تواترت التقارير الإعلامية والدولية حول تدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية في قطاع غزة، بدءاً باقتراب نفاد المياه الصالحة للشرب في عام 2019، وتشديد الحصار الإسرائيلي والمصري للقطاع من جهة، والخطوات التي أعلنتها السلطة الفلسطينية في رام الله أخيراً، في سياق وقف المدفوعات عن أثمان الوقود المستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية، وترك غزة تغرق في الظلام من جهة أخرى.
دفعت هذه التطورات إلى إطلاق أوساط إسرائيلية مختلفة، مخاوف من تداعيات هذه التطورات على الأوضاع في قطاع غزة، لجهة دفع حركة حماس في نهاية المطاف، لمواجهة عسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي. ولعل من أبرز هذه التحذيرات، تلك التي نشرتها الصحف الإسرائيلية أخيراً عن مواقف منسق أنشطة الاحتلال الجنرال يوآف مردخاي، ومحللين وجهات عسكرية أخرى مختلفة، خصوصاً بعد تولي القيادي يحيى سنوار لمهامه رسمياً قائداً لحماس في غزة، خلفاً لاسماعيل هنية.
وما زاد في هذه التحذيرات المنبّهة والمخاوف، اعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، صراحة الشهر الماضي خلال جلسة لجنة مراقبة الدولة البرلمانية، بأن "عدوان الجرف الصامد على غزة (صيف 2014)، كان نتاج تدهور الأوضاع في الضفة الغربية بعد اختطاف المستوطنين الثلاثة، وبدء عملية واسعة لقمع حركة حماس في الضفة. وتزامن ذلك مع تدهور الوضع على الحدود مع القطاع، ما أدى في نهاية المطاف إلى فقدان زمام الأمور، رغم وجود تقديرات أمنية إسرائيلية في حينه أن حماس لم تكن تتجه نحو تفجير الصراع مع إسرائيل في مواجهة عسكرية".
وقد نشر مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، هذا الأسبوع تقدير موقف جديدا حذّر فيه من تكرار نفس السيناريو، ودعا إلى "تحديد سياسة إسرائيلية، تعمل على إبعاد وتأجيل المواجهة المقبلة قدر الإمكان، ولكن في الوقت ذاته الاستعداد لها جيداً".
وكشف هذا التقدير الذي وضعه أساف أوريون، حقيقة التوجهات والتقديرات الإسرائيلية، القائلة إن "المواجهة العسكرية مع غزة آتية لا محالة، وتبقى مسألة التوقيت". ورأى أن "هذه التطورات تلزم حكومة الاحتلال (غير المعنية بمواجهة عسكرية حالياً بحسب موقفه، وبحسب تقديرات مشابهة صدرت عن جهات إسرائيلية مختلفة) بالتحرك في أسرع وقت للتخفيف من حدة الضغوط الإنسانية والاقتصادية. وذلك لتخفيف وعرقلة عوامل قد تؤدي إلى تصعيد خطير، ولكن في المقابل الاستعداد جيداً لاحتمالات اندلاع المواجهة العسكرية وتطورها لحد إعادة احتلال قطاع غزة كلياً".
واقترح أوريون في هذا السياق أيضاً "الدفع لترشيد الجهوزية العسكرية والسياسية، وبضمنها انتاج بدائل لمنع إسرائيل من العودة لحكم القطاع وتولي مسؤولياته بشكل مباشر". وأشار الكاتب إلى "تصريحات نتنياهو في الجلسة المذكورة ورسمه للاستراتيجية الإسرائيلية فيما يتعلق بغزة، في ظل المعضلة الأمنية التي تفرض إعادة احتلال القطاع فعلياً حتى يتسنى ضرب حكم حماس. وفي المقابل هناك ثمن باهظ يتعلق بمن سيدير الأمور في قطاع غزة عندها. بالتالي فإن سياسة إسرائيل بحسب نتنياهو، هي: بناء القوة من أجل صد الأيديولوجيات القاتلة، وردع أصحابها، أو حسم المعركة في حال فُرضت علينا. هذه هي استراتيجيتنا، علينا تجديد الردع وتغذيته، لأن سياستي هي أنني لست مستعداً للقبول برشقات الصواريخ".
