15 مايو 2024
تظاهرات البصرة.. هذه الأسباب
تتصاعد تظاهرات محافظة البصرة العراقية وتتطوّر، آخذة أبعاداً وأهدافاً أخرى ربما، غير التي كانت سبب شرارتها الأولى في شهر يوليو/ تموز الماضي، بعد أن قدم البصريون دماً وشهداء في سبيل خروجهم شبه الجمعي، للحصول على حقوقهم المعيشية واستحقاقاتهم الإنسانية والوطنية.
ولعل اللافت في تظاهرات البصرة تجاوز أو تجاهل مراقبين ومحللين كثيرين، ووسائل إعلام عربية وعالمية، وكذلك بعض السياسيين العراقيين والعرب، أسباب التظاهرات المتصاعدة، وتركيزهم على سؤال واحد: من يحرّك المتظاهرين في البصرة؟ وهذا السؤال هو ما يقدّمه النظام السياسي في العراق مدخلاً رئيسياً مباشراً لأي حراك شعبي عراقي للمطالبة بالحقوق الدستورية والإنسانية؛ نعم، فكل ويلات العراق جاءت من فرضياتٍ وضعتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 تفترض أن كل خروج شعبي أو اعتصام جماهيري للمطالبة بالحقوق يعني، فيما يعنيه، بشكل مباشر، وجود قوى إرهابية أو مجتثّة وراءه، بدءاً من القاعدة وحتى "داعش"، مروراً بالبعثيين والصدّاميين والوهابيين، وغيرها من التعبيرات التي لم تستطع أي جهة حكومية عراقية إثباتها، لكنها كانت فعّالة تسويقياً لبعض الجمهور المحلي العراقي، ثم للقوى التي يهمها أن يستمر الحال في العراق على هذا المنوال المزري.
من يقف وراء تظاهرات البصرة إذن؟ وهل يقدم البصريون دماءهم هكذا لأجل عيون هذا الطرف أو ذاك؟ أم أن في الأمر ملامح انتفاضة شعبية؟ وإن كان كذلك، فما هي مادة هذه الانتفاضة وما هو مصيرها؟
الإجابة عن هذه التساؤلات بموضوعية تقتضيها ظروف العراق الحرجة، وعدم وجود حكومة
فاعلة، بسبب التلكؤ الواضح في تشكيل كتلة أكبر يمكن أن تولد منها الحكومة الجديدة. أولاً وقبل كل شيء، القائمون على إدارة ملفات العراق الحكومية، برئاسة حيدر العبادي، أمام حرج شديد في مكان المتظاهرين وطبيعتهم؛ فالمكان هو البصرة، أقصى جنوب العراق، المدينة الغنية بالنفط، وذات الخصوصية المنفردة، كونها المنفذ البحري الوحيد للعراق، وهي أيضاً ذات حدود مشتركة واسعة مع ثلاث دول مهمة بالنسبة للعراق ومجريات الأمور فيه، إيران والكويت والسعودية. أما المتظاهرون فمحافظة البصرة ذات أغلبية (شيعية)، وهي إذن ليست الفلوجة أو الأنبار وديالى وتكريت والموصل، المحافظات ذات التهمة الجاهزة في التعامل معها على فرضياتٍ تجعل أي تحرّك فيها مرتبطاً بتنظيمات إرهابية أو حزبية.
خرج البصْريون بعد صبر شديد، ومعاناةٍ لا حصر لها أكثر من عقد، خرجوا بشكل عفوي للتعبير عن نفاد الصبر ولسؤال الحكومة، وربما الضغط عليها، لوضع حلول ناجعة لمشكلات عاجلة، كمشكلة المياه التي يقول البصريون بشأنها إنهم يموتون بشكل بطيء، وأن هناك أكثر من 40 ألف حالة تسمم بسبب الملوحة العالية للمياه الشحيحة أصلاً، وسط صمت حكومي رئيسي ومحلي تجاه هذه المشكلة الكبيرة، بل بعد سيل من الوعود الخاصة بنصب محطات التحلية على شط العرب أو سواه، وبعد 15 سنة من سقوط نظام صدام حسين، وتهم فساد بسرقة عشرات مليارات الدولارات تحت عناوين الخدمات في البصرة، كما أن الحكومات المحلية لطالما تمتعت بأموال الشعب، وأحاطت نفسها بكم هائل من الرفاهية، فيما يموت البصْريون جوعاً وعطشاً.
