يمكن تصنيف حالة المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو، على أنها حقبة سياسية اجتماعية كاملة، بما حملت هذه المرحلة من ملامح ميزتها وقدمتها كحالة مستقلة عن التاريخ الفلسطيني الحديث، لم يكن التحول الحاد في المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أصبح مشروعا إغاثيا، تميزها الوحيد، لكن في أبعد من ذلك، ما أنتجه هذا التحول في الخطاب الوطني/السياسي السائد، من تحولات في مفاهيم الهوية، المقاومة، أو في المفاهيم الجديدة التي ارتبطت بقائمة الحلول الجديدة للأزمة مع الاستعمار، "الأزمة التي أصبحت في شكل جديد مختلف أيضا".
غير أن أحد أكثر هذه التحولات ظهورا، ارتبط بشكل خاص بإعادة تصوير وصياغة مفهوم المواجهة، وظهور أنماط جديدة تماما، من المواجهة، لم تكن بهذا الظهور المكثف من قبل، ارتبطت بمفاهيم المقاومة غير العنيفة، القانون الدولي، التضامن العالمي، الحلول الدبلوماسية.. إلخ. وساهمت الرؤية الجديدة في إحلال هذه الأنماط بدلا من أشكال المقاومة الأساسية، التي تعتمد في الأساس على العنف، كردة فعل طبيعية على وجود الاستعمار، والتي تم تشويهها وإقصاؤها من المشهد من خلال الاستشهاد بفشلها المزعوم في تجارب تاريخية محددة، وإبراز نجاح المقاومة "الشعبية"، التي أصبحت دلالة مختزلة لـ"مقاومة" اللاعنف، مثل ما يتم من الاستشهاد في نموذجي الانتفاضتين الأولى والثانية، على اعتبار أن الانتفاضة الأولى قامت بشكل كامل على "المقاومة الشعبية"، وأن الانتفاضة الثانية قامت على السلاح بشكل كامل، وتم على إثر ذلك تسويق فشل المقاومة المسلحة من خلال "فشل الانتفاضة الثانية". وتعزيز موقف المقاومة الشعبية من خلال "نجاح" الانتفاضة الأولى، مع ملاحظة أن الفرز بهذا الشكل يشوبه الكثير من عدم الدقة.
وحتى مع تجاوز النقاش حول المغالطة الأساسية التي تدور حولها كل هذه المقارنات، والتي تقيّم العمل المقاوم، من خلال أحكام مجردة، نجاح/ فشل، يمكن تأسيس نقاش آخر تماما، من خلال ما سبق، يستند إلى محاولة قراءة كيف حكم على التجارب الثورية التاريخية والمعاصرة، وكيف يتم تصوير التجربة النضالية الناجحة أو الفاشلة، من خلال الإشارة إلى تغير دلالات واستخدامات مفاهيم المواجهة، ضمن سياقات جديدة كليا، تحديدا مفهوم التضامن العالمي، الذي كان أداة من أدوات تصنيف التجارب النضالية، ومبررا من مبررات تحييد العنف، من خلال عرضه حائلا أمام استقطاب التضامن الدولي.
لقد تم التعامل مع التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية، ليس كأداة من أدوات الصراع، ولكن هدفا أوليا وأداة لتقييم فاعلية ونجاح حركات المقاومة، عن طريق حالة تستبعد العنف كما أسلف، بما يتلاءم مع الأهداف الجديدة للمشروع الوطني كمؤسسة.
إن المقارنة بين السياقات التي تم استخدام مفهوم التضامن العالمي فيها توضح مجموعة من الدلالات الأساسية التي صاحبت تحولات هذا المفهوم، من بداية الاهتمام بالرأي العام العالمي، وبدئه بمجموعة من العمليات التي قام معظمها على المقاومة العنيفة، مثل سلسلة خطف الطائرات أواخر عقد الستينيات، والتي ساهمت في تحويل عقود من الصراع العربي الصهيوني المتناسى، إلى قضية رأي عام عالمية كبرى، ومجموعة من العمليات قبل وبعد هذه السلسلة، التي يتضح ارتباطها برؤية متكاملة، لماهية هذا التضامن ودوره إلى مرحلة تحول المشروع الفلسطيني نحو خيارات السلام والتستر بالقانون الدولي.
توضح هذه المقارنة، بشكل جليّ، أن استخدام الخطاب السياسي الفلسطيني الجديد للتضامن، أصبح خاليا من مضمونه الرئيسي، الذي يرتبط بأهداف استخدامه. فالرجوع إلى بداية اهتمام المشروع الوطني الفلسطيني بالرأي العام العالمي، يوصلنا، بالضرورة، إلى أن هناك شكلين مختلفين تماما من التضامن العالمي الذي سعي إلى تحقيقه، حتى ولو كان موقعه كهدف ضمن تراتب أهداف المشروع الوطني، مختلفا من مرحلة إلى أخرى. فلم يعد شكل التضامن الجديد الذي أصبح جزء أساسي من خطاب السلطة الفلسطينية، ومن تعريفها لأهدافها، مشروعا كاملا قائما على تفكيك الاستعمار ومنظومته وأدواته عالميا، أو حشد مناصرين ومؤمنين بقضية الفلسطينيين كقضية شعب مستعمر، ولكنه أصبح ردة فعل أو انفعالات عاطفية، نحاول حشدها من خلال توظيف ممارسات الاستعمار العنيفة، ما جعل أي عنف مضاد، تنتهجه المقاومة الفلسطينية، تهديدا كاملا لهذا التضامن.
إن خلو مفهوم التضامن الجديد في الخطاب "الرسمي" الفلسطيني من مضمونه الأساسي، يظهر بشكله الأكثر وضوحا، في أن التضامن الذي تسعى إليه، لا يعادل تضامنا مع القضية الفلسطينية كقضية عادلة، ولا يعني بأي شكل من الأشكال، إيمانا بالحق الفلسطيني الذي لا يمكن عزله عن الايمان بحق مواجهة ومقاومة مشروع الاستعمار، وإلا فكيف يمكن تفسير تصوير العنف على أنه سبب من أسباب خسارة هذا التضامن الكثيرة، وكيف يمكن فهم هذا التضامن سوى أنه محاولة للتعاطف مع الضحية لا أكثر.
(فلسطين)