كشفت التظاهرات التي عمّت المدن السورية خلال الأيام الماضية، أنّ النظام السوري ومليشياته والدعم الإيراني والروسي له، على مدى سنوات، فشل في قتل الثورة السورية، في وقت كان فيه حتى أنصارُ الثورة وأبناؤها قد صدقوا أنها قُتلت، لكن ما أن فُتحت لها نافذة للهواء حتى خرجت لتصرخ بأعلى صوتها "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولتصدح أغاني الثورة وشعاراتها في شوارع وسماء سورية علّها تصمّ آذان المهاجمين القتلة، وتُخفت أصوات طائراتهم.
اقرأ أيضاً: "العربي الجديد" في كفرنبل... الرمز الباسِم للثورة السورية
وتمثل التظاهرات السلمية التي شهدتها العديد من المدن السورية يوم الجمعة الماضي، ردّ اعتبار لهذا الأسلوب في الكفاح والذي توارى خلال السنوات الماضية نتيجة تصاعد العنف والعمليات العسكرية.
ورغم أن التظاهرات السلمية لم تنقطع تماماً خلال تلك السنوات، وظلت مناطق كثيرة تشهد تظاهرات بين الفينة والأخرى، سواء للاحتجاج على جرائم النظام والمطالبة بحماية الأهداف المدنية، أم كتعبير عن رفض بعض سلوكيات فصائل في المعارضة السورية المسلحة، إلا أن الزخم الذي كانت عليه تظاهرات الجمعة أعاد الأشهر الأولى للثورة السورية، التي كان أبطالها الناشطين والفئات الشعبية المختلفة. هؤلاء الذين غاب، أو تراجع دورهم خلال الفترات التالية، واستقر غالبيتهم لاجئين في تركيا أو أوروبا، بخلاف من قتل منهم أو ما زال في سجون النظام.
ويشير التنظيم والتنسيق الجيد الذي كانت عليه التظاهرات في عموم المحافظات السورية، إلى أن دور هؤلاء الناشطين، وربما الأجيال الجديدة منهم، لم يضمر كلياً، وما زال هناك ما يمكنهم القيام به، على الرغم من تصاعد دور الفصائل المسلحة، وتصدرها المشهد في الساحة السورية.
ويرى متفائلون أن تواصل ونمو هذه التظاهرات سيعيدها مجدداً، لتصبح جزءاً أصيلاً من النضال الثوري السوري، ويعيد للثورة وجهها الحضاري السلمي، المطالب بالحرية والديمقراطية، بعدما دأب النظام وأعوانه على مدى سنوات على تشويه صورتها.
وقد تكون عودة التظاهرات قد فاجأت الكثير من المتابعين للشأن السوري قبل أن تفاجئ النظام الذي اعتقد بأنه استطاع إخمادها للأبد. إلا أن الناشطين الذين نظموا التظاهرات في الداخل السوري يتوقعون أن يكون زخمها في الفترات اللاحقة أكبر في حال شعور الناس بأمان نسبي من قصف الطيران. ويعتبرون أن تظاهرات الجمعة الماضية لم تكن إلا تعبيراً عن حيوية الشعب السوري الذي لايزال مصمماً على إسقاط النظام رغم كل المآسي التي يعيشها، خصوصاً أن التظاهرات هذه المرة لم تخرج من الجوامع، وإنما خرجت من بين أنقاض البيوت التي دمرتها طائرات النظام وحليفته روسيا.
ومن مدينة كفرنبل في ريف إدلب، التي كانت رمزاً للتظاهرات السلمية منذ بداية الثورة، التقت "العربي الجديد" مدير المكتب الإعلامي في مدينة كفر نبل، رائد الفارس، الذي يدير حالياً مجموعة من النشاطات المدنية في المدينة منها "راديو فرش" المحلي.
وقال الفارس إنه على الرغم من أننا نعلم بأن وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه كان هشاً، وغير مضمون، ورغم علمنا أن النظام والروس قد يخرقونه ويقصفون بأيه لحظة، كونهما طرفا لا يمكن الوثوق به، إلا أننا أردنا أن تكون رسالة للعالم الذي دأب على التنكر لثورتنا، ولطالما حاول تعمية العيون عنها بوصفها إرهاباً، والقول إن حرب النظام معنا مشروعة لأنه يقاتل الإرهاب.
