27 يونيو 2019
تشابه بين حدثي بنقردان وقفصة
محمد المولدي الداودي (تونس)
أعاد الإرهابيّون الذين أقدموا على جريمة الفجر في بنقردان، فجر يوم 7 مارس/آذار الجاري، إلى الذّاكرة التونسيّة أحداثا منسيّة في التاريخ التونسي، وعادوا إلى صبيحة يوم الأحد 27 يناير/كانون ثاني 1980، حيث أضاف المؤرّخون إلى تاريخ تونس أحداث قفصة .
بين الجريمتين تشابه عجيب في مجرى الأحداث، ومنهج القتل، ومكان التدريب وطرق التنفيذ. فقط شيء واحد يصنع الفارق، ويبعد بين الجريمتين، هو المجرمون القتلة.
في أحداث بنقردان 2016 جماعات إرهابيّة أخطأت فهم السياسة والدين والتاريخ، ممّن نسبوا أنفسهم إلى العمل الإسلامي فحرّفوه، ولعلّهم مزيج رهيب من العمل المخابراتي، والتوظيف الأمني والسياسي، والفهم المحرّف للدين والعقيدة.
في أحداث قفصة مجموعة من التونسيين الذين تشرّبوا الفكر القومي على منهج العقيد معمر القذّافي، فأرسلهم إلى تونس تصديرا للثورة، وينتمي أغلبهم إلى الجبهة القومية التقدمية، وهم من الشباب، غير المتزوج، أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاما. وهم جميعا من العمال وأصحاب المهن والأعمال اليدوية، ممن هاجروا إلى ليبيا، من أجل لقمة العيش، فاستغل النظام حاجتهم، وجندهم لخدمة أهداف عبثية.
يدعونا هذا التشابة بين جريمتين تفصل بينهما 36 سنة، إلى قراءة نقديّة تاريخيّة للأحداث، بعيدا عن غوغاء الساسة وأحقاد المتأدلجين، وحفظا لنقاء دماء الشّهداء وانتصار لقيمة العقل.
مسارات التاريخ تصنعها أحداثه ووقائعه وأيّامه، وأحداث التاريخ محكومة بخطّ زمنيّ، تترابط حلقاته وفق منطق التتابع، أمّا كتابة التاريخ فقصّة أخرى تحرّكها رياح السياسة وأهواء السياسيين. ولكنّ هوامش التاريخ المنسيّة تظلّ حيّة في ذاكرة النّاس تستعيدها بعيدا عن سلطة المنتصرين المحرّفين للوقائع، وفق مقاسات مطلوبة وأزمنة منسوبة فيحذف ويضاف.
كان التاريخ التونسي الحديث تاريخ بورقيبة ودولته، ولم يكن يوما تاريخ الشعب التونسي، وعلى هامش ما سمح بورقيبة بكتابته تلوح خطوط باهتة من تاريخ منسيّ صنع عناصر الصّراع بين دولة بورقيبة ومؤسّساتها والخارجين عن سلطتها، والمنكرين لعبقريّة الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر.
وضمن هذه الدائرة من الصّراع، كان الخلاف بين اليوسفيّة والبورقيبيّة، باعتبارها خيارين للدولة، من حيث الهويّة والامتداد ومنهج التسيير والإدارة. وكانت المحاولة الانقلابيّة سنة 1962، أعتى تجليّات هذا الصّراع، حيث انتصر بورقيبة، لكنّ هذا "النصر" أنتج رؤية في الحكم، حقّقت تصوّراً مخصوصا خالف فيه بورقيبة كلّ حكّام العرب الميّالين إلى الاستبداد، عبر منهج الانقلابات العسكريّة، فعمل بورقيبة على إضعاف المؤسسة العسكريّة، خوفا من تكرار ما حدث في الجزائر وليبيا ومصر والعراق وسورية والسودان، وغيرها من البلدان (الانقلابات العسكريّة)، فأدى ذلك إلى تقوية المؤسّسة الأمنيّة، انطلاقا من حاجة النّظام إلى جهاز أمني قمعي يواجه حركات المعارضة السيّاسيّة.
أحداث 26 يناير 1978، أحداث قفصة 1980، انتفاضة الخبز 1984 ..، توكّد هذه الوقائع المعبّرة عن حلقات من الصّراع العنيف بين السلطة ومعارضيها، وما رسّخته سياسة بورقيبة من مناهج التعبير عن الفعل المعارض.
