لا يُمكن فصل الحديث المتصاعد داخل الولايات المتحدة حول الخشية من دخول البلاد في حلقة من العنف، قد تنتج عن خسارة الرئيس دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية المقررة بعد شهر ونصف من اليوم، عن الاستراتيجية التحريضية التي اتبعها الملياردير الأميركي منذ ترشحه للرئاسة. كما لا يمكن فصلها عن ظاهرة "الترامبية"، خلال حملة الرئاسيات الماضية والتي تبنت خطاباً عنفياً، برز في مراحله الأولى بالتركيز على معاداة المهاجرين، والتهجم الشرس على دائرة الرئيس السابق باراك أوباما.
ولعل أبرز مثال على ذلك عندما عمد المرشح الجمهوري في عام 2016 إلى تحريض مؤيدي حمل السلاح الفردي (وهو حق محمي في التعديل الثاني من الدستور)، من أجل "وقف" المرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون، ووصل تفسير ما قاله في بعض المنتديات، إلى حدّ الحديث عن دعوة ترامب غير المباشرة لاغتيال منافسته.
رئاسة ترامب مضت على المنوال نفسه، ويمكن أرشفتها بسلسلة طويلة من الإهانات والتحريض وتأجيج الانقسام. وليس تطور الأحداث، وتشابكها، بين تصاعد حدة الحراك المناهض للعنصرية، وتقدم المرشح الديمقراطي جو بايدن في استطلاعات الرأي، وتراجع الاقتصاد الأميركي جرّاء وباء كورونا، وما ينتج عنه من وهن داخل المجتمع الأميركي، سوى علامات قد تقود إلى عدم استبعاد تعرض الديمقراطية الأميركية لخضّة خطرة، قد تكون بوادرها ظهرت للعيان أخيراً، في أحداث أورويغون وويسكونسن. وتؤدي شخصية ترامب نفسه، ونظرية المؤامرة التي بنى عليها رئاسته، دوراً كبيراً في احتمال دخول الولايات المتحدة مرحلة من الفوضى، في حال رفضه نتائج الانتخابات. وتدخل كلمتا سرّ في هذه المعادلة، هما "التصويت عبر البريد"، والولايات التي تعد ساحة معارك، وحيث نتائج استطلاعات الرأي تتوقع منافسة شرسة بين ترامب وبايدن.
وكان ترامب قد سقط أخيراً في اختبار وباء كورونا، وهو يقاتل اليوم على أكثر من جبهة داخلية وخارجية للفوز بإنجازات قد تسعفه للفوز بولاية ثانية. وبحسب موقع معهد "بروكينغز"، فإنه على عكس ما يشتهيه الديمقراطيون، فإن شخصية ترامب لن يكون لها سوى تأثير محدود على نتيجة السباق الرئاسي.
سقط ترامب في اختبار وباء كورونا، وهو يقاتل اليوم على أكثر من جبهة داخلية وخارجية للفوز بإنجازات
وإذا كان هذا هو واقع الحال السياسي، فإن الميدان ينذر باحتقان متصاعد داخلياً، بدأ الرئيس يسترجع فيه القوة للمضي قدماً في خطابه العنفي. ويجعل ترامب من التهويل من جماعة "أنتيفا" اليسارية، التي يعتبر وجودها في الساحة الأميركية في الواقع ضعيفاً، ولصقها بالحزب الديمقراطي، مقابل استماتته لحماية اليمين المتطرف، وأحياناً استغلاله، العنوان الأول لسياسته الداخلية، فيما ذهب محللون إلى استنتاج أن ذلك يأتي تمهيداً لمرحلة ما بعد صدور نتائج الانتخابات، وتحضيراً لمعركة "انقلاب" ترامبي عليها، إذا ما خسر. ورأى موقع "بزنس إنسايدر" أن الرئيس وحلفاءه "بدأوا عملية تطبيع لفكرة تأجج العنف في يوم الاقتراع"، عبر العزف على وتر الخوف الأميركي ومشاعر الغضب لدى شريحة من الأميركيين.
وفي مقابلة مع "فوكس نيوز"، السبت الماضي، لمّح ترامب إلى أنه قد يلجأ إلى "قانون التمرد"، أو "العصيان" لعام 1807، الذي يسمح له بنشر القوات الخاصة أو الحرس الوطني لإنفاذ القانون، لقمع أي أعمال شغب تلي الانتخابات. وقال ترامب، الذي هدد بالقانون ذاته لإخماد الاضطرابات التي تلت مقتل المواطن جورج فلويد في مايو/ أيار الماضي، إنه سينشر القوات الفيدرالية "سريعاً" إذا اقتضت الضرورة. ورأى الموقع أن كلام الرئيس "يأتي ضمن استراتيجية منسقة منه لبناء سردية أن الأمة سوف تدخل في عنف فئوي إذا لم يُعَد انتخابه".
