11 نوفمبر 2024
تمثيلية المفاوضات.. سورية على طريق فلسطين
لن يتقدّم السوريون خطوة واحدة إلى الأمام في محادثات جنيف الرابعة، والتي سوف تنتهي كما انتهت مفاوضات جنيف 1 و2 و3، أي قبل أن تبدأ، وقبل أن تنهي مناقشة جدول الأعمال التي تحطمت على "صخرتها" جميع المؤتمرات التفاوضية السابقة. ربما، هذه المرة، بمنسوبٍ أقل من التهم والشتائم التي يتقنها وفد النظام، احتراما للحليف الروسي الذي وقعت عليه، للمرة الأولى، رعاية "تمثيلية" المفاوضات السورية. والسبب بسيط جدا، وأقل تعقيدا بكثير مما تدّعي الدبلوماسية الدولية، وما يريد كبارها أن يقنعوا الرأي العام السوري به، وهو لا يختلف عن السبب الذي أفشل مفاوضات الحل السياسي في فلسطين، منذ مؤتمر مدريد الشهير في 1991. نظام الأسد وحلفاؤه الأساسيون في طهران يرفضون التخلي عن السيطرة على كامل السلطة والبلاد، مهما كانت الظروف، ولأي طرفٍ كان، لأنهم يريدون، بكل بساطة، الاحتفاظ بها، تماما كما رفض نظام الاحتلال الإسرائيلي "التنازل" عن أي شبرٍ من فلسطين، وأراد ولا يزال السيطرة على جميع الأراضي الفلسطينية، وضمها بالتدريج وحرمان الفلسطينيين من أي أمل بإقامة دولة على حدود "إسرائيل".
كما كان عليه الحال في المسألة الفلسطينية، لم يكن لدى القيادة الفلسطينية بكل أجنحتها، ولا لدى الرأي العام الفلسطيني، على تعدّد اتجاهاته، أي شك في أن الولايات المتحدة هي الراعي الرئيسي لإسرائيل، والضامن لمصالحها وأمنها، وتفوّقها على عموم المنطقة العربية وغير العربية في الشرق الأوسط كله، وأن واشنطن لا يمكن أن تفعل، في أي ظرف، ما يمكن أن يسيء إلى مصالح الاحتلال الإسرائيلي. لكن، لهذا السبب بالذات، وفي ظرفٍ تضاءلت فيه الخيارات إلى حدود العدم، راهن الفلسطينيون على العلاقة الوجودية بين واشنطن وتل أبيب، من أجل تحقيق تسويةٍ تحفظ ماء الوجه، وتقبل بجزءٍ لا يكاد يذكر من فلسطين، يرضي طموح النخبة الفلسطينية، ويبرّر استمرارها ووجودها على رأس شعبٍ لا يزال أغلبه يعيش في المخيمات. ما يعني أن من مصلحة إسرائيل إيجاد حل للقضية الفلسطينية بأرخص الأثمان، ومن مصلحة الولايات المتحدة الضغط على حكومات إسرائيل، من أجل تسهيل التوصل إلى هذا الحل الذي لا يعدو أن يكون مبادرةً لحفظ ماء الوجه للسلطة الفلسطينية التي يعترفون بفائدتها في منع بروز حركات متطرّفة فلسطينية.
ويكاد الوهم ذاته الذي ربط مصير الحركة الفلسطينية بالتفاهم مع الولايات المتحدة والرهان
في الحالتين، كانت الحصيلة صفرا. وبدل أن تكون المفاوضات وسيلةً للتوصل إلى حل للنزاع أو الصراع القائم، صارت هي المشكلة، وصار الهدف الذي يسعى إليه الأطراف، حلفاء المعارضة وأصدقاء الشعب السوري، أو من يتّسمون باسمهم، هو الجري وراء اجتماعاتٍ لا معنى ولا قيمة لها، والتأكيد على أهمية محادثاتٍ تبعد الأطراف عن القضية المطروحة للنقاش أكثر مما تقربها من إيجاد حل لها. والحال أن ما يحصل هو بالضبط تقويض أسس أي مفاوضاتٍ جدية، ووضع السوريين ومعارضتهم، كما وضع الفلسطينيون وقادتهم منذ ربع قرن، أمام خيار واحد: قبول الأمر الواقع. كل ما هنالك أن استمرار الحديث عن مفاوضاتٍ قادمة، ومؤتمرات محتملة، يفتح إمكانية تمرير فرض الأمر الواقع بالتدريج، ومن دون أن يشعر الطرف المعني، أو بالأحرى تهريب الحل العسكري الذي يتقدم وحده على الأرض، وتحويل المفاوضات إلى مخدّر من أرخص الأثمان.