انتهج نظام بن علي الأسلوب نفسه الذّي رسّخه بورقيبة في التعامل مع المختلف السياسي، وسلك مسالكه في القمع والاستبداد والقتل، وأوجد بذلك البيئة نفسها المولّدة للفعل المعارض العنيف، وهذا ما تجلّى، في بعض الأحداث التي نسبها النظام لعناصر منتمية للاتجاه الإسلامي في بداية التسعينات، ثمّ كان الشكل الأكثر عنفا، والّذي ينسجم مع تشكّلات معاصرة للفعل العنيف في مواجهة السلطة والأنظمة (الإرهاب) من خلال أحداث سليمان 2006/2008.
مثّلت الثورة التونسيّة شكلا من المعارضة التي يلتقي فيها المطلب الاجتماعي بالمطلب الحقوقي بالمطلب السياسي، حيث شهدت تونس خلال الثورة تعبيرات عنيفة، تؤكّد نزعة من العنف المصاحب للتعبير المعارض، من خلال حرق المراكز الأمنيّة، حيث تهاوت رموز الدولة ومؤسساتها، ما أنتج حالة من الفراغ الأمني الكبير الّذي استثمرته الجماعات التي تتبنى العنف والإرهاب منهجا للتغيير السياسي، حيث عمّق الصّراع الإيديولوجي والسياسي حالة الوهن الأمني الذي أصاب المؤسسة الأمنيّة وحتّى العسكريّة.
كان لعسكرة الثورتين، الليبيّة والسوريّة، أثر خطير أعاد الفعل المعارض العنيف إلى الواجهة، بعد أن خبا في الثورة التونسيّة، وأعاد المشروعيّة للمواجهة المسلّحة للأنظمة، وفي هذا الصّراع، تدافعت الأيديولوجيات تدافعاً شديداً، وأضحى الاختلاف بيّنا بين كلّ الفرقاء.
تطرح أحداث بنقردان، كما كلّ الجرائم الإرهابيّة، أسئلة كثيرة، وتضيء زوايا مظلمة يخشى كثيرون تأمّلها، وتفتح صندوق ألغاز يخشى الكثير كشفه.
نحتاج إلى كتاب التاريخ التونسي المعاصر منذ بداية تشكلّ الوعي الوطني، وعلينا أنّ نتوقّف قليلا في مسارات الخيبات فيه، وعلينا أن نحصي جرائم الطّغاة في أوطاننا، حتّى نتمكّن من إحصاء جرائم الغلاة والبغاة.
بين الجريمتين تشابه عجيب في مجرى الأحداث، ومنهج القتل، ومكان التدريب وطرق التنفيذ. فقط شيء واحد يصنع الفارق، ويبعد بين الجريمتين، هو المجرمون القتلة.
في أحداث بنقردان 2016 جماعات إرهابيّة أخطأت فهم السياسة والدين والتاريخ، ممّن نسبوا أنفسهم إلى العمل الإسلامي فحرّفوه، ولعلّهم مزيج رهيب من العمل المخابراتي، والتوظيف الأمني والسياسي، والفهم المحرّف للدين والعقيدة.
في أحداث قفصة مجموعة من التونسيين الذين تشرّبوا الفكر القومي على منهج العقيد معمر القذّافي، فأرسلهم إلى تونس تصديرا للثورة، وينتمي أغلبهم إلى الجبهة القومية التقدمية، وهم من الشباب، غير المتزوج، أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاما. وهم جميعا من العمال وأصحاب المهن والأعمال اليدوية، ممن هاجروا إلى ليبيا، من أجل لقمة العيش، فاستغل النظام حاجتهم، وجندهم لخدمة أهداف عبثية.
يدعونا هذا التشابة بين جريمتين تفصل بينهما 36 سنة، إلى قراءة نقديّة تاريخيّة للأحداث، بعيدا عن غوغاء الساسة وأحقاد المتأدلجين، وحفظا لنقاء دماء الشّهداء وانتصار لقيمة العقل.
مسارات التاريخ تصنعها أحداثه ووقائعه وأيّامه، وأحداث التاريخ محكومة بخطّ زمنيّ، تترابط حلقاته وفق منطق التتابع، أمّا كتابة التاريخ فقصّة أخرى تحرّكها رياح السياسة وأهواء السياسيين. ولكنّ هوامش التاريخ المنسيّة تظلّ حيّة في ذاكرة النّاس تستعيدها بعيدا عن سلطة المنتصرين المحرّفين للوقائع، وفق مقاسات مطلوبة وأزمنة منسوبة فيحذف ويضاف.
