ما معنى أن يفرح التلميذ الجزائري بغياب المدرّس أكثر من فرحته بحضوره؟ وما معنى أن يمزّق كتبه وكراريسه في آخر يوم من السنة الدراسيّة؟
يقارن العمّ مسعود الذي اقترب من ثمانينه، بين صورته بالأبيض والأسود وهو يدرس شبه عار تحت شجرة في "الزمن الفرنسي"، وبين صورة حفيده الملوّنة وهو يدرس بثياب فاخرة في مدرسة مزوّدة بالتدفئة والكهرباء وبمطعم ومراحيض ومكتبة وقاعة للرياضة. هما صورتان غير قابلتين للمقارنة، بالنسبة إليه، نظراً إلى الفارق في الإمكانيات لصالح التلميذ الجديد. ويقول: "أذكر أنّني كنت أصحو بمجرّد أن تضع أمي يدها على جبيني، بينما يتناوب كلّ أفراد الأسرة على إيقاظ حفيدي. ولا يستيقظ إلا بعد نصف ساعة، ثمّ يغادر فراشه غارقاً في التثاؤب والتبرّم من الذهاب إلى المدرسة".
تحصي الجزائر، اليوم، قرابة عشرة ملايين تلميذ وتلميذة (في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية) وطلبة جامعيين، أي ما يمثّل 25 في المائة من عدد سكّان البلاد، وما يفوق عدد سكان عشرات الدول العضوة في هيئة الأمم المتحدة. وهي كانت سبّاقة إلى سنّ قانون يجعل إلحاق الطفل البالغ ستّ سنوات من العمر بالمدرسة، إلزامياً. لكنّها باتت تعاني من جهة أخرى، نسبة مقلقة من التسرّب المدرسي، مع كلّ ما يترتب عنه من مشكلات اجتماعية. لذلك، عملت على احتواء ما سماها المربي مخلوف ص. "القنبلة النائمة"، من خلال إطلاق مراكز التكوين المهني.
يقول هذا المربّي لـ"العربي الجديد"، إنّ "عتبة التسرّب كانت تعني الفاشلين في الحصول على الشهادة الأهلية فقط، أي بعد 12 سنة من التمدرس. ثمّ تراجعت إلى السنة التاسعة، وهي اليوم تمسّ المرحلة الابتدائية". يضيف: "هذا مؤشّر إلى أنّ علاقة التلميذ الجزائري بالمدرسة ساءت كثيراً، حتى بات يغادرها مبكراً ويفضّل عليها الشارع أو الشغل غير القانوني. وهذا معطى مزعج جداً".
اقــرأ أيضاً
انزعاج وزارة التربية الوطنية من الظاهرة، دفعها إلى طرح موضوع التسرّب المدرسي من ضمن مادة الثقافة العامة في مسابقة المدرّسين لعام 2016. وقد تطرّقت "مدوّنة التربية والتعليم" إلى الموضوع، فذكرت الأسباب المتعلقة بالتلميذ، منها "انخفاض قيمة العلم لديه وانحسار الدوافع للحصول على شهادة جامعية"، والمتعلقة بالأسرة منها "سوء الوضع الاقتصادي، حيث يصبح التكفل بتكاليف الدراسة صعباً". يُذكر أنّ الدراسة مجانية في كلّ المراحل، مع تأمين منح بسيطة. كذلك، تشير المدوّنة إلى أسباب متعلقة بالمدرسة نفسها، منها "استخدام العقاب المعنوي والبدني من المعلمين"، وأخرى متعلقة بالمنهاج منها "كثرة المواد الدراسية واكتظاظها بالموضوعات النظرية".
وتقترح المدوّنة جملة من العلاجات، منها التركيز على دور المرشد المدرسي وتفعيله في مساعدة التلاميذ على حلّ مشكلاتهم المختلفة، بالتعاون مع الجهاز التعليمي والمجتمع المحلي وأولياء الأمور، إلى جانب إعداد ورش عمل لهؤلاء الأخيرين بهدف توضيح أهميّة التعلّم، وتخفيض عدد الحصص حتى يجد المدرّسون وقتاً للتواصل مع تلاميذهم.
في سياق متصل، اقترح ثلاثة طلاب في علم الاجتماع التربوي يعدّون مذكرة تخرّج حول الظاهرة على "العربي الجديد" الوقوف أمام إحدى المؤسسات التربوية لمراقبة كيفية تعامل التلميذ مع مئزره، إذ إنّ ذلك يُعَدّ دليلاً على علاقته بالمدرسة. تبيّن أنّ التلاميذ، خصوصاً الذكور، يدسّون مآزرهم في محافظهم، حتى إذا بلغوا باب المدرسة ارتدوها على عجل، ومن دون عناية. كذلك، ما إن يخطوا خطوتهم الأولى خارج المدرسة حتى يخلعوها ويدسّوها في محافظهم من جديد. سألت "العربي الجديد" بعضهم عن ذلك، فأجمعوا على أنّهم يخجلون من الظهور بمآزرهم في الشارع. يُذكر أنّ أعمار هؤلاء كانت تتراوح ما بين 12 و15 عاماً. يقول هنا حسام م. وهو واحد من طلاب علم الاجتماع التربوي الثلاثة، إنّ "التلميذ الجزائري في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني (1962) كان يخرج من البيت بمئزره، ويعود من المدرسة به، وأحياناً، ينسى ربما خلعه. فيظهر به أثناء اللعب في نهاية النهار. أمّا اليوم، فقد بات يتخلّص منه حتى داخل المدرسة، من خلال محاولة تغطيته بثياب أطول منه". ويشرح أنّ "التلميذ الجزائري بات يذهب إلى المدرسة تحت ضغط أسرته ومحيطه، وهو ما كان ليفعل ذلك لو كان مخيّراً".
