ليست أزمات أونروا الحالية عابرة ويمكن حلّها بالتمويل فحسب، بل هي مرتبطة بشكل جذري بالإدارة الأميركية التي تسعى إلى تصفية وجود أونروا، في إطار خطة أكبر لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين
لا يمكن وصف الأزمة التي تعاني منها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بأنّها أزمة مالية، إذ إنّ الجانب المالي هو رأس جبل الجليد الظاهر منها، بينما ما يترسب تحت السطح ليس أقل من أزمة وجودية، بعدما أعلنت الولايات المتحدة حرباً مفتوحة على هذه المنظمة الدولية التي تقدم خدماتها للاجئين الفلسطينيين منذ سبعة عقود تقريباً في مناطق عملياتها الخمس: الضفة الغربية، قطاع غزة، الأردن، سورية، ولبنان، وهم الذين يبلغ عددهم، بناء على تقديراتها، 5.2 ملايين نسمة.
ليس هناك من داعٍ الآن لتبيان مدى حاجة المستفيدين من اللاجئين إلى خدماتها الطبية والتعليمية، خصوصاً بعدما جردتهم إسرائيل من مقدرات عيشهم، وتعمل على سلب ما تبقى لهم من أراضٍ ومقدرات. وعليه، يمكن القول إنّ ما تتقصده السياسة الأميركية ليس سوى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، بعدما نجحت في تصفية قضية القدس من مدخليها؛ الاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وهو ما لم يحدث خلال العهود الماضية عندما امتنع الرؤساء الأميركيون السابقون عن الإقدام على خطوة مشابهة.
صقور واشنطن
بالطبع، يضيء هذا على موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبما يتجاوز مبدأ الوعود الانتخابية التي تطلق في المناسبات المماثلة، فالحاصل أنّ ترامب وفريق عمله يضعان مصالح إسرائيل في موقع الصدارة السياسية، ولعلّ قضية أونروا هي دليل إضافي على مثل هذا التوجه الذي يجري العمل على تمريره في غمرة الفوضى السياسية والمجتمعية، وجملة حال التهالك العربي التي تدفع إلى التجرؤ على هذه الخطوات الدراماتيكية المتلاحقة. لكنّ الوضع الفعلي يتجاوز الفريق الثلاثي المؤلف من مستشاره وصهره جاريد كوشنر، ومبعوثه إلى المنطقة جيسون غرينبلات، وسفير واشنطن في تل أبيب ديفيد فريدمان، إذ إنّ تصعيد الضغط الأميركي يجد تجلياته في الكونغرس أيضاً. وهو ما يعني أنّ الإدارة الأميركية بمؤسساتها تعمد في اللحظة السياسية الراهنة إلى تصعيد ضغوطها في ظل التخلي العربي، وتلهي كلّ حاكم بنفسه وبما يعتبره مصالحه المباشرة في البقاء على رأس هرم السلطة، وترك الفلسطينيين يواجهون العاصفة بشراعهم الممزق.
بعد تصريحات ترامب كانت كلمات ممثلة واشنطن في الأمم المتحدة نيكي هايلي معبرة، وتلاها كوشنر ومستشار الأمن القومي جون بولتون. تصريحات ذهبت كلّها نحو تحميل أونروا مسؤولية بقاء الصراع العربي والفلسطيني - الإسرائيلي حياً. لكنّ هذا لم يكن مفاجئاً البتة، فقد سبقت هؤلاء وغيرهم إسرائيل عندما نظمت خلال العقدين الماضيين تقريباً حملة على الوكالة تردد صداها في الكنيست وفي وسائل الإعلام باعتبارها مسؤولة عن إطالة أمد الصراع من خلال انحيازها لصالح الفلسطينيين، وبث الكراهية في نفوس تلاميذ المدارس، وتحويل مراكزها إلى مخازن للصواريخ. لكنّ إسرائيل أدركت مع مجيء ترامب أنّ الفرصة قد سنحت للتخلص من أونروا.