ويروج "رجال ترامب"، بدورهم، لمرحلة مقبلة من العنف ستحيط بانتخابات 2020. قبل أيام، دعا روجر ستون، مستشار ترامب السابق، في حديث لموقع "إنفو وور"، الرئيس لاستخدام "القانون العسكري العرفي" للبقاء في البيت الأبيض، أو اللجوء إلى "قانون التمرد" إذا لم يفز. وفي دليل على عمق الانقسام داخل البلاد، بين تياري "المحافظين" و"الليبراليين"، طالب ستون بسجن مارك زوكربرغ، مؤسس "فيسبوك"، وتيم كوك، مدير "أبل"، وبيل وهيلاري كلينتون، وكل "من يثبت انخراطه في أعمال غير قانونية مرتبطة بالانتخابات".
وسط ذلك كلّه، يردد الرئيس فرضية أن التصويت عبر البريد، الذي يدعو إليه الديمقراطيون، سيقود إلى تزوير واسع لنتائج الانتخابات. كما أعاد ستون الادعاء بأن تزويراً يحصل في ولايتي فلوريدا ونيفادا، وأضاف أن الأصوات الناخبة في الولاية الأخيرة لا يجب أن تحتسب، لأنها "مليئة بالتصويت غير القانوني". حتى أنه طالب بـ"احتجاز المارشالات الفيدراليين لصناديق اقتراع نيفادا". بدروه، خرج مايكل كابوتو، الذي عمل في حملة ترامب الماضية، وهو اليوم مستشار في وزارة الصحة، عبر "فيسبوك"، الأحد الماضي، ليتنبأ بـ"العنف القادم". وقال إنه إذا رفض بايدن الاعتراف بفوز ترامب، "ستخرج الفوضى". وأضاف أنه "عندما سيرفض ترامب التخلي عن منصبه، سيبدأ إطلاق النار. إذا كنتم تحملون السلاح، اشتروا عتاده من الآن، لأنه سينفد من الأسواق".
يهول أنصار ترامب من المجموعات الشعبوية المتطرفة، ومنها المليشيات المسلحة، بـ"الحرب الأهلية"
ويهول أنصار ترامب من المجموعات الشعبوية المتطرفة، ومنها المليشيات المسلحة، مثل "حافظو القسم" و"ثلاث في المائة"، بـ"الحرب الأهلية". وكانت "ترانزيشن إنتغريتي بروجكت"، وهي مجموعة غير حزبية من أكاديميين وصحافيين ومسؤولين حكوميين حاليين وسابقين، قد أصدرت أخيراً تقريراً رسمت فيه سيناريوهات عدة للانتخابات الأميركية، هي بمجملها قاتمة. وبرأيها، فإن ترامب ثبّت في عقول أنصاره فرضية التزوير، ما يفتح احتمال أن يرفض هؤلاء نتائج الانتخابات (إذا خسر)، باعتبارها غير قانونية. ويتنبأ التقرير بإمكانية أن تقدم الإدارة على احتجاز الأصوات عبر البريد، لمنع عدّها، أو للضغط على السلطات التشريعية التي يسيطر عليها الجمهوريون للتصديق على النتائج قبل احتساب الأصوات عبر البريد. وقال التقرير إن "التزوير الانتخابي، عملياً، غير موجود، لكن ترامب يكذب حوله لخلق سردية هدفها تحشيد قاعدته، ووضع الأساس لرفض النتائج إذا ما خسر"، مضيفاً أن احتمال اندلاع عنف "عالٍ جداً، خصوصاً لأن ترامب يحمس أنصاره لحمل السلاح".
من جهتها، رأت مجلة "تايم"، يوم الثلاثاء الماضي، أن "شبح استخدام القوة للبقاء في السلطة لا يأتي من فراغ، ففي الوقت الذي يهدد فيه انتشار نظرية المؤامرة العملية الديمقراطية، يخشى خبراء مكافحة الإرهاب من أن تحرك الدعوات للتسلح والتحريض الجماعات اليمينية المتطرفة" (تضاعفت في عهد أوباما). وقال ديفيد غوميز، وهو مسؤول سابق في مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي)، إن "الأمر خطير، لأنه بالنسبة إلى هذه الأقلية، فهو تأكيد على معتقداتها". لكنه أضاف أنه "من الصعب الاعتقاد أن الجمهوري المعتدل، الذي يرفض رؤية ما يحدث، سوف يشارك في قانون التمرد".
في المحصلة، ترى مجلة "نيويوركر"، في تقرير لها في 6 سبتمبر/ أيلول الحالي، أن تاريخ الانتخابات الأميركية لم يخل يوماً من العنف، على الرغم من اعتبار البلاد واحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في العالم. وبرأيها، فإن الجمهور ينظر إلى ذلك وكأنه جزء من الماضي، لكن المؤرخين ينظرون إليه كما ينظر راصدو أحوال الطقس إلى الأعاصير، لتختم بالقول إن "الولايات المتحدة هي فعلاً في مرحلة أعاصير".