لم يكن السوريون بحاجة إلى وساطة موسكو، إذا كان الهدف من المفاوضات التي تدفع إليها وتتوسط لإنجاحها، هو إعادة هيكلة النظام السوري، وإعادة الشرعية والاستقرار إليه، كما صرح مبعوث روسيا للقضية السورية ميخائيل بوغدانوف، الاثنين الماضي، في مداخلته في منتدى فالداي للحوار الاستراتيجي في موسكو، عندما انتقد "الثورات التي تسعى إلى إطاحة أنظمةٍ بدعم خارجي"، وقال إن الاحتجاجات تسمح بتقويم مشاعر المواطنين، وتتيح الفرصة لتحسين الدستور، إلا أن ذلك لا يعني ضرورة إلغاء الدستور والمطالبة برحيل السلطات الشرعية عن طريق القوة أو الثورات أو الانتفاضات، من دون انتظار إجراء انتخابات جديدة، وهذا يعني تكليف النظام الشرعي بالإصلاحات، وتنظيمه الانتخابات، أي ببساطة إلغاء جوهر المفاوضات في جنيف.
وليس هناك أي سببٍ لكي تعطي المعارضة السورية، مهما وصلت من الضعف، ولا الشعب الذي قاتل ست سنوات وحيدا، بركتهما لتعيين ممثلي منصة موسكو أو غيرها أعضاء في حكومة مشتركة مع النظام، فهؤلاء أحرار، وبإمكانهم في أي وقت أن ينضموا إلى حكومةٍ واحدة، يسمونها كما يشاؤون، حكومة وحدة وطنية أو حكومة روسية سورية، أم أي شيء آخر. ولن يقف أحد ضد خياراتهم، لكن هذه ليست الحكومة التي تمثل موقف الشعب الذي تريد أن تعبر عنه المعارضة، ولا موقع معارضةٍ قدمت آلاف الضحايا، من أجل تغيير النظام القائم، وتحرير الشعب من القهر والذل والاضطهاد. ومن الأفضل، في هذه الحالة، أن تبقى المعارضة معارضة، وتترك الروس والإيرانيين يشكلون حكومتهم الخاصة، ويضعوا على رأسها أيا من الدمى التي يثقون بها، ويستطيعون التلاعب بقراراتها، كما يشاؤون. قد يمثل هذا حلا لبقاء الأسد، وبقاء طهران ومصالحهما الفائقة، ولتوسيع نفوذ الروس وتكريس انتدابهم على سورية، لكنه لن يكون اتفاقا، ولا حلا للمسألة، ولا إنهاءً لأي نزاع.
لا ينبغي أن يخدع الروس أنفسهم، ولا أن تخدع الحكومات العربية وغير العربية التي تراهن
في نظري، ستستمر المفاوضات مع النظام السوري، وأولياء أمره من الإيرانيين، عقيمة، مهما تعدّدت المؤتمرات، وأعيد صياغة المبادرات لتمريرها على الرأي العام السوري. والمستفيد الوحيد من هذا العقم والفشل والتأجيل الدائم للحل قوى التطرّف التي يمقتها الجميع، لكنه يعمل على تغذيتها في كل خطوةٍ يسعى فيها إلى الإبقاء على أصل المأساة ومصدرها، وهو نظام القهر والإذلال والتعذيب والمعتقلات.
وسيخطئ أيضا الذين يسوقون من بين الحكومات العربية حلا رخيصا على طريقة المحاصصة الطائفية، يغطي على الإبقاء على نظام العبودية، أو تقاسما للسلطة مع مجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية، لأن الأغلبية الساحقة من السوريين لن تقبل، وسوف ترفض تحويلها إلى طائفةٍ وطوائف متنازعة على سلطاتٍ ومناصب وهمية. ما يريده السوريون هو الحرية.
والتسوية السياسية الوحيدة التي تقود إليها، وتفتح الطريق أمام مفاوضاتٍ حقيقية ومثمرة، ترضي تطلع السوريين إلى الحرية، هي وقف الحديث عن جميع المواضع الثانوية، وتركيز الأطراف كافة، وفي مقدمتها الدول الكبرى التي تريد الخلاص، أو على الأقل تخفيف عواقب الكارثة السورية التي لم تنته بعد، على نقطةٍ وحيدة واحدة: توفير الشروط الأمنية والسياسية التي تسمح للشعب السوري، من دون تمييز بين الطوائف والقوميات والطبقات، بتقرير مصيره من خلال انتخاباتٍ عامةٍ نزيهة وحرة وتحت إشراف دولي. وإذا كان التوصل إلى هيئةٍ انتقاليةٍ تقوم بالإعداد لهذه الانتخابات، وتضمن استمرار الدولة، وإدارة الشؤون العامة خلال سنة أو أكثر، مستحيلا بين الحكم والمعارضة، أي إذا أصر الحكم القائم على عرقلة التوصل إلى حلٍّ يفضي إلى عملية تقرير مصير، فعلى الأمم المتحدة والدول الكبرى الخمس في مجلس الأمن أن تتحمل مسؤولياتها إزاء السوريين المنكوبين، وتأخذ على عاتقها تحقيق هذه المهمة، قبل تسليم السلطة لحكومة سوريةٍ ديمقراطيةٍ، منبثقةٍ من الشعب ومعبرة عن إرادته. أمام رفض النظام وشركائه التراجع، وتردّد الدول الكبرى في مواجهة حلفاء النظام، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتنامي مخاطر التطرف الجديد النابع من الإحباط والبؤس والهوان، لا أعتقد أن هناك، ما لم تتغير المعطيات الدولية، أي حلّ آخر قابل للحياة.