تغيير عقيدة الجيش الجزائري: ضوء أخضر لعمليات خارجية

09 مايو 2020
بات الجوار الجزائري أكثر توتراً من السابق (أحمد كمال)
+ الخط -

تتجه الجزائر إلى إجراء تغيير جذري ولافت في العقيدة العسكرية للجيش، بعد إدراج مادة جديدة في الدستور الجديد الذي سيُعرض للاستفتاء الشعبي، تسمح للرئيس الجزائري بإرسال وحدات من الجيش خارج الحدود، سواء للمشاركة في عمليات حفظ السلام الأممية أو في عمليات استعادة السلام في دول منطقة الجوار، بعد ستة عقود لم يكن مسموحاً فيها للقوات الجزائرية بالقتال في الخارج. وأدت التطورات التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا؛ سواء بسبب وجود المجموعات المسلحة في مالي والنيجر، أو تدشين قواعد عسكرية لدول إقليمية وغربية في منطقة الساحل، أو بسبب ارتفاع منسوب التوترات والحروب الأهلية كما في ليبيا، إلى تضرر المصالح الاستراتيجية للجزائر وأمنها الحدودي، ما استلزم إجراء مراجعة عميقة للعقيدة الدفاعية للجيش الجزائري، لتكييفها مع التطورات الراهنة. وجاءت المراجعة بعد نقاشات داخلية امتدت لسنوات، جرى خلالها تقييم الآثار المترتبة عن هذه التطورات على الجزائر ومصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي، واستغلت القيادة السياسية والرئيس عبد المجيد تبون سانحة تعديل الدستور، لإدراج مواد تتيح إمكانية إرسال قوات من الجيش للمشاركة في عمليات حفظ السلام تحت رعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، إضافة إلى مقترح ثانٍ يتيح للجيش الجزائري المشاركة في عمليات إحلال السلام واستعادته في المنطقة ضمن إطار اتفاقيات ثنائية مع الدول المعنية، وتنسحب كلمة "الدولة المعنية"، على الحكومات الشرعية المعترف بها دولياً، باقتراح من رئيس الجمهورية وبعد الحصول على موافقة البرلمان.

عملياً، إن الحاجة الماسة لمشاركة عسكرية جزائرية، برزت في مالي وليبيا تحديداً، لجهة العمل على إحلال السلام والمساعدة في تنفيذ الاتفاقيات الدولية أو تحقيق التفاهمات المحلية، بما يعود أيضاً بالأمن على الحدود الجزائرية. مع العلم أن فكرة مراجعة العقيدة الدفاعية للجيش الجزائري بدأت منذ هجوم حلف شمال الأطلسي على ليبيا عام 2011 وإسقاط حكم معمّر القذافي، وكذلك هجوم التنظيمات المسلحة وسيطرتها على مدن شمال مالي في مارس/آذار 2012، حين خُطف خمسة دبلوماسيين جزائريين، فقُتل أحدهم وتوفي آخر وأُفرج لاحقاً عن ثلاثة آخرين، قبل أن تطلق فرنسا عمليات عسكرية في شمال مالي وبالقرب من الحدود مع الجزائر لملاحقة الإرهابيين.

في السياق، يعتبر الباحث في الشؤون العسكرية محمد دخوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الجغرافيا كانت ولا تزال هي العامل الثابت في صنع السياسة الخارجية للجزائر، ولذلك فإن ما تضمنته مسودة مشروع التعديل الدستوري بخصوص إرسال وحدات من الجيش خارج الحدود، يُعدّ تحولاً واضحاً في العقيدة العسكرية الجزائرية وفي محددات السياسة الخارجية للجزائر، ويأتي كاستجابة واضحة من صنّاع القرار للتهديدات الأمنية الضاغطة في المحيط الجيوسياسي للبلاد، الذي تحول إلى بؤرة استقطاب للقوى الجهادية في السنوات الأخيرة". ويشير إلى أن "عقيدة عدم التدخل العسكري المنتهجة سابقاً، لطالما أعاقت أداء الجزائر لدور دبلوماسي ريادي يحمي مصالحها الحيوية في المنطقة من السنغال إلى مصر باعتبارها منطقة أمن حيوي وفق نظرية الأمن القومي، كما حددها الرئيس الراحل هواري بومدين".



