كان خالي محمد جوَّاب آفاق. فقد ذرع المغرب القديم من أقصاه إلى أقصاه، كما حلّ وأقام في الكثير من البلدان المجاورة من دون أن يحتاج إلى جواز سفر، ذلك أنّ معرفته بالمناطق الحدوديّة أغنته عن تلك الوثيقة الأرستقراطية التي كان دون الحصول عليها خَرْطُ القَتاد.
لدى عودته، بعد غياب أسابيع أو شهور، كنّا ننتظر حكاياه أكثر مما نتطلّع إلى هداياه. فطريقته في الحكي ونسجُه على نوْل التّشويق، إضافة إلى نَهَمِنا الفِطري، نحن أطفال العائلة، لإذكاء مخيّلاتنا بكل ما هو غريب... كل ذلك كان يجعل جلساتنا إليه بمثابة ولائم لا تضاهى. فمَنْ سواه كان سيحدّثنا عن ذلك الحادي العملاق الذي قطع عشرات الأميال وراء عيسه، مُشاطراً إياها الجوع والعطش، حتى إذا أدخلها إلى أحد الأسواق الأسبوعية، توسّط خيمة من خيامه وطلب لنفسه خروفاً مشويّاً وبضعة أرغفة وإبريق شاي كبيرا وبطيخة حمراء محترمة. ولم يتململ من مكانه إلا بعد أن أردى الوجبة تلك أثراً بعد عين في انتقام صارخ من الجوع خلَّف من الرعب وسط روّاد السوق أضعاف ما خلف من الذهول.
ومَن غيره كان سيخبرنا عن تلك القرية المغضوب عليها، والتي زُجَّ برجالها في السجون والثكنات والمنافي... فأصاب نساءها عطش عظيم، حتى أنهنّ اصطدن مرة حطاباً غريباً فشربنه حتى آخر نطفة. ومن كان سيحكي لنا حكاية ذلك الفلّاح الأجير الذي يأتي أي حقل بمنجله السّحري، فإذا هو حصيد بين شمس وضحاها، فيتقاضى لقاء صنيعه أجرة عشرين نفراً. ومن كان سيخبرنا أنّ من بني جلدتنا، في غير فجٍّ عميق، من يحسب أنّ الملك محمداً الخامس مازال حيًّا يحكم. كل هذه الحكايا وغيرها كثير، كان خالي محمد يعزّزها بضيوفه الغرباء الذين يأتي بهم، بين غياب وآخر، إلى بيتنا.
لقد أيقنت من لهجاتهم أنّ له الرِّجل الطولى في أرض الله الواسعة. أما الكلمات الغامضة التي كانت قد علقت بذاكرتي الفتيّة، فقد فنَّدت السنوات فهميَ الأرعن لها، إذ لا علاقة لـ "زوج بغال" بالعربات المجرورة، وليست "عَنّابة" أنثى العُنّاب، أما "وهران" فمفرد مرفوع بالألف كأي مثنى... رحم الله خالي محمداً. لقد أدخل الواقعية السّحرية إلى مخيّلتي قبل أن يُدخلها كتّاب أميركا اللاتينية إلى مكتبتي.
في إحدى المرّات، طال غياب خالي محمد أكثر من المعتاد. ولقد تصادف ذلك مع وجودي عند جدّتي بمناسبة واحدة من تلك العطل اللذيذة، فطلبت مِنّي أن أكتب إليه رسالة أستعجل فيها عودته. ذهبت إلى مركز القرية واشتريت العدّة: قلماً ومظروفاً وورقةً بيضاء ذات مربّعات صغيرة كانت زمانئذ خاصة بكتابة الرسائل، ثم عدت مفعماً بإحساس لعلّه السعادة، سعادة طفل ذي رسالة.
قضينا، جدّتي وأنا، عدّة أيام في كتابة تلك الرسالة حتى أنّنا حطّمنا، من دون سبق إصرار، الرّقمَ القياسي الذي كان في حوزة الفقيه حْمِيَّانْ الذي قرأ في الرسالة سبعة أيام ثم قال: هذا الخط عَيَّانْ، وكأن العيَّ في الخط وليس في قارئه. كانت جدّتي كلما فرغت من شؤونها (حلب الأبقار، إعداد الفطائر، سقي شجرة المشمش بماء الوضوء حتى تؤتي أُكلا مباركاً، إطعام الدواجن والكلاب...) تنتشلني بندائها من أنشطتي الشّيطانية في الجوار، فأمثل بين يديها صاغراً وديعاً كملاكٍ. تناولني العدّة ثم نبدأ العمل: هي تُمْلي وأنا أترجم ما تقول إلى لغة قابلة للكتابة. التحية والسلام والأشواق... لم تكن فقط الديباجة التي تقاضيت عنها أكثر من بيضة مسلوقة، بل كانت، حسب جدّتي، الشّص والطّعم الكفيلين بإخراج خالي من بحر الغياب.