ورأى الكاتب أن هذه العبارات لنتنياهو تعكس عملياً سياسة حكومة الاحتلال تجاه القطاع، التي "تقوم على التسليم فعلياً مع بقاء حكم حماس في القطاع من دون الاعتراف به رسمياً، وردع الحركة وردعها عن تعزيز قوتها العسكرية والسيطرة على الضفة الغربية. لكن في المقابل هذا يعني التسليم بحكمها في القطاع. كما أن هذه السياسة تسعى لتأجيل المواجهة العسكرية مع حماس، وتنطوي على تناقض بين الهدف على المدى القريب بمنع وتأجيل المواجهة، مقابل النتيجة المتمثلة بتكريس وجود حكم حماس وقوتها كطرف أساسي في المشهد والحكم الفلسطينيين".
وتابع أوريون أن "تصريحات نتنياهو تجسّد مدى الصعوبة في تفادي التصعيد وتفاقم الأوضاع على الحدود مع غزة، تحديداً أن الوضع اليوم مشابه للذي ساد قبل العدوان الأخير، تحديداً في مسألة تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع. إذ لم تتحرك إسرائيل في حينه للتخفيف من الأزمة الاقتصادية والإنسانية وهو ما فاقم في تصعيد الأوضاع في نهاية المطاف، بسبب معارضة وزراء في الكابينيت الإسرائيلي لترتيب مسألة دفع رواتب العاملين في السلطة مثلاً، عبر الأمم المتحدة، إلى جانب تدهور الأوضاع في الضفة الغربية، وديناميكية الردود بين الطرفين بعد خطف المستوطنين الثلاثة".
التشابه في الأوضاع السائدة في قطاع غزة اليوم مع ما ساد قبيل شن العدوان، يضاف له أيضاً ارتفاع نسبة البطالة، من جهة، وظهور العناصر والجماعات التي تحاول تحدي سلطة حماس، والتي يمكن لها أن تطلق شرارة المواجهة المقبلة، خصوصاً أن القيادة الحالية لحماس، يحيى سنوار، جاءت من صفوف الذراع العسكري للحركة. كما أن نمط الردود الإسرائيلية الحالية على إطلاق الصواريخ من القطاع، يحمل في طياته هو الآخر خطر مفاقمة الأوضاع والدفع باتجاه المواجهة العسكرية المقبلة.
كما أظهر تقدير مركز أبحاث الأمن القومي، الإشكاليات من وجهة نظر إسرائيل، وهي مرتبطة بإعادة احتلال القطاع كلياً، وتداعيات ذلك من ناحية الكلفة الاقتصادية والعبء العسكري الذي يضاف للجيش كما طرحها نتنياهو، فإنه رصد أيضاً تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي وتهديداته بأن المعركة المقبلة في حال اندلاعها ضد حركة حماس يجب أن تكون المواجهة الأخيرة، أو الضرب بقوة إلى أن يرفع الطرف الأخر الراية البيضاء.
لكن تقدير الموقف الإسرائيلي هذا لا يأخذ بالحسبان، التطورات المتوقعة، لجهة التهدئة، في حال نجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعد زيارته المرتقبة في 22 مايو/أيار الحالي لإسرائيل، التي تسبقها زيارته أولاً للسعودية، واحتمال إعلانه عن قبول بعض مبادئ ونقاط المبادرة السعودية (وهو ما سبق أن أعلن نتنياهو عنه العام الماضي). وفي هذا السياق من المحتمل أن تطلق زيارة ترامب وبعد تنسيق عربي تحركاً إقليمياً برعاية أميركية يفضي كتحصيل حاصل لتخفيف حدة التوتر على جبهة غزة.
مع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن تقدير الموقف اقترح على الحكومة "ليس مجرد الاستعداد العسكري، بل أيضاً السياسي، من خلال ليس فقط محاولة تأجيل المواجهة، ولكن في حال اندلاعها أيضاً، والعمل على وضع خيارات سياسية واضحة لتبعات المواجهة العسكرية، تبعاً للأهداف التي تحددها الحكومة لهذه المواجهة، وما الذي سيطلب من الجيش تحقيقه: الاتجاه لإعادة احتلال غزة و/أو إسقاط حكم حماس. ولكن في المقابل البدء من الآن للمساعدة في بناء قدرة فلسطينية مقبولة تحكم غزة، أي عملياً إعداد بديل فلسطيني للحكم في القطاع عندما يحين الوقت وتنضج الظروف لذلك".