أحلامهم إمّا مؤجّلة وإمّا محبَطة. هم شباب مصر الذين أشعلوا قبل سبعة أعوام بالتمام والكمال ميدان التحرير، بثورتهم. محطات كثيرة توالت منذ ذلك اليوم، فزادت بعضهم إصراراً على إنجاز ما فاتهم، في حين دفعت بعضاً آخر إلى الانسحاب.
قبل أيام من حلول الذكرى السابعة لثورة 25 يناير/ كانون الثاني، الموافقة اليوم الخميس، كانت خديجة إبراهيم تقف على شرفة منزلها في حيّ المعادي جنوبيّ القاهرة وتتذكّر كيف كان هذا الحيّ الهادئ الراقي غير مكترث بما يدور خارجه طوال ثمانية عشر يوماً.
ترتسم ابتسامة على وجه الشابة قبل أن تتلاشى سريعاً. تقول: "أتصوّر أنّ الثورة لم تمرّ من هنا. الثورات لا يقوم بها الأغنياء، بل هي حلم أبناء الطبقة الوسطى المتعطّشين إلى غدٍ أفضل". ثمّ تسترسل في حديثها إلى "العربي الجديد" عن الثورة وذكراها وأين تقف منها اليوم. تضيف خديجة: "إنّا منها وإنّا إليها راجعون". وتوضح: "قرأت هذه الجملة من قبل والمقصود بها فلسطين، وهي ما زالت عالقة في ذهني، وقد ارتبطت لديّ بالثورة والميدان".
وخديجة طالبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وقد درست النظم السياسية وآليات الحكم ومفاهيم السلطة، لذا تدرك جيداً أنّ "آليات ثورة يناير لم تعد صالحة اليوم". وتشرح أنّ "آلية التظاهر لم تعد متاحة، ولا حتى الفعاليات والأنشطة الطالبية في الجامعات. لم يعد أمامنا سوى التحرّك من القواعد الأساسية، مع الناس من جديد". وتتابع خديجة: "أرى اليوم أنّ المبادرات المجتمعية أهمّ من التحركات السياسية. التوجّه صوب الناس ومشاكلهم أهمّ بكثير من تشكيل الأحزاب والائتلافات. علينا أن نبدأ من نقطة الصفر".
ولا تخفي خديجة أنّها كانت تأمل بأن تكون قضية جزيرة الوراق - على سبيل المثال - نواة للاتحاد حول مطلب مجتمعي خالص، لكنّ ما جرى خالف توقعاتها. يُذكر أنّ شخصاً كان قد قُتل وأصيب العشرات من بينهم رجال شرطة في اشتباكات وقعت بين قوات الأمن المصرية وأهالي جزيرة الوراق في نهر النيل الواقعة في محافظة الجيزة، في يوليو/ تموز من العام الماضي. جرى ذلك في أعقاب شروع قوات الشرطة بتنفيذ قرارات إزالة عدد من المنازل المخالفة في الجزيرة، بحسب ما أعلنت السلطات، في مقابل إصرار الأهالي على التمسّك بحقهم في البقاء والسكن. وتشدّد خديجة على أنّ "مثل تلك القضايا يجب أن توحّدنا. يجب أن نتوجّه صوب هؤلاء ونساندهم في تمسكهم بحقوقهم وندعمهم في وجه السلطة".
"الثورة مستمرّة" (إبراهيم رمضان/ الأناضول) |
إلى ذلك، ترى خديجة أنّ التوغّل العمراني واتساع الفجوة بين الأحياء السكنية والتقسيم الطبقي "الفج" للشرائح المجتمعية، مسألة أخرى تصلح أن تكون نواة لقضية مجتمعية يمكن الاتحاد حولها. وتفسّر أنّ "التجمعات السكنية الفارهة - كامباوندات - تتوغّل في الأمكنة، والأسوار العالية تفصل بين فئات الشعب وتصنّفهم طبقات، فتزيد من اتساع الفجوة المجتمعية بين أفراد الشعب. لذا علينا أن نحافظ على الطبقة الوسطى، خصوصاً في ظلّ الغلاء المعيشي الشديد في أعقاب قرار تعويم العملة قبل عامَين".
