مفاجأة من العيار الثقيل، فجّرها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، امتدت أصداؤها من داخل البيت الأبيض لتصل إلى كل دول العالم. وافق ترامب على عقد قمة مع الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، في مايو/ أيار المقبل، وذلك بعد فترة من التصعيد الصاروخي والكلامي بين الطرفين، وصل إلى حافة إعلان الحرب، قبل أن تدخل كوريا الجنوبية على الخط لتخفيف الاحتقان. لكن الاتفاق على موعد القمة فتح الباب أمام تكهنات حول مكان عقدها، ومن المستفيد من عقدها، ترامب، الذي يريد الفرار من مشاكله الداخلية، أم كيم جونغ أون، الذي زادت الضغوط عليه من جراء العقوبات الدولية على بلاده، وانضمام الصين، الداعم الأكبر لكوريا الشمالية، إليها.
والإعلان عن القمة الذي وصفه الرئيس الكوري الجنوبي، مون جاي إن، بأنه "أشبه بمعجزة"، يشكّل أحدث تطور في عملية تقارب سريعة بدأت بين الكوريتين أخيراً. فقد تبادل البلدان زيارات، فيما أرسلت بيونغ يانغ وفداً للمشاركة في الألعاب الأولمبية الشتوية في الجنوب، التي أطلقت عليها سيول اسم "ألعاب السلام". وجاء هذا الانفراج بعد فترة توتر شديدة بين بيونغ يانغ وواشنطن أثارت مخاوف من اندلاع نزاع في المنطقة. فقد وصف ترامب الزعيم الكوري الشمالي، قبل أشهر فقط، بأنه "رجل الصاروخ"، فيما ردّ كيم جونغ أون بوصف ترامب بأنه "مضطرب عقلياً". وكانت كوريا الشمالية، التي تخضع لعقوبات فرضها مجلس الأمن الدولي ودول عدة، تصرّ حتى الآن على أن تطوير برنامجها النووي أمر غير قابل للتفاوض. وقبل ثلاثة أسابيع فقط، أعلن ترامب عن عقوبات جديدة على بيونغ يانغ، بعد ساعات على وصول ابنته إيفانكا إلى كوريا الجنوبية لحضور اختتام الألعاب الأولمبية الشتوية.
ويأتي هذا التغيير الذي لم يمكن مطروحاً قبل أسابيع فقط، بعد سنتين على توتر حاد بين واشنطن وبيونغ يانغ بشأن البرنامجين النووي والبالستي لكوريا الشمالية. حتى اللحظة، لا يزال أمر انعقاد القمة احتمالاً نظرياً، إذ معروف عن ترامب مناوراته السياسية، والتغيير المفاجئ في آرائه، وهو ما يترجم سياسياً بقرارات لا يتوقعها أقرب المقربون منه. لكن إن حصلت القمة بالفعل فأغلب الظن أن تعقد تحت شعار: ضمان استمرار نظام كوريا الشمالية، في مقابل تجميد أو وقف البرنامج الكوري الشمالي، أو الاتفاق على بدء مفاوضات قد تنتهي باتفاق شبيه بذاك الذي وقع في 14 يوليو/ تموز 2015 في فيينا، بين الدول الغربية من جهة، وإيران من جهة ثانية.