مشكلة البطالة المتصاعدة بين شباب البصرة الذي لم يجد أي مخرج لحالته المزرية، فيما تُفتح أبواب حقول النفط ومصافيه والمؤسسات الرئيسة فيه للعمالة الأجنبية، فكيف يمكن لشباب من 18 سنة إلى 30 سنة أن يصبروا على جوعهم، وحرمان أهلهم، مع تعامل مهين من الأحزاب والقوى المتنفذة في البصرة (وسواها)؟ كيف يمكن لهم أن يراهنوا على صبر بلا حدود؟ وكيف يثقون بحكوماتٍ لم تبعهم غير وعود وهالات إعلامية، لتسكين آلامهم وغضبهم. لقد بلغ شباب البصرة حدود الكفر بـ (التسويف) الحكومي، وامتلاك زمام المبادرة لتحريك المياه الراكدة.
يقول ممثلو شباب البصرة من المتظاهرين عن رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته، حيدر العبادي، إنه شخص يقول ما لا يفعل، وإنهم فقدوا الثقة به وبوعوده، ولذلك بات تنفيذ المطالب الرئيسة أمراً واجب التنفيذ فوراً، ولا مجال لوعودٍ لن تتحقّق، لأسباب يعلمها البصريون، يتعلق بعضها بضعف الحكومة ومشكلة الفساد المنتشر في جميع أجهزتها، ويرتبط بعضها الآخر بشكل مباشر بحسابات الجارة المهيمنة على شؤون البصرة، والعراق عموماً، إيران.
البصرة هي أكثر المحافظات التي تحملت وزر الحرب العراقية الإيرانية، وكانت قاعدة الجيش العراقي الرئيسة ولكل صنوفه، وقد قدّمت آلاف القتلى والجرحى والمفقودين في تلك الحرب، كما قدّمت الدعم الوطني الكبير لعقيدة مقاتلي الجيش العراقي، على خلاف ما راهنت عليه
إيران التي كانت تعتبر شيعة العراق جزءاً من ولاية الفقيه (الخميني، خامنئي) ورهن إشارته. لذلك، من ملامح ما جرى بعد عام 2003 تركيز إيران والقوى المؤيدة لها في النظام السياسي الجديد في العراق على تطويع أبناء محافظة البصرة، بعد أن تم اغتيال من أشهروا عدم اعترافهم بولاية الفقيه وتهجيرهم. وقد جاء هذا التطويع بعدة أوجه، أهمها سياسة التجويع والتعطيش التي بلغت ذروتها بتغيير مجرى مصبّ نهر الكارون عن شط العرب، وتحويل مصب المياه إليه، ما زاد من ملوحة مياهه بدرجةٍ كبيرة، ثم الضغط على حكومة المركز، بعدم تنفيذ مشروع سد شط العرب الذي خصّصت له الأموال، ثم تسرّبت بعمليات فساد كبيرة، من دون أن يكون لأي مشروع حياتي وجود على أرض الواقع.
القواتُ التي تحافظ على المقارّ الحكومية في البصرة، وجزءٌ من منظومة بناء القوات العراقية بشكل عام، وبحسابٍ بعيد النظر من الأحزاب المتنفذة، تم قبول الأشخاص فيها على أساس الانتماء أو الترشح من هذه الأحزاب. لذلك لا يُستغرب إطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم، ذاك أن الأوامر التي تقتضي إبقاء البصرة خارج الإرادة الوطنية، وتسمح برفع صور الخميني وخامنئي في شوارعها، لن تسمح بعودة هذه المحافظة، أو المدينة التي بنيت في عهد عمر بن الخطاب، إلى امتلاك زمام أمورها، خصوصاً وأن المتظاهرين باتوا اليوم خارج دائرة التأثير النفسي الطائفي، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من أن يشكلوا من بينهم، وليس من تنظيمات إرهابية أو طائفية أو حزبية، قيادات واعية لخطورة المتغيّر الذي يقودونه نحو تغيير طبيعة تعامل النظام السياسي في العراق مع الشعب، وأن يكون إرضاء الشعب غايته الكبرى، وليس إرضاء أي دولةٍ مجاورة.
ولعل اللافت في تظاهرات البصرة تجاوز أو تجاهل مراقبين ومحللين كثيرين، ووسائل إعلام عربية وعالمية، وكذلك بعض السياسيين العراقيين والعرب، أسباب التظاهرات المتصاعدة، وتركيزهم على سؤال واحد: من يحرّك المتظاهرين في البصرة؟ وهذا السؤال هو ما يقدّمه النظام السياسي في العراق مدخلاً رئيسياً مباشراً لأي حراك شعبي عراقي للمطالبة بالحقوق الدستورية والإنسانية؛ نعم، فكل ويلات العراق جاءت من فرضياتٍ وضعتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 تفترض أن كل خروج شعبي أو اعتصام جماهيري للمطالبة بالحقوق يعني، فيما يعنيه، بشكل مباشر، وجود قوى إرهابية أو مجتثّة وراءه، بدءاً من القاعدة وحتى "داعش"، مروراً بالبعثيين والصدّاميين والوهابيين، وغيرها من التعبيرات التي لم تستطع أي جهة حكومية عراقية إثباتها، لكنها كانت فعّالة تسويقياً لبعض الجمهور المحلي العراقي، ثم للقوى التي يهمها أن يستمر الحال في العراق على هذا المنوال المزري.
