صعّد السودان من لهجته تجاه جارته، جنوب السودان، مهدّدا باقتحام أراضيها لملاحقة الحركات المسلّحة التي تقاتله في إقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، انطلاقاً من الأراضي الجنوبيّة.
ويُعدّ هذا التهديد، الأول من نوعه، منذ اندلاع الحرب الأهليّة في الدولة الفتية، منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ ظلت الخرطوم، طيلة تلك الفترة، تجنح إلى المهادنة، حتّى إنّها لم تتخذ مواقف متشدّدة حيال اتهامات جوبا المتكررة لها، بدعم مجموعة رياك مشار، التي تقود عمليات عسكريّة ضد النظام في جوبا.
وللمرّة الأولى، تطالب الخارجية السودانيّة، الحكومة في جوبا باتخاذ خطوات عمليّة وفوريّة لوقف دعم وإيواء الحركات المتمرّدة على الحكومة في الخرطوم، قاطعة بأهميّة أن تستند مصلحة البلدين على أسس واضحة وصحيحة لحماية الاستقرار فيهما.
وتتهم الخرطوم جوبا، منذ انفصال الأخيرة وتكوين دولتها المستقلة قبل ثلاثة أعوام، بدعم وإيواء الحركات المسلّحة الممثّلة في الحركة الشعبيّة، قطاع الشمال، والتي كانت في الأصل جزءاً من الحزب الحاكم في الجنوب قبل الانفصال، فضلاً عن حركة "العدل والمساواة"، بزعامة جبريل إبراهيم، والتي كانت تقاتل الحكومة في إقليم دارفور. وكانت كلّ من تشاد وليبيا حليفتين استراتيجيتين للحركة ونقطة انطلاقها، لكنّ التقارب والمصالحة بين أنجمينا والخرطوم، وسقوط نظام معمر القذافي أفقداها الحليفين. وتملك حكومة الخرطوم، وفق وزارة الخارجيّة السودانيّة، معلومات موثّقة تؤكّد استمرار جوبا، في تقديم الدعم اللوجستي والمادي للحركات المسلّحة السودانيّة على أراضيها، وتطالب الجنوب الالتزام بالوعود التي قطعتها في ما يتّصل بوقف دعم وإيواء تلك الحركات.
وفي سياق متّصل، يعتبر مدير جهاز الأمن السوداني، محمد عطا، في تصريحات أخيرة، أنّ "الحكومة صبرت كثيراً على دولة الجنوب، وهي تأوي متمرّدين داخل أراضيها، للانطلاق منها لزعزعة استقرار البلاد". ويُشدّد على أنّ "الوقت قد حان لملاحقة المتمردين في أيّ مكان"، في إشارة لملاحقتهم داخل الأراضي الجنوبيّة وضرب قاعدتهم هناك، وفق ادعاءات الخرطوم.
وكان الرئيس السوداني، عمر البشير، اتّهم يوم السبت الماضي، المتمرّدين بالقتال إلى جانب جوبا، في حربها على رياك مشار، واصفاً إياهم بـ"المرتزقة"، الذين "يقاتلون من أجل المال".
ولم تتمكّن اللجنة المشتركة بين البلدين، والخاصة بترسيم الحدود، بعد اجتماعها في الخرطوم، الأسبوع الماضي، من الاتّفاق على النقاط الجوهريّة في ما يتّصل بترسيم الحدود وتحديد المنطقة الصفرية ونقاط العبور، التي تحرص الخرطوم على تحديدها، وسبق أن ربطت تنفيذ اتفاقيات التعاون التسع بها، باعتبارها تشكّل قضيّة رئيسيّة في مراقبة الحدود والحدّ من تحرّك المتمردين وانطلاقهم من جوبا.
وظلت الخرطوم تتهم جوبا بالمماطلة في تنفيذ ذلك البند، فيما أكّدت اللجنة الخلاف على ترسيم 80 في المائة من الحدود بين البلدين، فضلاً عن وجود خلافات على ترسيم خمس مناطق، أُرجئ النقاش حولها حتى لا تُعيق تنفيذ بقية بنود الاتفاق.
وتأتي هذه المواقف التصعيدية من جانب الخرطوم، في وقت يتّجه فيه الفرقاء الجنوبيون نحو وضع حد للحرب الأهليّة، التي اندلعت في بلادهم، لعام كامل، والتوقيع على اتفاق سلام للنجاة من تنفيذ التهديدات الدوليّة وإزاحة شبح الوصاية الدولية، خصوصاً بعد الاجتماع الأخير للمعارضة المسلحة بزعامة رياك مشار والتي أقرت عملية السلام، وإن حددت سقفاً تفاوضياً عالياً. وليس مستبعداً أن تكون الخرطوم، تعمل على استثمار ما تبقّى من وقت، قبل الاتفاق الجنوبي- الجنوبي، واستغلال الوضع الهشّ في الجنوب لضرب قاعدة انطلاق الحركات المتمردة في جوبا، باعتبارها خطوة مهمة في إطار تصميم حكومة الخرطوم على إنهاء التمرّد وحسمه. وترى الحكومة أنّ من شأن ضرب قاعدة الحركات المسلّحة اللوجستيّة في الأراضي الجنوبية، أيّ الحركة الشعبيّة والحركات الدارفورية، أن يُضعف شوكة المتمرّدين ويقطع الإمداد عن مقاتليها المسيطرين على عدد من المناطق في جنوب كردفان والنيل الأزرق وإقليم دارفور، الأمر الذي يسهّل محاصرتهم والقضاء عليهم.
ويرى مراقبون في هذه الخطوة، تصعيداً من الحكومة في الخرطوم لقطع الطريق أمام أيّ تحرّك دولي إقليمي، هدفه الضغط عليها لتقديم المزيد من التنازلات، في ما يتصل بالتسوية السياسيّة. وهي تريد بذلك أن تقوي من مواقفها، خصوصاً في ظلّ الحراك الخارجي لزعيم حزب الأمة السوداني المعارض، الصادق المهدي، والذي يجد قبولاً وآذاناً صاغية واحتراماً كبيراً من المجتمع الدولي والإقليمي. وتعلم الخرطوم تماماً طموح الرجل في الحكم، خصوصاً أنّه يتمسّك بكونه رئيس الوزراء الأخير المنتخب وفقاً لانتخابات حقيقية شهدتها البلاد، قبل الإطاحة به بانقلاب النظام الحالي في يونيو/حزيران 1989.
ويرى المحلّل السياسي ماهر أبوالجوخ، أنّ تهديد الخرطوم بملاحقة المتمردين داخل أراضي الجنوب "يُعدّ تمهيداً لتنفيذ عمليات عسكريّة داخل العمق الجنوبي، عبر استغلال الوضع الهشّ". ويقول إنّ "الخرطوم تعتقد أنّ أيّ تحوّل سيتمّ في الجنوب خلال الفترة المقبلة، من شأنه أن يصعّب مهمتها"، لافتاً إلى أنّها "تخشى أن تعمد جوبا، بعد تسوية الحرب هناك، إلى الاحتفاظ بالحركات المسلحة كورقة ضغط عليها".
ويتوقّف أبوالجوخ عند الخطورة الكبيرة التي ينطوي عليها تهديد الخرطوم، من دون أن يستبعد أن تضعها "في مواجهة مع المجتمع الدولي، خصوصاً أنّ الاعتداء على أراضي دولة أخرى، يُصنّف دولياً، على أنّه بمثابة عدوان".