وفي خطاب أمام الجناح الغربي للبيت الأبيض، مساء الخميس، أعلن مستشار الأمن القومي للرئيس الكوري الجنوبي، شونغ أوي يونغ، أن ترامب قبل الدعوة إلى هذه القمة التاريخية. وقال شونغ أوي يونغ، في بيان: "تشرفت بإطلاع الرئيس ترامب على زيارتي الأخيرة إلى كوريا الشمالية. أرغب في التعبير عن الشكر للرئيس ترامب ونائب الرئيس وفريقه الرائع لشؤون الأمن القومي، بمن فيه صديقي العزيز الجنرال (هيربرت) ماكماستر. أوضحت للرئيس ترامب أن قيادته وسياسته للضغوط القصوى، مع تضامن دولي، قادتنا إلى هذه النقطة. نقلت الشكر الشخصي للرئيس (الكوري الجنوبي) مون جاي (إن) لقيادة ترامب. قلت للرئيس ترامب خلال لقائنا إن الزعيم الكوري الشمالي قال إنه ملتزم نزع السلاح النووي. وعد كيم بأن تحجم كوريا الشمالية عن أي تجارب نووية وصاروخية أخرى. إنه يتفهّم أن التدريبات العسكرية الروتينية بين الجمهورية الكورية والولايات المتحدة يجب أن تستمر وعبّر عن حماسه للقاء الرئيس ترامب في أقرب وقت ممكن. عبر ترامب عن تقديره لهذا العرض، وقال إنه سيلتقي كيم جونغ أون بحلول مايو/ أيار لإنجاز نزع دائم للأسلحة النووية. تبقى الجمهورية الكورية والولايات المتحدة وشركاؤنا الكثر في العالم ملتزمين بالكامل، وبتصميم، إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية. نحن وترامب متفائلون بمواصلة العملية الدبلوماسية لاختبار إمكانية تسويتها بطريقة سلمية. تقف الجمهورية الكورية والولايات المتحدة وشركاؤنا معاً في الإصرار على عدم تكرار أخطاء الماضي، وعلى مواصلة الضغط إلى أن تحول كوريا الشمالية أقوالها إلى أفعال ملموسة".
وأوضح مسؤول أميركي أنه لم يتم تسليم أي رسالة خطية من الزعيم الكوري الشمالي إلى ترامب، موضحاً أن دعوته نقلت "شفهياً". وأكد البيت الأبيض أن ترامب قبل اقتراح كيم جونغ أون بعقد قمة بينهما. ورحب ترامب، في تغريدة، "بالتقدم الكبير" الذي أحرز في ملف كوريا الشمالية، مشيراً إلى أن زعيم كوريا الشمالية ناقش مسألة "نزع" للأسلحة النووية مع ممثلي كوريا الجنوبية، وليس مجرد "تجميد" للأنشطة النووية فقط. وأكد ترامب أنه "تم إحراز تقدم كبير، لكن العقوبات ستبقى إلى حين التوصل إلى اتفاق". ويعتبر الإعلان المفاجئ عن عقد قمة تاريخية بين ترامب وكيم جونغ أون تطوراً رئيسياً في أحد الملفات الدبلوماسية الأكثر تعقيداً في العالم. لكن أسئلة كثيرة تُطرح حول هذا اللقاء، أين ستعقد القمة؟ الأمر الوحيد المؤكد في هذه المرحلة هو أن القمة ستعقد بحلول مايو/ أيار المقبل. وإذا أجري اللقاء في بيونغ يانغ، فإنه من المؤكد أنه سيتم استقبال ترامب بحفاوة، لكنه يجازف بإعطاء انطباع بأنه يقيم وزناً وتقديراً كبيراً للشمال. ويُرجّح حصول لقاء ترامب-كيم في المنطقة منزوعة السلاح التي تقسم شبه الجزيرة الكورية، حيث سيلتقي كيم جونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي، مون جاي إن، أواخر إبريل/نيسان المقبل، في القمة الكورية الثالثة في التاريخ.
