كان يوم الجمعة، 23 أغسطس/ آب من العام 2013 عادياً. درجات الحرارة العالية، المترافقة مع نسب رطوبة مرتفعة، جعلت منه يوماً صيفياً ثقيلاً. كان يُمكن له أن يمر بشكلٍ عادي كأي يوم لا يختلف عن الروتين اليومي في لبنان لولا انفجار سيارتين أمام مسجدي السلام والتقوى في قلب مدينة طرابلس، ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات. دخل تاريخ 23 أغسطس 2013، رزنامة المأساة اللبنانيّة، وما أكثرها. وأسس لـ"مظلوميّة سنيّة"، وعزز الصراع السنّي - العلوي كون المتهمين في تنفيذ هذه الجريمة ينتمون للحزب العربي الديمقراطي، وهو الحزب الأوسع انتشاراً في جبل محسن ذي الغالبية العلوية. وتجدر الإشارة إلى أن العام الذي حصل فيه التفجيران كان يشهد اشتباكات متقطعة بين جبل محسن وباب التبانة (ذي الغالبية السنية)، ووصل الأمر بالبعض لاستهداف المواطنين من المذهب العلوي الذين ينزلون إلى مدينة طرابلس.
يوم أمس، أصدر القاضي آلاء الخطيب، القرار الاتهامي في قضية التفجيرين، وقد تضمّن القرار، الذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، تسمية ضابطين في الاستخبارات السورية كمخططين ومشرفين على عملية التفجير، وهما النقيب في فرع فلسطين في الاستخبارات السورية محمد علي علي، والمسؤول في فرع الأمن السياسي في الاستخبارات السورية ناصر جوبان.
وبحسب القرار الاتهامي، فإن المتهمين خططوا لاغتيال رئيس هيئة العلماء المسلمين الأسبق سالم الرافعي، ووزير العدل المستقيل أشرف ريفي، والنائب خالد الضاهر، والنائب السابق مصطفى علوش والعقيد المتقاعد في الجيش اللبناني عميد حمود. ويلفت القرار الاتهامي إلى أن النقيب محمد علي علي أصرّ على استهداف جامع التقوى واغتيال الرافعي الذي يؤم الصلاة فيه يوم الجمعة "لتكون الرسالة مدوية وواضحة"، وليس يوم الإثنين عندما يُعطي الرافعي دروس دين، كما اقترح غريب.
ويُشير القرار الاتهامي إلى أن تفخيخ السيارتين تم في سورية، وجرى إدخالهما من منطقة القصر الحدودية إلى جبل محسن في طرابلس قبل يومين من عملية التفجير. كما تبيّن أن هاتف غريب يحوي رقم هاتف سوري، سبق له أن أرسل رسائل تهديد لعدد من شخصيات قوى 14 آذار عقب اغتيال اللواء وسام الحسن عام 2012، مفادها بأنه تم "اغتيال واحد من عشرة وأن الدور سيلحق بالآخرين". ويُقسّم القرار الاتهامي المجموعات المسؤولة عن عمليّة التفجير إلى مجموعة سورية مخططة (خلية أمنية تابعة للاستخبارات السورية) تولت "التخطيط والتحريض والمساعدة الجوهرية على تفجير المسجدين وذلك عبر شراء السيارتين المستخدمتين في التفجير ومن ثم تفخيخهما وتسهيل مرورهما على الحدود ومن ثم التواصل والتنسيق مع بعض المسؤولين عن المجموعة المنفذة يوم التفجير"، كما يشير إلى إمكانية تورط ضباط سوريين أعلى رتبة، ومجموعة منفذة، من أبرز أعضائها حيان رمضان ويوسف دياب وأحمد مرعي وآخرين، تولت نقل السيارتين وتفجيرهما، إلى جانب وجود متهمين آخرين لهم أدوار مختلفة، من أبرزهم أحمد غريب.
