31 أكتوبر 2024
ترامب وحسن نصر الله
الفيلم الجديد لستيفن سبيلبرغ عن أميركا أوائل السبعينات، برئاسة ريتشارد نيكسون، وعنوانه "البوست"، يحكي عن مغامرة صحيفة وشنطن بوست في الكشف عن تقارير تثبت كذب "الانتصارات" التي يحرزها الأميركيون في حربهم ضد الشعب الفيتنامي، والضغوط التي تتعرّض لها الصحيفة لعدم نشرها. وقال سبيلبرغ، في مقابلة معه، إن الفيلم هو لإعادة الاعتبار إلى الصحافة الرصينة، في هذا العهد بالذات، حيث تتعرَّض لهجمة سافرة ومنظّمة على يد رئيس أميركا الجديد، دونالد ترامب. يعود سبيلبرغ إلى زمن نيكسون، ليقارن، فيقدّم شريطه بصفته مناهضة صريحة لرئيس سابق، وأخرى شبه مباشرة لرئيس حالي، في كذبهما ومعاداتهما حرية النشر. ولازمته، من خلال بطله: "أفضل طريقة لمحاربة الصمت هي النشر".
حنين غدار، باحثة وصحافية لبنانية، أدارت بجدارة عالية موقعاً إخبارياً له وجهة نظر نقدية لسياسة حزب الله. ثم انتقلت إلى العمل في مؤسسة بحثية أميركية. قبل أربع سنوات، كان لحنين غدار محاضرة، مسجّلة، تقول فيها ما يقوله نصف اللبنانيين، همساً أو علناً، إنه لا فرق بين إرهاب أصولية سنية وإرهاب أصولية شيعية، وإن الجيش اللبناني يميّز بين الإثنين لصالح الثاني، وتقصد به حزب الله.
الآن، الإثنان، سبيلبرغ وغدار، اجتمعا عند حزب الله. الأول، سبيلبرغ، وقد أطلق حسن نصر
السؤال هنا بخصوص التوقيت: ما الذي ذكّر حزب الله وممثليه في أجهزة القضاء اللبناني بالخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حنين غدار، ومرت عليها أربع سنوات؟ ليس السؤال هنا عن ضرورة الحوار السياسي، ولا عن الحقوق المحفوظة في الدستور اللبناني لحرية القول... فيبقى: لماذا الآن، بعد أربع سنوات؟ ألا يمكن أن تكون حنين غدار غيرت رأيها مثلا؟ أو بالعكس، ذهبت إلى أبعد منه؟
السؤال نفسه يُطرح بخصوص سبيلبرغ وفيلمه؛ مع أنه، في هذا الفيلم بالذات، يبدو مناهضاً لسياسة بلاده الخارجية، ليلتقي هنا مع موقف حزب الله المعروف من هذه السياسة.. بل أكثر من ذلك: بعد حرب 2006، التي يتحجّج بها حسن نصر الله، أخرج سبيلبرغ عشرة أفلام. من بينها فيلم "لينكولن" (2012) عن الرئيس الأميركي السادس عشر، الذي أنهى الحرب الأهلية الأميركية، ووحّد أميركا وألغى العبودية. هذا مثل من بين الأمثلة عن التزام سبيلبرغ بالقضايا التي تهمّنا نحن في هذا الشرق التعيس. عشرة أفلام لسبيلبرغ استقبلتها صالات بيروت منذ حرب 2006. ما الذي ذكّر فجأة جماعة الممانعة بأن المطلوب مقاطعته، ومنع فيلمه؟ لن نتكلم هنا عن المفاعيل العكسية لهذا المنع، وقد حصلت مع فيلم زياد الدويري الجديد "قضية رقم 23"، الذي تعرّض للحملة نفسها، فكانت النتيجة أن فيلمه بقي يُعرض في الصالات اللبنانية خمسة أشهر، تخطى خلالها أرقاماً قريبة إلى القياسية، وكان، في هذه الأثناء، ينال شهرة عالمية. ولن نتكلم أيضاً عن ضرورة معرفتنا ثقافة "أعدائنا"، وعن أضرار الانغلاق الثقافي التي تنتجه مفاعيل المقاطعة.. إلخ. فالمشكلة هنا في المعايير. كيف يقاطَع من دفع مليون دولار لإسرائيل، ويبقى أكبر مموِّل إسرائيل حراَ طليقاً؟ لما لا نقاطع أميركا كلها؟ ومعها أفلامها وطائراتها وعوالمها الافتراضية.. "فيسبوك" مثلاً؟