ولفت الجامعيون الثلاثة انتباه "العربي الجديد" إلى دليل قوي على الإكراه في علاقة التلميذ بالمدرسة، من خلال فرحته عند علمه بأنّ المدرّس غائب أو أنّ في الغد يوم عطلة. أمام إحدى المدارس، كان بعض التلاميذ يصيحون بأعلى أصواتهم "ما نقراوش اليوم.. ما نقراوش اليوم". سألنا أحدهم عن سبب فرحته بغياب مدرّسه، فأجاب إنّه سوف يلعب كرة القدم في الحومة مع أطفال آخرين.
إلى ذلك، يمكن استعادة مشاهد تمزيق الكتب والكراريس في آخر يوم من السنة الدراسية الماضية، التي تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. يُذكر أنّ تلاميذ أحد الفصول أضرموا النار في الطاولات والكراسي الخشبية. فيعلّق أحد الجامعيين الثلاثة: "إنّ عملية الحرق تعبير عن رغبة التلميذ في قطع علاقته بالمدرسة".
من جهة أخرى، قلّل الجامعيون الثلاثة من دور عنف المدرّسين في "نشوء هذا التشنّج لدى التلميذ من مدرسته، إذ لطالما كان الضرب وسيلة تربوية معتمدة منذ أوّل سنة دراسية بعد الاستقلال"، وقد لفتوا الانتباه إلى "التشوّه الذي مسّ صورة العلم والعلماء والمتعلمين والمدرّسين في المجتمع". يشرحون: "لقد بات التلميذ يلاحظ أنّ المتسرّب من المدرسة باكراً، أصبح تاجراً ثرياً أو عضواً في البرلمان، ويركب السيارات الفارهة ويسكن المنازل الفخمة، بينما يعاني الجامعيون من البطالة ويعيش المدرّسون على الدين أو يزاولون وظيفة أخرى حتى يتمكّنوا من إكمال شهرهم".
اقــرأ أيضاً
يقارن العمّ مسعود الذي اقترب من ثمانينه، بين صورته بالأبيض والأسود وهو يدرس شبه عار تحت شجرة في "الزمن الفرنسي"، وبين صورة حفيده الملوّنة وهو يدرس بثياب فاخرة في مدرسة مزوّدة بالتدفئة والكهرباء وبمطعم ومراحيض ومكتبة وقاعة للرياضة. هما صورتان غير قابلتين للمقارنة، بالنسبة إليه، نظراً إلى الفارق في الإمكانيات لصالح التلميذ الجديد. ويقول: "أذكر أنّني كنت أصحو بمجرّد أن تضع أمي يدها على جبيني، بينما يتناوب كلّ أفراد الأسرة على إيقاظ حفيدي. ولا يستيقظ إلا بعد نصف ساعة، ثمّ يغادر فراشه غارقاً في التثاؤب والتبرّم من الذهاب إلى المدرسة".
تحصي الجزائر، اليوم، قرابة عشرة ملايين تلميذ وتلميذة (في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية) وطلبة جامعيين، أي ما يمثّل 25 في المائة من عدد سكّان البلاد، وما يفوق عدد سكان عشرات الدول العضوة في هيئة الأمم المتحدة. وهي كانت سبّاقة إلى سنّ قانون يجعل إلحاق الطفل البالغ ستّ سنوات من العمر بالمدرسة، إلزامياً. لكنّها باتت تعاني من جهة أخرى، نسبة مقلقة من التسرّب المدرسي، مع كلّ ما يترتب عنه من مشكلات اجتماعية. لذلك، عملت على احتواء ما سماها المربي مخلوف ص. "القنبلة النائمة"، من خلال إطلاق مراكز التكوين المهني.
يقول هذا المربّي لـ"العربي الجديد"، إنّ "عتبة التسرّب كانت تعني الفاشلين في الحصول على الشهادة الأهلية فقط، أي بعد 12 سنة من التمدرس. ثمّ تراجعت إلى السنة التاسعة، وهي اليوم تمسّ المرحلة الابتدائية". يضيف: "هذا مؤشّر إلى أنّ علاقة التلميذ الجزائري بالمدرسة ساءت كثيراً، حتى بات يغادرها مبكراً ويفضّل عليها الشارع أو الشغل غير القانوني. وهذا معطى مزعج جداً".