ويُعد هذا الاتهام الرسمي الثاني من نوعه من قِبل القضاء اللبناني لمسؤولين أمنيين رسميين سوريين بالاشتراك في جرائم من هذا النوع على الأراضي اللبنانيّة. فقد سبق لقاضي التحقيق العسكري الأول رياض ابو غيدا، أن طلب إعدام رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك وعقيد في الجيش السوري يُدعى عدنان (مجهول باقي الهوية)، بعد اتهامهما مع الوزير السابق ميشال سماحة، بأنهم "أقدموا على تأليف عصابة ترمي إلى ارتكاب الجنايات على الناس، والأموال، نيلاً من سلطة الدولة وهيبتها، والى إثارة اقتتال طائفي عبر التحضير لتنفيذ أعمال إرهابية بواسطة عبوات ناسفة تولى نقلها وتخزينها الأول، مع التخطيط لقتل شخصيات سياسية ودينية". لكن لاحقاً قررت المحكمة العسكرية فصل ملف سماحة عن مملوك، من أجل السير في المحاكمة بسبب "تعذر إبلاغ مملوك". وقد صدر الحكم النهائي في قضية سماحة، فيما لم تنطلق محاكمة المملوك بعد، بسبب تعذر التبليغ، كما يُشير القاضي محمد صعب، وهو المستشار القانوني لوزير العدل اللبناني أشرف ريفي، الذي يرى أن المحكمة يجب أن تنطلق غيابياً بعد التبليغ لصقاً، بحسب الإجراءات المتبعة في القضاء اللبناني. وتأخرت المحاكمة رغم انتشار تسجيلات بالفيديو وتسجيلات لاتصالات صوتية لسماحة ومسؤولين سوريين تُثبت تورطهم في هذه القضية.
إذاً، هي المرّة الثانية التي يُحاكم فيها مسؤولون سوريون أمام القضاء اللبنانيّ، بتهم تتعلق بجرائم إرهابية، رغم اتهام المسؤولين السوريين بتنفيذ اغتيالات سياسيّة وجرائم متنوعة من سبعينيات القرن الماضي، من دون أن تصل أي قضية إلى المحاكم. والجديد اليوم، أن هذه المحاكمات في هذه القضية ستجري أمام المجلس العدلي، الذي يُعتبر أعلى مرجع قضائي جزائي، وهو ينظر "في جميع الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي أو الداخلي، وبعض الجرائم الواقعة على السلامة العامة، ويضع يده على الدعوى بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء". ويتألف المجلس العدلي من رئيس وأربعة قضاة، وهو يُعد من المحاكم الخاصة.
وبحسب صعب، فمن المفترض أن تصدر مذكرات إلقاء قبض عن المجلس العدلي، وتُحال إلى الانتربول الدولي في حال تعذر تنفيذها لوجود المتهمين خارج لبنان، وتنطلق المحاكمات وجاهياً في ما يتعلق بالموقوفين، وغيابياً بالنسبة لغير الموقوفين.
وفي هذا السياق، دعا ريفي الحكومة اللبنانية إلى طرد "سفير النظام السوري في لبنان وقطع العلاقات مع النظام السوري، فهذا مطلب أهالي الشهداء ومطلب جميع اللبنانيين". كلام ريفي جاء خلال مؤتمر صحافي خصصه للإعلان عن القرار الظني بتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس في أغسطس/آب 2013، لافتاً إلى أن القرار الظني يثبت ضلوع استخبارات النظام السوري بارتكاب جريمة طرابلس. وقال إن هناك "شبهات كبيرة حول دور الحزب العربي الديمقراطي (هرب رئيسه رفعت عيد إلى سورية) في التفجيرين، لا سيما من خلال تواجد سيارتين مفخختين في بقعة يسيطر عليها".
من جهته، غرّد رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عبر حسابه على موقع "تويتر"، متوجهاً بالشكر للقضاء ولقوى الأمن وشعبة المعلومات والقوى العسكرية التي ساهمت في الوصول إلى هذا القرار، معتبراً أن "القرار يسمي بوضوح الضابطين في استخبارات النظام السوري محمد علي علي وناصر جوبان وبالتالي يوجه الاتهام المباشر إلى النظام واستخباراته وأجهزته". وتعهّد بمتابعة العمل حتى "إلقاء القبض على المتهمين وإنزال القصاص العادل بهم من أدنى قتلتهم إلى رأس نظامهم المجرم".