وفي حال اختيار مدينة أجنبية لها بعد رمزي أخف، مثل بكين أو جنيف، حيث أنهى كيم جونغ أون دراسته، فإن ذلك سيُشرك دولة أخرى في مجريات تنظيم القمة. بالإضافة إلى أن ذلك يتطلب سفر المعنيين، في وقت لم يغادر كيم جونغ أون كوريا الشمالية منذ وصوله إلى الحكم أواخر عام 2011. وتعتبر سيول مكاناً غير وارد بالنسبة إلى الشمال، شأنها شأن واشنطن. لكن في الوقت ذاته، لم يتخيّل أحد قبل ثلاثة أشهر ذهاب شقيقة الزعيم الكوري الشمالي إلى العاصمة الكورية الجنوبية بعدها بأسابيع لحضور حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية. وإن وقع الاختيار على مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، مدينة الرئيس الأميركي، فإن ذلك يتطلب ذهاب كيم جونغ أون إلى الأراضي الأميركية. ولم يسبق أن قابل أي رئيس أميركي قادة كوريا الشمالية، فضلاً عن الذهاب إلى بيونغ يانغ. لقد دعا الزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم جونغ ايل بيل كلينتون للمجيء، بعد أول قمة كورية شمالية جنوبية في سنة 2000، لكن كلينتون رفض وزار الشمال بعد نهاية رئاسته، لضمان الإفراج عن سجناء أميركيين. وقام الرئيس الأسبق جيمي كارتر كذلك بمهمة إنسانية وبزيارات أخرى من أجل دعم السلام في شبه الجزيرة الكورية.
وأُحرج تيلرسون في موضوع القمة، إذ بدا كأنّه آخر من يعلم، إذ جاء إعلان عقد القمة من البيت الأبيض بعد أقل من 24 ساعة على تأكيده أن الولايات المتحدة لا تزال "بعيدة عن إجراء مفاوضات" مع بيونغ يانع. وحاول تيلرسون استدراك الموضوع، أمس الجمعة، معتبراً أن موقف كيم جونغ أون بالانفتاح ورغبته في بحث برنامجه النووي "فاجأ قليلاً" الولايات المتحدة ودفع بترامب إلى قبول اللقاء. وأضاف تيلرسون، في ختام لقاء في جيبوتي مع نظيره محمود علي يوسف، "أعتقد أنه التقرير الأكثر إيجابية الذي نتلقّاه ليس حول رغبة كيم جونغ أون فقط وإنما حول رغبته الفعلية في إجراء مباحثات". وتابع "ما تغير هو موقفه، وبشكل كبير"، مضيفاً "الآن يجب الاتفاق على توقيت أول لقاء، وهذا الأمر سيستغرق أسابيع قبل أن تتم تسوية كل شيء". ورسم تيلرسون حداً فاصلاً بين "المحادثات" مع كوريا الشمالية و"المفاوضات"، معتبراً أن استعداد ترامب للتحدث مع كيم جونغ أون لا ينبغي أن يفسر بأكثر من ذلك.
ويزعم أنصار ترامب أنّ تشدّده ولغته الصارمة قد لعبا دورهما في الحلحلة التي أدت إلى القمة، وما قد تقود إليه من انفراج، أو على الأقل، إلى الابتعاد عن سيناريو الحرب. لكن الموافقة الغريبة، وبهذه السرعة، على القمة، وانفراد ترامب في البت بأمرها، عزّزا الشكوك وأثارا مخاوف مشروعة. فالبيت الأبيض المقتنع بأنّ التسوية مع كوريا الشمالية غير متوفرة شروطها، ربما يكون لجأ إلى هذه المناورة ليحوّل الأضواء عن مشكلاته المتزايدة، الشخصية منها وتلك المتعلّقة بالتحقيقات الروسية. كذلك أعربت أوساط كثيرة عن تخوّفها من تبعات مثل هذه "المجازفة" التي تقدّم للرئيس الكوري الشمالي "الاعتراف والشرعية بلا مقابل". فهي المرة الأولى التي سيلتقي فيها رئيس أميركي، خلال ولايته، مع زعيم كوري شمالي، منذ الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي. ويُعرف الدبلوماسيون في كوريا الشمالية بأنهم مفاوضون محنكون، لكن منذ انتخاب ترامب رئيساً، خسرت وزارة الخارجية عدداً كبيراً من الخبراء في الملف الكوري، فيما لم يتم حتى الآن تعيين سفير جديد للولايات المتحدة لدى سيول. وتخلى أخيراً الممثل الأميركي الخاص للسياسة الكورية الشمالية، جوزف يون، الذي كان يعتبر إحدى "قنوات التواصل" الرئيسية مع بيونغ يانغ، عن منصبه لأسباب "شخصية".
