وكانت الحكومة اكتفت بتكليف وزارة العدل بعقد ورش عمل مع عدد من الأكاديميين والقضاة، المعروفين بتبعيتهم للنظام أو بعدم التصريح بمعارضته، حتى يظهر الأمر وكأن القانون قد حظي بنقاش مجتمعي قبل صدوره، لكن الحقيقة أن وزارة العدل استبعدت من ورش المناقشة جميع الأكاديميين الذين سبق أن أبدوا اعتراضهم على إدخال تعديلات واسعة على القانون، وأعلنوا نيتهم وضع مسودات لقانون جنائي جديد حتى تتخلص التشريعات المصرية من عيوب "الترقيع التشريعي" التي تعرقل نفاذ العدالة وتعوق إدراك القضاة بشكل كامل لمقاصد المشرع واتجاهاته الجديدة.
في المقابل، وعبر تحكمها الكامل في مجلس القضاء الأعلى برئاسة المستشار مجدي أبوالعلا، ومجلس الدولة برئاسة المستشار أحمد أبوالعزم – واللذين عينهما السيسي على رأس الهيئتين القضائيتين رفيعتي المستوى بالمخالفة لقاعدة الأقدمية المتبعة منذ ولادة القضاء المصري – استطاعت الوزارة تأمين موافقة قضائية على الخطوط العريضة التي تضمنها مشروع التعديل، رغم سابقة معارضة مجلس القضاء ومجلس الدولة لبعض تلك الأفكار في مناسبات سابقة بسبب تعارضها مع نصوص الدستور وأحكام المحكمة الدستورية العليا، وأبرزها الأفكار الخاصة بإلغاء المحاكمات الغيابية وإهمال سماع الشهود وتقييد علانية المحاكمات.
وعلى رأس هذه الأفكار الجديدة إلغاء درجة تقاضي كاملة على المتهمين المحالين للمحاكمة غيابياً، بحيث يكون الحكم الغيابي (الصادر في غيبة المتهم) نهائياً وواجب النفاذ بمجرد صدوره بحضور محاميه أو بمجرد إبلاغه على عنوان مسجل لدى مصلحة الأحوال المدنية، ويكون استئناف المتهم المدان غيابياً على هذا الحكم بمثابة طعن، وليس بمثابة معارضة لإعادة الإجراءات، أي أن المتهم الغائب سيتم حرمانه من فرصته في المثول أمام قاضيه الطبيعي والدفاع عن نفسه.
ومن هذه الأفكار أيضاً السماح للقضاة بمنع حضور المحامين أمامهم لأول مرة في تاريخ مصر، وعقاب المحامين، بسبب ما يصفه المشروع "التشويش بسوء نية" والذي يهدف بصورة أساسية لتقييد دفاع المحامين – وبصفة خاصة محامي المتهمين بالتظاهر والانضمام لجماعات محظورة – باعتبارهم يستطردون في دفاعهم دائماً في أمور يتلامس فيها القانون مع السياسة. يضاف إلى ذلك وجود مادة تمنع حضور المحامين الابتدائيين أمام محكمة الاستئناف، ما سيؤدي لمشكلة عملية في نقابة المحامين التي يجب على المحامين الابتدائيين المعتمدين بها المرور بعدة مراحل إجرائية وربح عدد معين من القضايا قبل الانتقال لجدول محامي الاستئناف، وهو ما سيؤدي عملياً لقلة عدد المحامين المؤهلين للمثول أمام محكمة الاستئناف التي ستؤدي وفقاً للقانون الجديد عدة أدوار، هي: نظر الطعون على محاكم الجنح، ونظر القضايا الجنائية من أول مرة، ثم ولأول مرة نظر الطعون على القضايا الجنائية تطبيقاً لنظام التقاضي الجنائي على مرحلتين قبل أن تصل القضية لمحكمة النقض، بسبب الإسراع بوتيرة المحاكمات.
كما يتضمن المشروع، الذي وافق عليه مجلس القضاء ومجلس الدولة، زيادة الكفالة المطلوبة لرد المحكمة إلى 10 آلاف جنيه، ومنح المحكمة سلطة تقديرية لمدى وجود "نوايا سيئة لدى المحامين تدفعهم لرد القضاة"، قاصدين بذلك المحامين الذين يبادرون لرد المحكمة بهدف تعطيل الفصل في الدعاوى، وهو ما سيعود بالضرر على المحامين والمتهمين الذين لديهم أسباب قانونية سليمة لرد المحكمة أو بعض القضاة، وسيجعل القاضي المراد رده خصماً وحكماً في الوقت نفسه.