وعن الرسالة التي تريد توجيهها التظاهرات التي خرجت، قال الفارس إن الرسالة مفادها بأنه في عام 2011 قامت ثورة في سورية، انتفض شعب ينشد الحرية والكرامة ولو قليلا منهما، وأن دكتاتوراً يدعى بشار الأسد قتل ونكل واعتقل وشرد هذا الشعب، فانتفض أحرارٌ وحملوا السلاح ليدافعوا عن الشعب وثورته، موضحاً أنه حق مشروعٌ أن تدفع عن شعبك وأهلك القتل بكل الوسائل.
وبين الفارس أنه في ظل ما سمّاه العالم حرباً نريد للعالم أن يفهم أن شعبنا بعد خمس سنين من القتل، لم ينته أو يتحول عن مطالبه وأنه مازال موجوداً، لقد خبا صوته مع ارتفاع صوت الرصاص، وتحت برك الدم، حيث لم يكن موجوداً سوى الفقاعات الهوائية التي تخرج من أفواه ملأها الدم الذي سفكه الأسد وأعوانه، وعند أول فرصة عندما ارتفع الرأس فوق منسوب الدم، لم تكن الأولوية لشهيق يملأ الرئتين بالأكسجين، بل كانت صرخة أننا ما زلنا أحياء، وأن الشعب الذي بدأ ثورته بمطلب الحرية والكرامة ما زال على قيد الحياة.
ورفض الفارس تسمية ما حصل بأنه عودة الروح للثورة، لأنه يرى أن الروح كانت وما زالت موجودة في الثورة والشعب، بل هي مراحل قد تخبو الشعلة وقد تتوهج، ولكنها أبداً لم ولن تنطفئ.
وعن التنسيق بين المحافظات والمناطق لإخراج التظاهرات بالطريقة التي خرجت بها، قال الفارس إنه "لم يتم التنسيق على مستوى المحافظات، وإنما كان هناك تنسيق بين جميع الفعاليات الموجودة في ريف إدلب". ورأى أن الجمعة 4 آذار 2016 كانت صرخة الحياة.
وأضاف الفارس "التقينا في مدينة معرة النعمان وتحدثنا مطولاً وأنشأنا غرفة مشتركة على تطبيق "واتس آب" التي تم من خلالها متابعة التنسيق على مستوى منطقتنا والمناطق المجاورة، ولكن كان هناك إحساس عام بأن الكل يعمل على أن تخرج تظاهرات في كل المناطق السورية".
وعن رؤيته لسير التظاهرة وهل توقع خروج هذا الحشد الكبير في ظل الظرف الحالي والخذلان الدولي للقضية السورية، قال الفارس "أنا واثق أن عدد المتظاهرين كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك بكثير إلا أن هناك مواطنين لا يزالون يخافون غدر النظام وقصف التظاهرة".
وعما يمكن البناء عليه من هذه التظاهرات في المرحلة الحالية، وإمكانية استمرارها وتوسعها، قال الفارس "لا أتصور أن تتوسع التظاهرات كما في السابق بسبب الظروف المأساوية التي تعيشها الناس فهي بحاجة لن تأخذ شهيقاً أولاً".
وكانت التظاهرة التي شهدتها كل من مدينتي كفرنبل ومعرة النعمان من أكبر التظاهرات التي خرجت يوم الجمعة الماضية؛ فمدينة كفرنبل اشتهرت بلافتاتها التي كانت تعبر عن مواقف سياسية بطريقة ساخرة أو عن مواقف معينة من كل ما له علاقة بالثورة داخلياً ودولياً، والتي كان يكتبها المكتب الإعلامي في المدينة، وبعدد من اللغات كالإنجليزية والروسية. كما اشتهرت برسوم الكاريكاتير التي كانت ترفع في التظاهرات تعبيراً عن وجهة نظر أهل المدينة من خلال الرسم، إذ كان المكتب الإعلامي يستقبل أفكاراً للرسومات واللوحات من أهالي البلد ويقوم بتنفيذها المكتب الإعلامي.
وتمثل عودة التظاهرات إلى معظم ساحات المدن السورية في مناطق سيطرة المعارضة رسالة مزدوجة إلى النظام، والتنظيمات الشمولية التي تسعى إلى فرض استبداد آخر في مناطق المعارضة، بأن الثورة ما تزال حية، وأن الشعب السوري لا يزال على مطالبه بإسقاط كل أنواع الاستبداد.