كان التاريخ التونسي الحديث تاريخ بورقيبة ودولته، ولم يكن يوما تاريخ الشعب التونسي، وعلى هامش ما سمح بورقيبة بكتابته تلوح خطوط باهتة من تاريخ منسيّ صنع عناصر الصّراع بين دولة بورقيبة ومؤسّساتها والخارجين عن سلطتها، والمنكرين لعبقريّة الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر.
وضمن هذه الدائرة من الصّراع، كان الخلاف بين اليوسفيّة والبورقيبيّة، باعتبارها خيارين للدولة، من حيث الهويّة والامتداد ومنهج التسيير والإدارة. وكانت المحاولة الانقلابيّة سنة 1962، أعتى تجليّات هذا الصّراع، حيث انتصر بورقيبة، لكنّ هذا "النصر" أنتج رؤية في الحكم، حقّقت تصوّراً مخصوصا خالف فيه بورقيبة كلّ حكّام العرب الميّالين إلى الاستبداد، عبر منهج الانقلابات العسكريّة، فعمل بورقيبة على إضعاف المؤسسة العسكريّة، خوفا من تكرار ما حدث في الجزائر وليبيا ومصر والعراق وسورية والسودان، وغيرها من البلدان (الانقلابات العسكريّة)، فأدى ذلك إلى تقوية المؤسّسة الأمنيّة، انطلاقا من حاجة النّظام إلى جهاز أمني قمعي يواجه حركات المعارضة السيّاسيّة.
أحداث 26 يناير 1978، أحداث قفصة 1980، انتفاضة الخبز 1984 ..، توكّد هذه الوقائع المعبّرة عن حلقات من الصّراع العنيف بين السلطة ومعارضيها، وما رسّخته سياسة بورقيبة من مناهج التعبير عن الفعل المعارض.
انتهج نظام بن علي الأسلوب نفسه الذّي رسّخه بورقيبة في التعامل مع المختلف السياسي، وسلك مسالكه في القمع والاستبداد والقتل، وأوجد بذلك البيئة نفسها المولّدة للفعل المعارض العنيف، وهذا ما تجلّى، في بعض الأحداث التي نسبها النظام لعناصر منتمية للاتجاه الإسلامي في بداية التسعينات، ثمّ كان الشكل الأكثر عنفا، والّذي ينسجم مع تشكّلات معاصرة للفعل العنيف في مواجهة السلطة والأنظمة (الإرهاب) من خلال أحداث سليمان 2006/2008.
مثّلت الثورة التونسيّة شكلا من المعارضة التي يلتقي فيها المطلب الاجتماعي بالمطلب الحقوقي بالمطلب السياسي، حيث شهدت تونس خلال الثورة تعبيرات عنيفة، تؤكّد نزعة من العنف المصاحب للتعبير المعارض، من خلال حرق المراكز الأمنيّة، حيث تهاوت رموز الدولة ومؤسساتها، ما أنتج حالة من الفراغ الأمني الكبير الّذي استثمرته الجماعات التي تتبنى العنف والإرهاب منهجا للتغيير السياسي، حيث عمّق الصّراع الإيديولوجي والسياسي حالة الوهن الأمني الذي أصاب المؤسسة الأمنيّة وحتّى العسكريّة.
كان لعسكرة الثورتين، الليبيّة والسوريّة، أثر خطير أعاد الفعل المعارض العنيف إلى الواجهة، بعد أن خبا في الثورة التونسيّة، وأعاد المشروعيّة للمواجهة المسلّحة للأنظمة، وفي هذا الصّراع، تدافعت الأيديولوجيات تدافعاً شديداً، وأضحى الاختلاف بيّنا بين كلّ الفرقاء.
تطرح أحداث بنقردان، كما كلّ الجرائم الإرهابيّة، أسئلة كثيرة، وتضيء زوايا مظلمة يخشى كثيرون تأمّلها، وتفتح صندوق ألغاز يخشى الكثير كشفه.
نحتاج إلى كتاب التاريخ التونسي المعاصر منذ بداية تشكلّ الوعي الوطني، وعلينا أنّ نتوقّف قليلا في مسارات الخيبات فيه، وعلينا أن نحصي جرائم الطّغاة في أوطاننا، حتّى نتمكّن من إحصاء جرائم الغلاة والبغاة.
مقالات أخرى
17 يناير 2019
01 يناير 2019
13 ديسمبر 2018