يندرج بيان "نقابة المهن التمثيلية" في مصر (19 يوليو/ تموز 2020)، بخصوص الممثل عبد الرحمن أبو زهرة، في إطار تقديس رموزٍ لمنع المسّ بها، ومنح شخصية ما لقباً يُحصّنها، أو هكذا يظنّ مطلقو الألقاب والأوصاف، من أي اعتداء أو انتقادٍ. والبيان، الصادر بعد "فضح" سلوك الممثل في البلاتوه، يؤكّد مجدّداً أنّ مصر مستمرّة في العيش بعيداً عن تبدّلات خطرة يفرضها كورونا على البشرية يوماً تلو آخر، وأنّ مصر منشغلة بأمور كثيرة لا فائدة منها ولا معنى لها ولا هدف، سوى إلهاء الناس عن مصائب يعيشونها بسبب سلطة بوليسية، تتمثّل بالحكم وبأوساطٍ ثقافية وفنية وإعلامية، تمتلك حسّاً بوليسياً أخطر من ذاك الذي يتمتّع به حكم سياسي ديكتاتوريّ قامع.
التنمّر الموصوف به عبد الرحمن أبو زهرة، أمس واليوم، غير ذي أهمية بالنسبة إلى نقابةٍ وإلى مُطبّلين لها ومعها، وإلى منضوين في فضائها الخاضع لقمع السلطات. بينما المسّ بالرجل، كأنّه المعصوم عن الخطأ، أخطر من مصائب عالمٍ ينهار، ومجتمعات تتفكّك، وبلدان تتغيّر، وعلاقات تتبدّل، وأفكارٍ تعاني غياباً مطلقاً لتأمّل وابتكار وفهم ومتابعة. التنمّر عادي، بينما فضح الرجل أخطر من بؤس اجتماع مصري مقموع بعنفٍ غير مسبوق، وبإعدامات غير منتهية، وبسجون مفتوحة أمام كلّ من يتفوّه بتعبيرٍ أو قول ينسجمان مع قناعة. الاقتصاد منهار. الوباء متفشٍّ. القمع يزداد. العربدة الأمنية والعسكرية لا حدّ لها. الإعلام قذر. الفقر فاحش. هذا كلّه عادي بالنسبة إلى نقابةٍ "يُسيِّرها" ضابط رخيص لمصالح نظامٍ أرخص.
والنقابة التي يترأسها أشرف زكي مهمومة بممثل غير عابئ بأصول مهنة وأخلاق مهنة وعلاقات، رغم براعته في أداء أدوارٍ، لن يحول الأداء دون تبيان سلوكٍ نافر في التعاطي مع الآخرين. جدّيته وجماليات تمثيله أحياناً، المعرّضة لنقاش نقدي دائم، لن تكون عائقاً أمام كشف أسلوب شخصي في التصرّف والقول والتنمّر. إعلانه أنّه مُصابٌ باكتئاب لانفضاض المهنة عنه في عمرٍ متقدّم، لن يمنع تنقيباً في سجّله، وإنْ يُكشف المخبّأ بعد سنين، فهذا يحصل في هوليوود أيضاً، لكن المتّهم هناك يُحَاكَم.
الحضور الفني لأبي زهرة لن يجعله معصوماً عن نقد أعماله وانتقاد تصرّفاته وأقواله وتنمرّه، طالما أنّ هذه مسيئة للناس، وبعض التنمرّ والسلوك القاسي نتاج حضور طاغ لعبقرية أداء، أحياناً. حماية النقابة، المشتبه بأمر علاقاتها الأمنية والبوليسية في بلدٍ خاضعٍ للأمن والبوليس، تُثير رعباً في نفوس منتقدين وقائلين، لكنّ بعضهم غير مبالٍ، فحرية القول والتعبير أهمّ بالنسبة إليه، مع أنّ المصير بشعٌ. كاشفات تنمرّ الممثل منسحبات لاحقاً من تصريحاتهنّ، فالقمع أقوى، وتسلّط النقابة عليهنّ أعنف من بطش السلطة.
"نقابة المهن التمثيلية" تُشبه مؤسّسات ثقافية وفنية (وبعض الفنيّ سينمائيّ أيضاً) تتفوّق على السلطة بممارساتها الأمنية والبوليسية القامعة، كمن يطلب شهادة حسن سلوك من حكمٍ غير آبه بالناس وحقوقهم ومطالبهم المشروعة. نقابة تُرهب المنتسبين إليها، خصوصاً إنْ يكن هؤلاء سيدات أو آنسات، فالمنطق الذكوري غالبٌ دائماً، والسلطة تؤيّد منطقاً كهذا، معطوفاً على سلوك أمني وبوليسي. الأمير أباظة، رئيس "مهرجان الإسكندرية السينمائيّ لدول البحر المتوسّط"، منصرفٌ بكلّيته إلى تبجيلٍ يوميّ غير منتهٍ لحاكم مصر في أعماله التي يغلب عليها الوحشيّ والعنفيّ، بحجّة الدفاع عن مصر، كأنّه (الأمير أباظة) ناطق رسمي باسم الأمن والبوليس، بدلاً من أنّ يتستّر لسوء إدارته مهرجاناً يتقهقر يوماً تلو آخر، ويفقد مصداقيته، ويُفرَّغ من معناه ودوره وأهدافه، إنْ يكن له معنى ودور وأهداف. ولعلّ الانصراف إلى التبجيل منبثقٌ من رغبةٍ في تغييب سوء الإدارة والفوضى.
أمثال هؤلاء كثيرون. عاملات وعاملون في السينما غير متردّدين من زيارة دمشق وحاكمها الذي يُمعن فتكاً وقتلاً وتعذيباً بشعبه. يتباهون بوجودهم فيها معه، على مقربة من مقابر جماعية يرتفع فيها عدد الجثث التي يتفنّن نظام بشّار الأسد في التمثيل بها، من دون أنْ يأبه هؤلاء بالجرم الحاصل، فهم يعتادون جرائم كتلك، وإنْ تُمارَس بأشكالٍ أخرى، في بلدهم، وهم صامتون وخانعون ومبتسمون لدماء أناسٍ تنساب من فم القاتل، أو من ضحكته البلهاء.
المشهد مألوف. الواقع بشع. الانصياع الفني لسطوة المال والقمع مخيف. الحراك الشعبيّ، في مصر وسورية ولبنان وغيرها، مرتبك ومعطوب، فالسيف أقوى، والقتل أقوى، والتنكيل أقوى، وعاملون في ثقافة وفنون وإعلام وجامعات ومؤسّسات "فكرية" و"بحثية" يُنظّرون للقتل والتنكيل والتغييب بحججٍ بائسة.