انزعاج وزارة التربية الوطنية من الظاهرة، دفعها إلى طرح موضوع التسرّب المدرسي من ضمن مادة الثقافة العامة في مسابقة المدرّسين لعام 2016. وقد تطرّقت "مدوّنة التربية والتعليم" إلى الموضوع، فذكرت الأسباب المتعلقة بالتلميذ، منها "انخفاض قيمة العلم لديه وانحسار الدوافع للحصول على شهادة جامعية"، والمتعلقة بالأسرة منها "سوء الوضع الاقتصادي، حيث يصبح التكفل بتكاليف الدراسة صعباً". يُذكر أنّ الدراسة مجانية في كلّ المراحل، مع تأمين منح بسيطة. كذلك، تشير المدوّنة إلى أسباب متعلقة بالمدرسة نفسها، منها "استخدام العقاب المعنوي والبدني من المعلمين"، وأخرى متعلقة بالمنهاج منها "كثرة المواد الدراسية واكتظاظها بالموضوعات النظرية".
وتقترح المدوّنة جملة من العلاجات، منها التركيز على دور المرشد المدرسي وتفعيله في مساعدة التلاميذ على حلّ مشكلاتهم المختلفة، بالتعاون مع الجهاز التعليمي والمجتمع المحلي وأولياء الأمور، إلى جانب إعداد ورش عمل لهؤلاء الأخيرين بهدف توضيح أهميّة التعلّم، وتخفيض عدد الحصص حتى يجد المدرّسون وقتاً للتواصل مع تلاميذهم.
في سياق متصل، اقترح ثلاثة طلاب في علم الاجتماع التربوي يعدّون مذكرة تخرّج حول الظاهرة على "العربي الجديد" الوقوف أمام إحدى المؤسسات التربوية لمراقبة كيفية تعامل التلميذ مع مئزره، إذ إنّ ذلك يُعَدّ دليلاً على علاقته بالمدرسة. تبيّن أنّ التلاميذ، خصوصاً الذكور، يدسّون مآزرهم في محافظهم، حتى إذا بلغوا باب المدرسة ارتدوها على عجل، ومن دون عناية. كذلك، ما إن يخطوا خطوتهم الأولى خارج المدرسة حتى يخلعوها ويدسّوها في محافظهم من جديد. سألت "العربي الجديد" بعضهم عن ذلك، فأجمعوا على أنّهم يخجلون من الظهور بمآزرهم في الشارع. يُذكر أنّ أعمار هؤلاء كانت تتراوح ما بين 12 و15 عاماً. يقول هنا حسام م. وهو واحد من طلاب علم الاجتماع التربوي الثلاثة، إنّ "التلميذ الجزائري في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني (1962) كان يخرج من البيت بمئزره، ويعود من المدرسة به، وأحياناً، ينسى ربما خلعه. فيظهر به أثناء اللعب في نهاية النهار. أمّا اليوم، فقد بات يتخلّص منه حتى داخل المدرسة، من خلال محاولة تغطيته بثياب أطول منه". ويشرح أنّ "التلميذ الجزائري بات يذهب إلى المدرسة تحت ضغط أسرته ومحيطه، وهو ما كان ليفعل ذلك لو كان مخيّراً".
ولفت الجامعيون الثلاثة انتباه "العربي الجديد" إلى دليل قوي على الإكراه في علاقة التلميذ بالمدرسة، من خلال فرحته عند علمه بأنّ المدرّس غائب أو أنّ في الغد يوم عطلة. أمام إحدى المدارس، كان بعض التلاميذ يصيحون بأعلى أصواتهم "ما نقراوش اليوم.. ما نقراوش اليوم". سألنا أحدهم عن سبب فرحته بغياب مدرّسه، فأجاب إنّه سوف يلعب كرة القدم في الحومة مع أطفال آخرين.
إلى ذلك، يمكن استعادة مشاهد تمزيق الكتب والكراريس في آخر يوم من السنة الدراسية الماضية، التي تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. يُذكر أنّ تلاميذ أحد الفصول أضرموا النار في الطاولات والكراسي الخشبية. فيعلّق أحد الجامعيين الثلاثة: "إنّ عملية الحرق تعبير عن رغبة التلميذ في قطع علاقته بالمدرسة".
من جهة أخرى، قلّل الجامعيون الثلاثة من دور عنف المدرّسين في "نشوء هذا التشنّج لدى التلميذ من مدرسته، إذ لطالما كان الضرب وسيلة تربوية معتمدة منذ أوّل سنة دراسية بعد الاستقلال"، وقد لفتوا الانتباه إلى "التشوّه الذي مسّ صورة العلم والعلماء والمتعلمين والمدرّسين في المجتمع". يشرحون: "لقد بات التلميذ يلاحظ أنّ المتسرّب من المدرسة باكراً، أصبح تاجراً ثرياً أو عضواً في البرلمان، ويركب السيارات الفارهة ويسكن المنازل الفخمة، بينما يعاني الجامعيون من البطالة ويعيش المدرّسون على الدين أو يزاولون وظيفة أخرى حتى يتمكّنوا من إكمال شهرهم".