وفي الفترة الأخيرة، زاد القلق الرسمي والشعبي من التطورات الراهنة في ليبيا والتدخلات الأجنبية التي خلخلت الأمن في المنطقة، وأثّرت على الأمن الحدودي، وكذلك من المبادرة الفرنسية المتعلقة بـ"مجموعة الخمس - ساحل" (مالي، تشاد، النيجر، موريتانيا وبوركينا فاسو) بهدف ملاحقة التنظيمات المسلحة؛ وهو ما دفع الرئيس الجزائري إلى تخصيص أول اجتماع لمجلس الأمن القومي عُقِد نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، لبحث الوضع في مالي وليبيا تحديداً.

ويُتوقع أن تؤدي هذه الرخصة الدستورية الجديدة إلى تغير لافت في السياسة الإقليمية للجزائر، ومراجعة شاملة للمبادئ السياسية الخارجية للبلاد، التي ظلت أسيرة فكرة عدم التدخل العسكري في دول المنطقة، بما يؤدي إلى تغيّر موازين القوى في المنطقة، وتبدل أدوات تفعيل الموقف في دول الجوار التي تشهد توترات ونزاعات داخلية.

بدوره، يجد أستاذ العلوم السياسية في جامعة تيبازة قرب العاصمة، زهير بوعمامة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، في المقترح تكيفاً ضرورياً مع أوضاع المنطقة المحيطة بالجزائر، وهو تغير فرض تحديات ذات طبيعة مختلفة لا يجدي معها الاكتفاء فقط بأساليب ووصفات العمل التقليدية السابقة، مشيراً إلى أن الإبقاء على الوضع الحالي للمذهب الذي تتبنّاه الجزائر في سياساتها الخارجية والأمنية من دون تعديل وتكييف للقواعد التي وضعت في عالم لم يعد قائماً أيضاً، كلّف الجزائر التأخر كثيراً في الدفاع عن أمنها القومي، مقارنة بقدراتها ومصالحها، في مقابل أطراف أخرى أقل شأناً وأكثر حضوراً. ويعتبر المادة الدستورية، التي تتيح للرئيس إمكانية "إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه"، "رسالة واضحة جداً مفادها بأن الجزائر لن تحرم نفسها من أي وسيلة أو خيار يحقق مصالحنا إن اقتضى الأمر". ويقول إن هذه "الخطوة جادة وجريئة تجاه مراجعة العقيدة الخارجية والأمنية للجزائر برفع القيود التي كانت تحدّ وتحصر خياراتها وأدواتها في هذا الشأن، وتفوّت عليها فرصاً أكيدة للتعامل مع مستجدات جوارنا الجيوسياسي بمنطق أكثر واقعية، وبما يمكننا من أداء أدوارنا واستعادة مكانتنا التي نستحقها في المنطقة".

لكن ومع هذا التأييد السياسي والأكاديمي للتوجه الجديد، فإن ذلك لم يغفل عن طرح استباقي لمخاوف مشروعة من أن يدفع هذا التحول بالجزائر إلى الوقوع في مستنقعات أمنية وحروب إقليمية تتجاوز مصالحها أحياناً وتستفيد منها أطراف دولية متعددة، وهو ما يفرض بحسب خبراء وضع محددات صارمة لأي مشاركة للجيش خارج الحدود وفق الضوابط التاريخية لسياسات السلم الخارجي التي تتبناها الجزائر.