وأوضح المصدر القضائي أن المشروع يكرس تحكم الشرطة في النيابة العامة والقضاء، إذ يكتفي بإلزام ممثلي جهات التحري الأمنية بعرض ما وصفه بـ"قرائن" وهي ما دون الأدلة، لاستصدار أوامر قضائية بمراقبة الأشخاص والمساكن وتفتيشها ومراقبة الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وحسابات البريد الإلكتروني، وذلك كله بالمخالفة للدستور الذي ينصّ على ضرورة ضمان سرية المراسلات، ويحمي خصوصية الأفراد وحريتهم الشخصية في الاتصال.
وفضلاً عن ذلك، أقرّ مجلس القضاء ومجلس الدولة بالنصوص التي تخل صراحة بعلنية المحاكمات وشروط المحاكمة العادلة للأفراد أمام قاضيهم الطبيعي، والتي ستفرض سياجاً من السرية على قضايا الإرهاب تحديداً بحظر نشر وقائع محاكماتها، إلى جانب حظر حضور وسائل الإعلام لجلسات المحاكمات العادية إلّا بإذن كتابي من رئيس الدائرة. ويأتي ذلك على الرغم من أن العديد من المحاكمات أخيراً لا تكتسب صفة العلنية إلا من خلال التغطية الإعلامية نظراً لعقد المحاكمات في أماكن نائية والتعسف في السماح بدخول ذوي المتهمين.
ومن أخطر ما يكرسه المشروع، ويصفه المصدر بـ"المخالفة الدستورية الواضحة"، زيادة الحد الأدنى للحبس الاحتياطي أو التدبير الاحترازي الذي تتخذه النيابة العامة أو قاضي التحقيق من 15 يوماً إلى 3 أشهر، إذ يجوز تجديد حبس المتهم احتياطياً على ذمة التحقيق قبل إحالته للمحاكمة وقبل عرضه على محكمة غرفة المشورة للبت في استمرار حبسه حتى 3 أشهر، ما يسمح بعدم ظهور المتهمين أمام المحكمة وعدم معرفة ذويهم بمكان احتجازهم قبل انقضاء هذه المدة. علماً أن الممارسات العملية للأجهزة الأمنية لا تتقيد بهذه المدة، ولا تعتد النيابة إلا بموعد عرض المتهمين عليها.
ويجيز المشروع لمحكمة الجنايات المستأنفة التي سيتم استحداثها لنظر الطعون على الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات، أن تأمر بحبس المتهمين المدانين من محكمة أول درجة احتياطياً لمدة 45 يوماً قابلة للتجديد دون حد أقصى، إذا كانت الاتهامات الموجهة لهم يعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، وهو ما يعتبر تكريساً للوضع الجديد الذي استحدثه الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور عام 2013 ليسمح باستمرار حبس المتهمين حتى إذا قضت محكمة النقض بإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم.
وأكد المصدر أن الدائرة الخاصة بالسيسي استطاعت، من خلال وزارة العدل، التأثير على قضاة قسم التشريع بمجلس الدولة لتمرير المشروع دون المساس بخطوطه الرئيسية، والاكتفاء بتسجيل بعض الملاحظات الطفيفة والصياغية دون النفاذ إلى مخاطره على العدالة ومثالبه الدستورية.
وكانت اللجنة التشريعية في مجلس النواب حافظت على الخطوط الرئيسية للتعديل الواسع، واكتفت ببعض الإضافات التي جاءت ترسيخاً للاتجاه السلطوي للمشروع والداعم للتكامل بين السلطتين التنفيذية والقضائية على حساب المتقاضين، على رأسها تخصيص نصف مبالغ الكفالة لصندوق الرعاية الصحية والاجتماعية للقضاة بوزارة العدل، والذي يودع فيه دورياً قسم من رسوم رفع الدعاوى القضائية في جميع المحاكم، وهو نص أعلن نادي القضاة رفضه أخيراً، تحسباً لاستخدامه من قبل القضاة ضعيفي النفوس لمضاعفة الكفالات لمصلحة القضاة أنفسهم.
وحتى الآن لم يتحدد موعد تطبيق المشروع المتوقع تمريره سريعاً في الجلسة العامة للبرلمان، إلا أن قضاة نافذين ذكروا أن هناك نية لبدء تطبيقه مع بداية العام القضائي المقبل في أول أكتوبر/ تشرين الأول 2018.