على وقع موسيقى أغنية "عش ودع غيرك يموت"، جال الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الأسبوع على مصنع كمّامات طبية في ولاية أريزونا. هذا المشهد السريالي يختصر مزاج الرئيس الذي يرغب بإعادة فتح الاقتصاد بأسرع وقتٍ ممكن، حتى لو كانت الكلفة البشرية عالية، بعدما تجاوز عدد الوفيات بسبب وباء كورونا عتبة الـ70 ألفاً في الولايات المتحدة. هذه المعركة السياسية بين إعادة فتح الاقتصاد أو الاستمرار بالحجر الصحي حفاظاً على الصحة العامة، ستكون عنوان الانتخابات الرئاسية الأميركية هذا العام، وقد ترسم معالم نتائجها.
ترامب يقرع الطبول منذ فترة عن انتعاش اقتصادي يلوح في الأفق خلال الربع الثالث من العام الحالي، على الرغم من تحذيرات الأخصائيين دخل إدارته بأن الفيروس قد يعود اقوى خلال خريف وشتاء عام 2020. تقرير لجامعة بنسلفانيا يتوقع ان ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنسبة 11.6 في المائة مقارنة مع العام الماضي إذا لم تتم إعادة فتح الاقتصاد قبل نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل، فيما سينمو الناتج المحلي 1.5 في المائة وسيتم الغاء البطالة التي سبّبها كورونا لو أعيد فتح الاقتصاد قبل هذا الموعد.
طريق إعادة فتح الاقتصاد يمر عبر حلّ خلية أزمة فيروس كورونا التي تمّ تشكيلها في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، بهدف "التنسيق والإشراف على جهود الإدارة لرصد ومنع انتشار واحتواء" الوباء، لكنها لم تكتسب أهمية حتى تولى رئاستها نائب الرئيس مايك بنس في 26 فبراير/شباط. لجنة العمل هذه خرجت منها وجوهٌ علمية بارزة أصبحت مرجعاً للأميركيين في هذه المرحلة، مثل الفيزيائية ديبورا بيركس التي تمّ تعيينها مسؤولة الرد في الخلية، وزميلها أنطوني فاوتشي، خبير الأوبئة الذي يعمل مديراً للمعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية.
ترامب أرسل بالون اختبار عبر بنس يُلمح فيه إلى أنه قد يتم تفكيك خلية الأزمة مع نهاية شهر مايو/أيار الحالي، قبل أن يتراجع الرئيس عن هذا الأمر في اليوم التالي نتيجة الضغوط داخل الحزب الجمهوري. الخطة كانت تقضي بنقل قضايا متابعة تطورات الوباء والتأمين اللوجستي للمعدات الطبية إلى الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، مقابل تشكيل خلية عمل جديدة في البيت الأبيض معنية حصراً بإعادة فتح الاقتصاد، ما يعني عملياً فصل الصحة العامة والأخصائيين عن السياسات العامة للإدارة في مرحلة الوباء وتخفيض رتبة فاوتشي، أي إبعاده عن الأضواء عبر إعادته إلى منصبه الرئيسي في المعهد القومي.
بعد الضغوط عليه، تراجع ترامب في اليوم التالي بعد تصريح بنس عن خلية الأزمة، مشيراً إلى أن الخلية ستبقى "لأجل غير مسمى". وقال الرئيس بصراحة "اعتقدت أنه يمكننا إنهاؤها في وقت قريب، لكن لم يكن لدي فكرة عن مدى شعبية لجنة العمل قبل الأمس حين بدأت الحديث عن تصفيتها". الخطة البديلة يبدو أنها استبدال بعض أعضاء الخلية، وتعيين آخرين في محاولة لتغيير التوازن فيها، وتحويل تركيزها إلى جهود توفير اللقاح واختبارات الكشف عن الفيروس كما القضايا الاقتصادية، بحيث ستعمل اللجنة تحت شعار جديد هو "السلامة وفتح اقتصادنا من جديد". البند الآخر ضمن استراتيجية حملة ترامب الانتخابية، هو الضغط على خلية الأزمة من الخارج، أي الاستمرار في حشد رأي عام يضغط على حكّام الولايات لتخفيف توجيهات التباعد الاجتماعي، وبالتالي يأتي قرار إعادة فتح الاقتصاد تلقائياً من الولايات، لا سيما أن 41 ولاية من أصل 50 قد أعلنت خططاً لإعادة فتح اقتصادها جزئياً.
ولاية مثل تكساس على سبيل المثال، سجلت 3 آلاف إصابة جديدة بالفيروس بعد أيام من إعادة فتح اقتصادها، لكن ترامب يبدو أنه يتابع استطلاعات الرأي التي ترى تراجعاً في قلق الرأي العام الأميركي من كورونا. استطلاع قناة "سي أن بي سي" يشير إلى أن منسوب القلق تراجع اليوم إلى 68 في المائة، مقابل 76 في المائة الشهر الماضي في الولايات المتأرجحة انتخابياً، في أريزونا وفلوريدا وميشيغن وكارولينا الشمالية وويسكونسن. ترامب يلعب أيضاً على وتر الانقسامات الحزبية، بحيث قال إنه ليس "عدلاً" للجمهوريين أن جهود الإنقاذ الاقتصادي هي موجهة لولايات ديمقراطية تحتاج للمساعدة بسبب سوء إدارة حكامها.
ينطلق ترامب من فكرة أنه مهما كانت كبيرةً خسارة الأرواح الناجمة عن كورونا، فإن تكلفة إغلاق الاقتصاد الأميركي أصبحت أكبر، على الرغم من أن استطلاعاً للرأي نشرته جامعة مونموث هذا الأسبوع، يشير إلى أن 56 في المائة من الأميركيين يعتبرون أن التأكد من سلامة الأميركيين أهم من تخفيف الإجراءات لإعادة فتح الاقتصاد، فيما دعمُ ترامب ثابتٌ على حوالي 43 في المائة، أي أن قاعدته الانتخابية لا تزال متمسكة به.تقييم إدارة ترامب، الذي تمّ تسريبه إلى "نيويورك تايمز" يوم الإثنين الماضي، يتحدث عن احتمال وفاة 3 آلاف شخص يومياً في الولايات المتحدة بحلول الأول من يونيو/حزيران المقبل، فيما معدل الوفاة حالياً هو 1750 يومياً. إصرار ترامب على تصوير هذا التحدي على أنه خيارٌ بين الاقتصاد أو الصحة العامة، بين الخسائر الاقتصادية أو البشرية، قد يزيد تعقيدات التعامل مع كورونا في الداخل الأميركي خلال المرحلة المقبلة، بدل التركيز على خيارٍ ثالث أي تعزيز البنى التحتية الطبية لاستمرار احتواء الوباء على المدى المتوسط، مع إعادة فتحٍ تدريجية للاقتصاد.