إلى جانب المواقف السياسية المعروفة لأركان الإدارة الأميركية، هناك مشروعا قانونين معروضان على الكونغرس يعمقان مجرى التخلص من هذه الوكالة "المزعجة"، وبالتالي من الفلسطينيين الذين خاضوا حرباً دبلوماسية مرتين متتاليتين في الجمعية العامة ومجلس الأمن أكدت أنّ هذا الجبار يمكن أن تلحق به الهزيمة على يد سلطة لم تتحول بعد إلى دولة كاملة المواصفات. وكان المدخل إلى الرد الأميركي هو الجانب المالي، إذ من المعروف أنّ الولايات المتحدة هي أكبر مانح منفرد للأونروا، وتساهم بحوالي ثلث موازنتها السنوية منذ تأسيسها ومباشرتها مهامها مطلع الخمسينيات.
أخيراً، وتماشياً مع الحملة الإسرائيلية، ازدادت الضغوط الأميركية على أونروا مطالبة بإجراء تغييرات هيكلية، والبحث عن جهات مانحة أخرى تتشارك معها حمل الأعباء المالية المتصاعدة، كون الولايات المتحدة غير مستعدة لدفع أموال دافعي الضرائب إلى جهة سياسية (منظمة التحرير الفلسطينية) تتمرد على توجهاتها المعروفة في صفقة القرن. بذلك، عمدت إلى تجميد مبلغ 300 مليون دولار من أصل مبلغ إجمالي قدره 365 مليون دولار ساهمت بها عام 2017.
ومن ضمن هذا السياق، سبق ومنعت الإفادة من مشروع قرار في الأمم المتحدة عام 2016 مقدم من فلسطين، يسمح للأونروا بالحصول على موازنة ثابتة من ضمن آليات منظمات الأمم المتحدة، الأمر الذي كان بإمكانه الإسهام في التخفيف من حدة الأزمة المالية الحالية. ومن المعروف أنّ الولايات المتحدة كانت تنظر تاريخياً إلى أونروا كعنصر لدعم وتثبيت الاستقرار في الدول المضيفة، تحديداً الأردن، ولبنان، وفلسطين، عبر تحمل الأعباء الإنسانية، وللتخفيف أيضاً من مسؤولية إسرائيل حيال الأوضاع المتردية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
مشروعا الكونغرس
ما تتوجب الإشارة إليه أنّ قراراً رسمياً لم يتخذ بعد بوقف التمويل، إذ إنّ التجميد هو القرار الساري المفعول حتى إجراء تقييم للموقف. ومن المرجح اتخاذ قرار حاسم بعد تأكيد الجانب الفلسطيني على مواقفه التي أعلن فيها رفض وقف عمل أونروا جملة وتفصيلاً.
قرار تجميد المساعدة الأميركية على أهميته لا بد من النظر إليه بالتكامل مع توجه الكونغرس نحو نقاش مشروعين يصبان بما يتجاوز القرار المالي. مشروع القانون الأول يتناول تقليص دعم أونروا ويحمل الرقم "H.R. 5898 - مايو/ أيار 2018". وبناء عليه، باتت وزارة الخارجية الأميركية مطالبة خلال مدة زمنية لا تتجاوز العام، بتقديم رقم تقريبي للذين تلقوا خدمات من أونروا، العام الماضي، وتوضيح مكان الإقامة بين يونيو/ حزيران عام 1946 ومايو/ أيار 1948، وإلى أيّ مدى يساهم توفير تلك الخدمات لهؤلاء الأشخاص في "زيادة المصلحة الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط".
