واللافت، أنّ كل هذه التعيينات جاءت بقرار من رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، نفسه. وعلى الرغم من أنّ الدستور يتيح لرئيس الحكومة تعيين المناصب العليا في الدولة، فقد درجت العادة على أن يتولى كل وزير الإعلان عن تغييرات وزارته بنفسه، حتى وإنْ كان رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة هو صاحب القرار الحقيقي.
وإن كان ممكناً تقبل هذا الأمر في ما يخصّ تغيير كاتب الدولة لدى وزير الداخلية المكلّف بالشؤون الأمنية، فإن قرارات الصيد حملت تأويلات سياسية يمكن إدراجها في باب الإعداد للحكومة المقبلة التي سترى النور بعد الانتهاء من مناقشة موازنة العام المقبل، وفق تأكيد الصيد.
وشكّلت إقالة الشلّي مفاجأة لدى كثيرين، وخصوصاً أن قرار الصيد أشار إلى "إعفاء" وليس تغييراً، ما يعكس عدم رضا الصيد عن أداء الوزارة أمنياً بعد الأحداث الأخيرة، على الرغم من النجاحات المتتالية التي حققتها قوى الأمن التونسي في الأيام الأخيرة. لكن يبدو أنّ الصيد، الذي يعرف الداخلية جيداً، يرى عكس ذلك، وربما يُفسّر الأمر بوجود ثغرات وإخفاقات أمنية تفطّن إليها بعد الحادثة الأخيرة.
ويرى مراقبون أنّ تفسير الشلّي قرار إقالته، بأنّه يندرج ضمن تغييرات هيكلية أرادها الصيد، غير منطقي، باعتبار أنه كان بإمكان الصيد الانتظار أياماً قليلة أخرى لإجراء هذا التعديل، ولا يلجأ لـ"الإعفاء" الذي يبعث برسالة سياسية إلى التونسيين تعكس تحرُّك رئيس الحكومة على كل المستويات.
اقرأ أيضاً تونس: تغييرات كبرى في وزارة الداخلية
وتمثّلت المفاجأة الكبرى في تعيين عبد الرحمان الحاج علي، مديراً عاماً للأمن الوطني، وقد سبق له أن تولى مهمات متعددة في صلب الداخلية وخارجها، بداية في شرطة الحدود والأجانب، ثم تعيينه في أواخر عام 1987 (عند تسلُّم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي للسلطة) مديراً عاماً لجهاز الأمن الرئاسي، قبل أن يُقال عام 2002، ثمّ شغل ملحقاً أمنياً في السفارة التونسية في موريتانيا، وسفيراً فيها ثم سفيراً في مالطا. ويتردد أن سبب إقالته على يد بن علي يعود الى إخضاعه ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع، لمراقبة الأمن السياسي.
وتصف بعض القيادات السياسية التي تحدثت لـ"العربي الجديد" تعيين الحاج علي بـ"عودة رجالات النظام القديم"، فضلاً عن عمره الذي بلغ أكثر من سبعين عاماً، وابتعاده عن النشاط السياسي والأمني لفترة طويلة، على الرغم من كفاءته التي تحدّث عنها مقربون منه. وتشير بعض الآراء السياسية إلى انزعاج في صفوف حركة "النهضة" من هذا التعيين، لارتباط الفترة التي تولّى فيها الحاج علي الإشراف على جهاز الأمن الرئاسي، بملاحقات ومحاكمات لرموزها وقواعدها، في حين يعتبر آخرون أنّه لم يكن متورطاً، باعتبار أنّ بن علي كان يتولى هذا الأمر بنفسه، وعبر وزارة الداخلية وليس الأمن الرئاسي، ولم يكن يسمح لأحد التدخل في الملفات الأمنية الحسّاسة.
كما يرى بعض المتابعين أنّ الحاج علي لا يختلف عن الشلّي، إذ إنّ كليهما خريجا الأمن الرئاسي، معتبرين أنّ "المدرسة" فشلت مع الشلّي، ما يعني الأمر ذاته مع الحاج علي. ويلفت المتابعون أنفسهم إلى الهوة الكبيرة الموجودة بين أجيال مختلفة في الداخلية، أي المدير الجديد (عبد الرحمان الحاج علي) والكوادر الموجودة حالياً التي لا يتجاوز معدل أعمارهم 40 سنة، معتبرين أنّها رسالة سلبية إلى الشباب عموماً، والطبقة السياسية ما بعد الثورة خصوصاً.
من ناحية أخرى، يعتبر البعض أنّ تعيين الصيد للحاج علي، يشير إلى رغبة رئيس الحكومة بوجود معاونين من ذوي الثقة، وتعرفهم إطارات وزارة الداخلية بحزمهم ونجاعتهم، وبعيدين عن طموحات سياسية خصوصاً، بسبب تقدّمهم في السنّ. يُذكر أنّ اسم الحاج علي كان مطروحاً لتولي وزارة الداخلية منذ سنتين، غير أنّ الأمر لم يتم لأسباب سياسية واضحة، أهمها رفض الطبقة السياسية في ذلك الوقت، عودة شخصيات من النظام القديم.
وتؤكد تعيينات الصيد، الواقع تحت ضغط شعبي، عدم رضا جزء كبير من التونسيين عن أداء حكومته أمنياً، وجاءت التغييرات الجوهرية على هيكلية وزارة الداخلية وأدائها، وفقاً لما طالبت به النقابات الأمنية منذ مدة. وتبدو قرارات الصيد مقدمة لتغيير وزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي، وفق ما يتردد في بعض الكواليس، وإن كان الصيد يخفي كل أوراق تشكيله الحكومي الجديد. في المقابل يستبعد بعض المراقبين هذه الإقالة، معتبرين أنّها فرضية قد يحملها هذا التعديل الحكومي الذي طال انتظاره، وطالبت به معظم القوى السياسية التونسية من داخل الائتلاف الحكومي وخارجه.
اقرأ أيضاً تونس بعد "الثلاثاء الأسود"... رحلة البحث عن "الوحدة المقدّسة"