ويهدف كيم جونغ أون من وراء "التخلي عن النووي" إلى الحفاظ على حكمه، خصوصاً مع انضمام الصين، التي قدمت على مدى عقود دعماً دبلوماسياً واقتصادياً غير مشروط للشمال، إلى العقوبات الدولية. وتشهد العلاقات بين بكين وبيونغ يانغ توتراً في الوقت الراهن، إذ لم يذهب كيم إلى بكين للقيام بالزيارة التقليدية للرئيس الصيني، شي جين بينغ، التي يقوم بها عادة المسؤولون الكوريون. وقد أثار تهور الزعيم الكوري الشمالي غضب الصين وكذلك سلسلة تجاربه النووية والبالستية. فأظهرت بكين أكثر فأكثر إرادتها تطبيق العقوبات الدولية على بيونغ يانغ. وفي الوقت ذاته، تخشى الصين أكثر من أي شيء آخر انهيار كوريا الشمالية، ما سيؤدي بشكل منطقي إلى ظهور كوريا موحدة على حدودها مؤيدة لواشنطن. وقد يكون بدء المفاوضات خبراً ساراً بالنسبة إلى الصين، التي تنظر بإيجابية إلى أي تخفيض للوجود العسكري الأميركي الذي قد ينتج عن اتفاق محتمل. وقال اندري لانكوف، من "مجموعة كوريا للمخاطر"، إن الصين، وهي الشريك التجاري الرئيسي لبيونغ يانغ، فرضت "عقوبات قاسية للغاية للمرة الأولى" على كوريا الشمالية التي كان يتوقع أن يبدأ اقتصادها "بالانهيار" خلال سنة. وأضاف أن "الأهم هو الخوف من عملية عسكرية تنفذها واشنطن. والكوريون الشماليون لا يريدون أن يكونوا في مرمى النيران"، ولكن بيونغ يانغ "ستحاول كسب الوقت قدر المستطاع. وسيتحدثون عن نزع السلاح النووي مطولاً، من دون أن تكون لديهم أي نية بتسليم سلاحهم الذري".
ورحبت روسيا والصين والاتحاد الأوروبي بالإعلان عن القمة. وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إنه يشكل "خطوة في الاتجاه الصحيح"، فيما أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، جينغ شوانغ، عن "الأمل في أن "يتحلى الطرفان بالشجاعة السياسية لاتخاذ القرارات الصائبة". وأكد أن الإعلان عن القمة هو نتيجة غير مباشرة لاقتراح الصين تعليق التجارب النووية ووقف المناورات المشتركة الأميركية الكورية الجنوبية في وقت واحد. واعتبرت المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي، مايا كوسيانسيتش، أن موافقة ترامب على عقد قمة تاريخية مع كيم جونغ أون تشكل "تطوراً إيجابياً". وقالت إن "واقع استعداد ترامب لقبول دعوة كيم جونغ أون إلى قمة يشكّل أيضاً تطوراً إيجابياً". وقال متحدث باسم رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، إن لندن ستواصل الضغط على كوريا الشمالية، حتى مع ترحيب بريطانيا بالتطور الأخير المتعلق بالاجتماع المنتظر بين ترامب وكيم جونغ أون، فيما أعلنت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أن هناك من الأسباب ما يدعو للأمل بشأن الوضع في كوريا الشمالية. وأضافت "سيكون أمراً رائعاً لو شهدنا انفراجة".
إلى ذلك، وعد كيم جونغ أون بعدم إيقاظ الرئيس الكوري الجنوبي، مون جاي إن، من النوم بعد الآن على إنذارات متعلقة بإطلاق صواريخ، بحسب ما ذكرت سيول، أمس الجمعة. وأجرت بيونغ يانغ العام الماضي 20 تجربة للصواريخ البالستية، معظمها في ساعات مبكرة صباحاً. ونقل مسؤول كوري جنوبي عن الزعيم الكوري الشمالي القول "اتخذت قراري، لن يتم إيقاظ الرئيس مون من النوم بعد الآن باتصالات في ساعة مبكرة صباحاً".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)