أما المشروع الثاني حول المساعدات الأميركية للأونروا، فيحمل الرقم "H.R. 6451 - يوليو/ تموز 2018". وأهمية ما يتضمنه أنّه يحصر تعريف اللاجئ الفلسطيني باللاجئين الأصليين الذين يستوفون المعايير المنصوص عليها في المادة 101 (أ) من قانون الهجرة والجنسية الأميركي، وفيه يعرِّف القانون الأميركي اللاجئين الفلسطينيين بمن تشردوا خلال النكبة فقط، ويستثني نسلهم من الأجيال اللاحقة. وبناءً عليه، وبحسب أونروا، فإنّها تقدم مساعداتها لـ5.2 ملايين لاجئ فلسطيني، بينما عدد اللاجئين "الحقيقي"، وفقاً لمشروع القانون الأميركي، لا يتعدى 40 ألفاً، وهو عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا إبان نكبة عام 1948. ويرى مشروع القانون أنّ هذا هو عدد اللاجئين الحقيقي من دون أبناء سلالاتهم، وأنّ من المفترض أن يجري صرف الميزانيات لوكالة أونروا استناداً إلى هذا المعطى الجديد. ويحظر المشروع على الولايات المتحدة دفع مساهماتها المالية في ميزانية وكالة أونروا، إلى أن تقدم شهادات تؤكد أنّ أيّاً من متلقّي خدماتها لا علاقة له بـ"الإرهاب"، في إشارة إلى حركة حماس. وتبعاً لذلك، فإنّ الفلسطينيين في غزة ليسوا لاجئين، بل "مواطنون يعانون تحت حكم نظام حماس الإرهابي الذي يستولي على الأموال المخصصة للمساعدات، وبدلاً من صرفها على بناء المدارس والمستشفيات ينشئ أنفاقاً ويطلق صواريخ من المواقع المموهة على شكل مدارس أونروا ضد رياض الأطفال في إسرائيل". وقد تم الكشف عن وثيقة سرية تعدها الإدارة الأميركية الحالية تحدد أعداد اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948. وتزعم الوثيقة أنّ عدد اللاجئين الفلسطينيين خلال نكبة عام 1948، بلغ فقط 40 ألف لاجئ. وقد صدرت عدة تصريحات لمسؤولين أميركيين بهذا المعنى.
لا ضرورة للنقاش مع ما ورد في المشروعين الأميركيين، لكنّ الواضح تماماً من مسار الأحداث أنّ الإدارة الأميركية تتماهى مع سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والفريق اليميني الحاكم في إسرائيل، وتكمن خطورة هذا التوجه في المسارات التي تعتمدها السياسات الإسرائيلية مستندة إلى الدعم الأميركي اللامحدود. ولعلّ إقرار الكنيست قانون القومية هو الحلقة الأبرز باعتباره ظل حبيس الأدراج لأكثر من عقد من الزمن، مع رفض الإدارات الأميركية السابقة له، إلى أن جاءت اللحظة المواتية.
التعليم
ومن دون الغوص في هذا الجانب، يمكن القول إنّ أونروا تواجه مستقبلاً قاتماً، فالخطة الأميركية مآلها النهائي هو إلحاق اللاجئين الفلسطينيين بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ما يعني أن ليس هناك موضوع سياسي خاص اسمه اللجوء الفلسطيني والناجم عن المشروع والكيان الإسرائيلي. وبذلك يضاف 5.2 ملايين فلسطيني إلى حوالي 68 مليون لاجئ في العالم. وتصبح مهمة المفوضية هي البحث عن أماكن استيعاب لهم وبالتالي توطينهم. ومما لا شك فيه أنّ خطر التوطين يزحف في المقام الأول على الدول العربية المضيفة، وهي الأردن ولبنان وسورية، ومن يتبقى يجري البحث له عن موطن في أستراليا أو كندا وغيرهما من الدول ذات المساحات الشاسعة والقليلة السكان أو الضعيفة الحيلة. وبالتالي، فإنّ عبئاً سيقع على عاتق الدول العربية المضيفة في المجالات الخدماتية التي كانت تشغلها أونروا. ومن المعروف أنّ الدول العربية الثلاث المعنية تعاني من أزمات اقتصادية عاتية تشمل مجمل قطاعاتها، عدا عن الديون المستحقة عليها وعجزها عن تأمين الخدمات لمواطنيها.