من يقف وراء تظاهرات البصرة إذن؟ وهل يقدم البصريون دماءهم هكذا لأجل عيون هذا الطرف أو ذاك؟ أم أن في الأمر ملامح انتفاضة شعبية؟ وإن كان كذلك، فما هي مادة هذه الانتفاضة وما هو مصيرها؟
الإجابة عن هذه التساؤلات بموضوعية تقتضيها ظروف العراق الحرجة، وعدم وجود حكومة
خرج البصْريون بعد صبر شديد، ومعاناةٍ لا حصر لها أكثر من عقد، خرجوا بشكل عفوي للتعبير عن نفاد الصبر ولسؤال الحكومة، وربما الضغط عليها، لوضع حلول ناجعة لمشكلات عاجلة، كمشكلة المياه التي يقول البصريون بشأنها إنهم يموتون بشكل بطيء، وأن هناك أكثر من 40 ألف حالة تسمم بسبب الملوحة العالية للمياه الشحيحة أصلاً، وسط صمت حكومي رئيسي ومحلي تجاه هذه المشكلة الكبيرة، بل بعد سيل من الوعود الخاصة بنصب محطات التحلية على شط العرب أو سواه، وبعد 15 سنة من سقوط نظام صدام حسين، وتهم فساد بسرقة عشرات مليارات الدولارات تحت عناوين الخدمات في البصرة، كما أن الحكومات المحلية لطالما تمتعت بأموال الشعب، وأحاطت نفسها بكم هائل من الرفاهية، فيما يموت البصْريون جوعاً وعطشاً.
مشكلة البطالة المتصاعدة بين شباب البصرة الذي لم يجد أي مخرج لحالته المزرية، فيما تُفتح أبواب حقول النفط ومصافيه والمؤسسات الرئيسة فيه للعمالة الأجنبية، فكيف يمكن لشباب من 18 سنة إلى 30 سنة أن يصبروا على جوعهم، وحرمان أهلهم، مع تعامل مهين من الأحزاب والقوى المتنفذة في البصرة (وسواها)؟ كيف يمكن لهم أن يراهنوا على صبر بلا حدود؟ وكيف يثقون بحكوماتٍ لم تبعهم غير وعود وهالات إعلامية، لتسكين آلامهم وغضبهم. لقد بلغ شباب البصرة حدود الكفر بـ (التسويف) الحكومي، وامتلاك زمام المبادرة لتحريك المياه الراكدة.
يقول ممثلو شباب البصرة من المتظاهرين عن رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته، حيدر العبادي، إنه شخص يقول ما لا يفعل، وإنهم فقدوا الثقة به وبوعوده، ولذلك بات تنفيذ المطالب الرئيسة أمراً واجب التنفيذ فوراً، ولا مجال لوعودٍ لن تتحقّق، لأسباب يعلمها البصريون، يتعلق بعضها بضعف الحكومة ومشكلة الفساد المنتشر في جميع أجهزتها، ويرتبط بعضها الآخر بشكل مباشر بحسابات الجارة المهيمنة على شؤون البصرة، والعراق عموماً، إيران.
البصرة هي أكثر المحافظات التي تحملت وزر الحرب العراقية الإيرانية، وكانت قاعدة الجيش العراقي الرئيسة ولكل صنوفه، وقد قدّمت آلاف القتلى والجرحى والمفقودين في تلك الحرب، كما قدّمت الدعم الوطني الكبير لعقيدة مقاتلي الجيش العراقي، على خلاف ما راهنت عليه
القواتُ التي تحافظ على المقارّ الحكومية في البصرة، وجزءٌ من منظومة بناء القوات العراقية بشكل عام، وبحسابٍ بعيد النظر من الأحزاب المتنفذة، تم قبول الأشخاص فيها على أساس الانتماء أو الترشح من هذه الأحزاب. لذلك لا يُستغرب إطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم، ذاك أن الأوامر التي تقتضي إبقاء البصرة خارج الإرادة الوطنية، وتسمح برفع صور الخميني وخامنئي في شوارعها، لن تسمح بعودة هذه المحافظة، أو المدينة التي بنيت في عهد عمر بن الخطاب، إلى امتلاك زمام أمورها، خصوصاً وأن المتظاهرين باتوا اليوم خارج دائرة التأثير النفسي الطائفي، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من أن يشكلوا من بينهم، وليس من تنظيمات إرهابية أو طائفية أو حزبية، قيادات واعية لخطورة المتغيّر الذي يقودونه نحو تغيير طبيعة تعامل النظام السياسي في العراق مع الشعب، وأن يكون إرضاء الشعب غايته الكبرى، وليس إرضاء أي دولةٍ مجاورة.