أيضاَ: لماذا الآن حنين غدار وستيفن سبيلبرغ؟ لماذا يطفح فجأة الوسْواس التطبيعي؟ ماذا كانت تفعل مكاتب المقاطعة طوال هذه السنوات؟ ومراكز أبحاث حزب الله التي يعمل فيها المهرة من المتوترين الدائمين من أية همسة إسرائيلية، من أية نظرة؟ هل هي قلّة منهجية في القمع والضبط؟ أم مزاج؟ أم طبيعة تكوينية؟ أم ثغرات في العقيدة؟
بعض من الجواب: للقصة علاقة بالمناخ ربما. في أميركا ترامب أولاً، حيث الحريات الصحافية مهدَّدة، بأفعال رئيسها الجديد وأقواله. فترامب، على الرغم من فوضويته الإدارية، جهله وانعدام كفاءته، وربما بسبب هذه "الصفات"، ينتظم في حملته على الصحافة، كانت أخيرا جائزة "الأخبار الكاذبة"، وهدفها النيل من أكثر الصحف الرصينة. ربما هو أوضح من يكون في كراهيته هذه حرية الكلمة. ترامب وحزب الله يلتقيان هنا. ترامب يهدي حزب الله، وغيره من حلفائه وخصومه، الهواء الأسود، صانع المناخ الجديد المحقِّر للكلمة الحرة والخبر الصحيح. هذا المناخ ينتقل بسرعة إلى لبنان، قبل حنين غدار وقبل ستيفن سبيلبرغ. البلاغات والتوقيفات وحملة تحسّس الرؤوس تعود بقوة وتخوض أسخف المعارك؛ بعدما أصبحت الصحافة اللبنانية أشلاء.. الحليفان، الجهل والقمع يسيران مسيرة العودة إلى كمّ الأفواه. يختلف ترامب مع حسن نصر الله حول محبة إسرائيل من كراهيتها، ولكنهما يلتقيان، في لبنان، على كراهية الهواء الطلق. وترامب بهذا المعنى، من هذه الزاوية بالذات، هو حليف حسن نصر الله.
وبهذا لا يختلف لبنان عن غيره من الدول. ترامب ألهمَ جميع الطغاة الأرض، ورفدهم بجرعة من الاعتباط: انظر إلى الدول التي تراجعت عن القليل من الحريات التي كانت تمنحها للصحافة، أو التي عزّزت تسلّطها، بعدما رأت رأس الهرم الأميركي الديمقراطي الأعظم يعود إلى الوراء. إليكَ طُرفة، صحيحة أو متخيَّلة، لكنها محتملة، رواها صحافي رافق الرئيس اللبناني، ميشال عون، في زيارته أخيرا إلى باريس. إذ نقل عن "مصدر" أن أحدهم استغرب أن الوفد اللبناني الرسمي الذي الذي رافق الرئيس في هذه الزيارة كان جلّه مؤلفاً من أفراد عائلته وأهله. فسأل أحدهم عن سرّ هذه "العائلية" الفائضة. وكان جواب الأخير: "ماذا تريد؟ أن يختلف ميشال عون عن دونالد ترامب، رئيس أقوى ديمقراطية في العالم؟".
والنتيجة، أنه صار مطلوباً مقاومة هذا المدّ العالمي للقمع. بالصغيرة منها نبدأ: بقراءة حنين غدار ومشاهدة فيلم ستيفن سبيلبرغ.