ويوضح بوعمامة أن هذا التحول "مضبوط بمحددات تتعلق بعمليات حفظ السلام الأممية، وإعادة السلام في المنطقة بالتوافق مع البلدان المعنية، إلا أن ذلك يفرض فتح نقاش يشارك فيه العاملون في الميدان وذوو الخبرة إلى جانب الأكاديميين، لوضع الخطوط الموجهة للتوجه الجديد في انتظار بناء مفهوم استراتيجي جديد للسياسة الخارجية والأمنية للجزائر الجديدة، تمكننا من توظيف قدراتنا وكامل فرصنا التي تقتضيها مصالحنا الوطنية العليا في مجالنا الحيوي"، مستدركاً: "لكن من دون الابتعاد كثيراً وتحميل الجزائر التزامات تستنزفها أو تجرها إلى ساحات لا ناقة لنا ولا جمل فيها، لأن فتح الباب أمام التحرك وراء الحدود لا يعني بالضرورة الانغماس في ما لا يفيدنا، سيتم وضع محددات تعرف لماذا ومتى وكيف يتم ذلك، مع الإبقاء على أولوية بناء الأمن الداخلي في كل أبعاده".

لكن دبلوماسياً جزائرياً عمل في إحدى دول الجوار، يقلّل من مخاوف غرق البلاد في مستنقعات الحروب المستنزفة، بل يقدّم لـ"العربي الجديد" تفسيرات للمقترح الذي تضمنه الدستور بالدفاع عن مصالح الجزائر وأمنها القومي الممتد إلى خارج الحدود، ويبدي اعتقاده بأن "السماح دستورياً للجيش بالقيام بعمليات معينة ومحددة في الخارج، لا يعني دفع الجزائر إلى مستنقعات الحروب وغيرها، فلا نية للجزائر في ذلك، وأحياناً قد تقتضي الضرورة عملاً معيناً أو قراراً معيناً وفق شروط محددة ومعطيات دقيقة وضوابط سياسية صارمة"، مضيفاً أن "العلاقات الدولية أصبحت مبنية على المصلحة ومصلحتنا في دعم أمن جيراننا المهدد بفعل التدخلات الأجنبية. ولا يمكن أن تبقى الجزائر في موقع المتفرج على بلد جار وأشقاء يستنجدون لأن بلدهم يدمر وتنهب خيراتهم، ما دام الجيش الجزائري قادراً في إطار ضوابط محددة على تقديم الدعم والعون، وهنا أقصد التدخل الإيجابي لأن الجزائر ضد التدخل وسياسة الأحلاف، بمعنى أن الجزائر لن تقبل بأن يكون جيشها جيشاً بالوكالة لأي طرف".

وإضافة إلى المتغيرات السياسية الداخلية والوضع الإقليمي، يعتقد متابعون للملف أن الوضع التسليحي الذي يوجد فيه الجيش الجزائري، والترسانة الثقيلة التي حصل عليها خلال السنوات الماضية، وكذلك مستوى الكفاءة التدريبية للجنود والضباط، تدفع إلى اعتبار أن الجيش استكمل التأمين الداخلي للبلاد، وبات مستعداً للمساهمة في الخارج، بما يخدم المصالح الأمنية والاستراتيجية للجزائر، خصوصاً أن الجيش بصدد طي ملف الإرهاب الذي ظل يشغله منذ نحو ثلاثة عقود.

للإشارة، تظل حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، آخر حرب شاركت فيها وحدات من الجيش الجزائري على الجبهة المصرية، إذ لم يكن الدستور الجزائري منذ عام 1976 يسمح للجيش بالمشاركة في أي عمليات خارج الحدود، ودخل الجيش في صلب عقيدة دفاعية بحتة، على الرغم من بعض العمليات المحدودة التي لم يعلن عنها والتي قام بها في الخارج، كملاحقة خاطفي 33 سائحاً ألمانياً شمال مالي عام 2003، واستعادة زعيم "إمارة الصحراء" عبد الرزاق البارا من تشاد عام 2004، وإجلاء الدبلوماسيين الجزائريين في ليبيا عام 2014.