وبالعودة إلى أونروا، نجد أنّ هذه الوكالة التي عوضت عن قرار التجميد الأميركي بالحصول على 150 مليون دولار قدمتها كلٌّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، تواجه على الصعيد العملي ما هو أخطر من مجرد عجز مالي في موازنتها، كما حدث في غضون الأعوام الثلاثة الماضية. وكانت تنجح في تجاوز الأزمات بترشيد إنفاقها وضغط مصاريفها وإيجاد بدائل مقبولة لخدمات كانت تقدمها لمجتمعات اللاجئين، علماً أنّ زيادة الإنفاق التي حدثت والتي دفعت موازنتها إلى حدود مليارين ومائتي مليون دولار مرتبطة بتضاعف الحاجات وانعكاسات الأوضاع الإقليمية على اللاجئين الفلسطينيين، ستعني مزيداً من الإفقار والتشرد والعجز عن تلبية الحد الأدنى من الضروريات. بالطبع لن تتوقف خدمات أونروا على نحو كامل، لكنّ قطاعات ستصاب في الصميم، منها العاملون في قطاع الخدمات من أبناء المجتمع الفلسطيني. وقد بدأت بوادر تحركاتهم في كلٍّ من الضفة وغزة والأردن ولبنان. لكنّ المتضررين الأكبر هم التلاميذ الذين يدرسون في مدارسها والبالغ عددهم أكثر من نصف مليون.
تستهلك موازنة التعليم في أونروا وحدها نحو 80 في المائة من موازنة البرامج، وبالتالي فإنّ أيّ اقتطاع من الموازنة سينعكس على برنامج التعليم مباشرة. وتبدو خيارات إدارة أونروا محدودة، ومن المرجح أن تعتمد مجموعة إجراءات، كدمج بعض المدارس وزيادة القدرة الاستيعابية الصفّية إلى أكثر من خمسين تلميذاً للصف الواحد، وتخفيض أعداد الكوادر التعليمية والإدارية في الوقت عينه. ولا شك أنّ جملة هذه التدابير ستقود حكماً إلى تردٍّ في جودة العملية التعليمية. ولمّا كان أولياء أمور هؤلاء التلاميذ من المعدمين والفقراء، وفي أحسن الأحوال من متوسطي الحال، فليس باستطاعتهم إدخالهم إلى التعليم الخاص، ما سيؤدي إلى توجههم نحو المدارس الرسمية، ما يحمِّل التعليم العام والدول أعباءً لا قِبَل لها بتحملها، خصوصاً أنّ هذه المدارس تغص بعشرات آلاف التلاميذ السوريين اللاجئين.
في هذا الإطار، أعلن المفوض العام للأونروا، بيير كرينبول، أمس، عن بدء العام الدراسي لتلاميذ أونروا الـ526 ألفاً، في موعده في الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان وسورية. وأشار إلى أنّ أونروا تمكنت من تحصيل 238 مليون دولار كتمويل إضافي منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، لكنّ التمويل يكفي لإدارة عمليات الوكالة حتى نهاية سبتمبر فقط. وقال: "نحتاج إلى 217 مليون دولار إضافية ليس فقط لضمان فتح مدارسنا، وعددها 711، بل لضمان استمرارها متاحة حتى نهاية هذا العام الدراسي".
وبينما تسير سريعاً خطط الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، تعاني الدول العربية المعنية من الغياب عن تقديم الدعم الرسمي والتمسك بدور ومسؤوليات ومهام أونروا، مع ضرورة التركيز على الآثار السياسية السلبية المترتبة في حال تراجع دور وخدمات أونروا. ويبقى الأهم هو تنشيط الحراك الدبلوماسي لشرح تداعيات الأزمة والسياسات الأميركية التي تستهدف أونروا على الاستقرار الأمني في عموم المنطقة، وفي مقدمها الضفة والقطاع، والتحذير من مخاطر انفجار الوضع الأمني في المخيمات الفلسطينية. كذلك، من المفيد التركيز على ضرورة أن تلعب الكتل والقوى العالمية دورها من خلال التشديد على فصل البُعد الإنساني لقضية اللاجئين عن المسارات والمخططات السياسية، وبالتالي جرى فصل تمويل أونروا وتأمين خدماتها عن الاستعمال والابتزاز السياسي.