أما الأسماء فقد شكّلت العمود الفقري للرسالة، إذ كلّما تذكّرت جدّتي اسماً أو أكثر نادت عليّ: وقل له فلان وعلان يسلمان عليك. وقل له فلانة وأولادها يسلّمون عليك... ولم يفتها سوى أن تبلغه سلام البيدر والحاكورة والبئر... بعد عدّة جلسات أنهينا كتابة الرسالة، وختمتها كما كانت تُختم الرسائل في سبعينيات القرن الماضي. لكننا لم نرسلها لعدم توفّر طابع بريد في مركز القرية، فاقترحت جدتي أن آخذ الرسالة معي إلى المدينة عند انقضاء العطلة وأرسلها من هناك. وكذلك لم يكن.
كانت عطلتي على وشك الانتهاء حين هَلَّ خالي محمّلًا بعناقيد الفرح، وهي العناقيد التي تناولنا جميعاً حباتها الحلوة مع أخباره وحكاياه ونوادره... فيما كان الحَصْرَمُ من نصيبي وحدي. فما إن ذكرت جدّتي أمر الرسالة حتى طلب أن أقرأها عليه، وهو ما فعلته بغير قليل من الاعتداد بالنفس، إذ مَنْ غيري كان يستطيع أن يقيّد الخط ويفكّه؟
قرأت عدة سطور قبل أن أرفع رأسي، وليتني ما فعلت حتى لا أرى ابتسامة خالي الماكرة التي كانت برقاً أعرف أيّ رعد يليه، فارتبكت تماماً حتى أنّي لم أكمل قراءة الرسالة إلا بشقّ النفس. كان خالي محمد ساخراً كبيراً لا قِبَل للطفل الذي كنت بمجاراته. لقد حوّل الرسالة إلى مرآة أمام وجهي، فإذا أنا مضحك تماماً، إذ ما معنى: لا ينقصنا إلا النظر في وجهكم العزيز؟ وكيف الْتَأَمَ هذا الجمع الغفير من الناس الذين يسلّمون على خالي ومعظمهم لا يعلم حتى بسفره؟ وكيف أذكر في الرسالة اسم عجوز من القرن التاسع عشر لا يظهر إلا لأمر جلل؟ ثم كيف أختم الرسالة بهذه العبارة المعجزة: الجواب في الحين. وحتى لو وجد طابع بريد، أي عنوان كنت سأدوّن على المظروف وخالي يضرب في أرض الله الواسعة ولا يعرف لنفسه عنواناً؟
تحت هكذا شآبيب لا ترحم كنت مثل فرخ لا يملك حتى أن ينتفش. كنت مأخوذاً تماماً بقدرة خالي على التهكّم والطنز حتى خلت أنه عائد للتو من الشقيقة طنزانيا. لقد أوسعني خالي تقريعاً بسبب افتقار رسالتي إلى الحدّ الأدنى من المنطق، مع أنّ حكاياه اللذيذة لم تكن كذلك إلا لخلوّها من هذا البهار بالذات الذي لا تستسيغه المخيّلة.
الآن، وقد مرّت سنوات على رحيل خالي ودفنه في أرض غريبة كلها حجر، كيف أخبره بأن رسالتي كانت محض نبوءة، وأنّ ما حملته من متمنّيات وجد من يأخذه غِلاباً. وكيف أخبره بأنّ واقعيّته السحريّة صار لها شقيق شقي اسمه السحر الواقعي، بفضله أصبحت عبارة "لا ينقصنا إلا النظر في وجهكم العزيز" ركيكة تماماً ليس بحكم التقادم وإنّما بفعل الويب كام. وعبارة "الجواب في الحين" غدت مطلباً مضحكاً في أثناء الشات. والبريد الإلكتروني حرر الإنسان تماماً من ربقتيْ المكان والزمان... وهكذا. أقصد هكذا نابت الإنترنت عنّي في الرّد على سخريّة خالي ولو متأخّرة بسنوات كثيرة.
كان خالي محمد جوّاب آفاق، سندباد العائلة كان، يمعن في الغياب فلا يظهر إلا محمّلاً بالعجائب... سوى أنه مات. مات خالي محمد، للأسف الشديد، قبل أن يشهد الظهور العلني لأنثى النمرود المعروفة علميّاً بالإنترنت، والتي هي الآن منهمكة في إعادة تشييد برج بابل بكل ما أوتيَتْ من عنكبوت.
* شاعر من المغرب