دراسة خديجة العلوم السياسية جعلتها تضع وضع مصر دائماً في مقارنة مع ثورات دول أميركا اللاتينية. وتوضح قائلة "أظنّ أنّنا أقرب إلى نماذج أميركا اللاتينية. لدينا ظروف معيشية ومعدلات فقر وفساد متشابهة... حتى الانقلابات تتشابه كثيراً".
وخديجة التي شاركت في ثورة يناير 2011 والتي ترفض النظام الحالي حالمة إلى درجة كبيرة. بالنسبة إليها، فإنّ "خنق المجالين السياسي والإعلامي لن يطول"، وتؤمن بأنّه على الجميع "التعلم من أخطاء الماضي والتخلي عن آليات الثورة والبحث عن مساحات تحرّكٍ جديدة".
في مقابل تفاؤل خديجة وتمسّكها بأحلامها، يقف محمود سالم في حديثه عن الثورة. ومحمود كان ناشطاً سياسياً في حركة "6 إبريل"، لكنّ الانقسامات في داخلها ساءته وأحبطه التخبّطُ الكبير في إدارة الحركة بعد الثورة، ليصل به الأمر في النهاية إلى العزوف عن العمل السياسي كلياً ورفض خوض التجربة من جديد. ويقول محمود لـ "العربي الجديد" إنّ "الحركة تضمّ أشخاصاً محترمين وآخرين بعكسهم، وتضمّ أشخاصاً وطنيين وآخرين بعكسهم، وتضمّ أشخاصاً ينفقون من جيبهم الخاص على العمل العام وآخرين بعكسهم".
مشهد من إحدى الوقفات الاحتجاجية لناشطي 6 إبريل (جيانلويجس غويرشا/ فرانس برس) |
ويقرّ محمود بأنّه سئم ممّا كان وممّا علق في ذاكرته من مساوئ، ويتمنى اليوم "لو يعود بي الزمن إلى عام 2009 عندما كانت أقصى خططي السنوية السفر إلى شرم الشيخ خلال الإجازة وانتظار أغنية عمرو دياب الجديدة". واليوم كذلك، لم يعد محمود يقرأ الصحف ولم يعد يتابع الأخبار، في حين أنّه عمد إلى تغيير رقم هاتفه وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي وقطع كلّ صلته بالسياسة، وراح يخطط للهجرة.
هذا الإحباط الشديد يفسّره محمود ببساطة ومن دون تعقيدات. "نحن فشلنا في أن نتّحد، وفشلنا في أن نتّفق على قائد للثورة، وفشلنا في استعادة حقّ الذين راحوا". بالنسبة إليه، فإنّ المعضلة تُحَلّ في شرط واحد وهو أن "يُخرِجوا الشباب من السجون وبعدها فليحكموا مائة سنة إن شاؤوا. نحن لا نريد أكثر من ذلك".
بحكم انتمائه السابق إلى حركة "6 إبريل"، فإنّ محمود يعرف عشرات الشباب من الناشطين وغيرهم الذين يقبعون داخل السجون حالياً. يقول: "عمرهم (الشباب) يضيع في السجون ويتصوّرون أنّهم فداء للمقاومة واستعادة المعركة. هم غارقون في الوهم، ولو سافروا إلى الصعيد أو الأرياف أو الصحراء فإنّهم سوف يكتشفون أنّ أحداً لا يسمعهم ولا يكترث بهم. وفي القاهرة والجيزة والإسكندرية كذلك، الناس يعيشون في وادٍ آخر... والسياسيون، لا يسمعون إلا أنفسهم".
لا يتردّد محمود بالاعتراف قائلاً "أنا نادم على الثورة... يا ليتنا سمعنا كلام (حسني) مبارك حين قال أمهلوني ستّة أشهر فقط. هو كان يعرف كيف يدوّرها والناس مرتاحون". ويعاوده شعور بالذنب تجاه من قُتلوا في الثورة وما بعدها ومن سُجنوا ومن اختفوا. ويقول: "لي صاحب شهيد في كلّ مرحلة من مراحل الثورة. في الميدان وفي محمد محمود وفي استاد بور سعيد وفي الاتحادية... دم كثير والحال أسوأ ممّا هو عليه".