملون مشروعاً منفصلاً ضد مكوّنات فيه. بينما في الحقبة الثانية، ظهرت حركات الإسلام السياسي التي تمثل تنظيماتٍ تميز أعضاؤها، وتضع الحكم المتمايز هدفاً لها، كما يظهر مثلاً في رؤية حركة حماس لمنظمة التحرير في ميثاق 1988: "تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية، وهكذا نحسبها، والفكرة العلمانية مناقضةٌ للفكرة الدينية مناقضةً تامة.. يوم تتبنّى منظمة التحرير الفلسطينية الإسلام كنهج حياة، فنحن جنودها"، هكذا ليس الخلاف سياسياً مع اختيارات المنظمة، بل هو خلاف وجودي بحت مع عقيدتها! كان تطوراً إيجابياً أن "حماس" حذفت هذا المقطع أخيراً في ميثاق 2017.
إشكالية تاريخية أخرى، هي طرح "تديين الصراع" سببا لا نتيجة. الواقع أن الانطلاقة الحقيقية لمنظمة التحرير ولياسر عرفات جاء بعد إحراز الانتصار المدوي في معركة الكرامة عام 1968، وكانت العمليات النوعية ذات الصدى العالمي للجبهة الشعبية عنصراً لا يقل أهمية في تكوينها عن الأفكار الماركسية. وفي المقابل، كان صعود الإسلاميين نتيجة مباشرة لتعثر منظمة التحرير، وتدهورها في مراحل الخروج من الأردن، ثم من لبنان، مع ما شاب متاهات السياسة من فساد وتلاعب. وفقد الحلم جاذبيته وفاعليته.
إشكالية أخرى هي اعتبار أن هناك شعباً فلسطينياً موحداً متجاوزاً للتاريخ، لكن دخله مكوّن شاذ عن هويته الأصلية، سواء كان المكوّن هو الإسلامية أو العلمانية. الواقع أنها كلها تيارات تمثل الشعب، كأي شعب آخر، ويجب أن تكون قاعدة تحديد مساحة كل منها انتخابات نزيهة في إطار دستوري مع قبول الاختلاف، كأي شعب آخر.
الأهم من كل ما سبق هو النقاش حول المستقبل، لا التاريخ، حول "تديين القضية" كأداة سياسية. يركز خصوم الإسلاميين على مضار هذا التديين من زاوية شنّه حرباً عقائدية أزلية ضد اليهود، بما يعنيه ذلك من خسارة تعاطفٍ دولي، وتحويل القضية عن أنها قضية شعب مظلوم ومحتل، لكونها صراعاً وجودياً وعالمياً سيستمر إلى الأبد بين المسلمين واليهود، حتى إذا نشأت الدولة الفلسطينية.
تفتح هذه الأفكار، أيضا، مخاوف داخلية عديدة، فمن مساحة جهاد اليهود نفسها لمجرد أنهم يهود يأتي أيضاً جهاد "الغرب الصليبي" (الوصف مذكور في ميثاق "حماس" القديم وحُذف حديثاً)، كما سيأتي جهاد "المسلمين المرتدّين"، كما شهدنا مراراً حتى في غزة نفسها بإعلان السلفية الجهادية تكفير "حماس" وصدامهما عام 2009.
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال فاعلية وأهمية زاوية دينية أخرى، قادمة من سورة الإسراء وتقديس "ثالث الحرمين"، ما يجعل مسلماً في آخر العالم متضامناً مع القضية، ومستعداً لتقديم ماله ووقته لها.
ومن اللافت هنا النموذج الإسرائيلي نفسه، فمؤسسو إسرائيل كانوا علمانيين أقحاحا، لا يؤمنون بالعهد القديم ككتاب سماوي مقدس، ومع ذلك استخدموه رابطة قومية بصورة أقرب إلى اعتباره مثل "ألف ليلة وليلة" أو "الشاهنامه". موروث ثقافي يجمع شعباً.
ولعل هذه الموازنة هي ما يحتاج تحريراً، حول كيفية الوصول إلى صيغة تستبعد مكونات "تديين الصراع" المدمرة، وتستبقي مكوناته المفيدة، كنموذج إسلاميي ما قبل التنظيمات، حيث الرابطة الثقافية والحضارية لا تتعارض مع تطور مختلف مكونات المجتمع، ومع قيم الإنسانية العالمية.