بعد فرحة شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) في المغرب، يبدأ هاجس اختيار المعاهد أو الجامعات أو المدارس العليا التي يمكن للطالب المستقبلي أن يلتحق بها لاستكمال دراسته. ولعلّ التوجيه التربوي والدراسي هو الذي يؤدّي دوراً أساسياً في حسم عملية الاختيار، فإمّا أن يدعم طريق التلميذ الناجح نحو المستقبل وإمّا أن يساهم في فشله الدراسي وكذلك المهني في وقت لاحق.
ويلاقي آلاف التلاميذ الحاصلين في كل عام على شهادة البكالوريا، صعوبات جمّة في اختيار التخصصات التي تليق بمعدلاتهم وتناسب ميولهم ورغباتهم وقدراتهم التعليمية. فالرأي الشخصي يتداخل مع موقف الأسرة، بما سبق أن التقطه التلميذ الناجح من توجيهات وتوصيات المدرّس أو الموجّه التربوي المكلف من قبل وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي.
"التلفة"، بهذه الكلمة تختصر وداد التي حصلت أخيراً على شهادة البكالوريا في شعبة الفيزياء، وضعها المرتبك، وتقول لـ"العربي الجديد"، إنّها تعيش "مخاضاً يكاد يقتل الفرحة التي غمرتني عند رؤية اسمي مدرجاً على قائمة الناجحين والناجحات في البكالوريا". وتشير وداد إلى أنّ "موجّهاً تربوياً حضر إلى مدرستنا في الرباط خلال مايو/ أيار الماضي واجتمع مع كل التلاميذ في آن واحد، وراح يتحدث عن التخصصات المتاحة عموماً، وكان بمثابة مدرّس استعرض معلوماته فقط من دون النظر إلى احتياجات وانشغالات كل تلميذ على حدة". بالنسبة إليها، فإنّ "الأجدر والأنجع أن يحضر موجّهون كثر إلى كلّ مؤسسة تعليمية بعد نهاية السنة الدراسية وليس قبل ذلك، ويجتمعون مع التلاميذ الناجحين كلّ واحد على حدة، ويطّلعوا على معدلاتهم وعلى رغباتهم المستقبلية في الدراسة، ويقدّمون لهم النصائح والمقترحات وليس المعلومات العامة التي يمكن الحصول عليها عبر مواقع الإنترنت".
من جهته، يقول إلياس، وهو طالب في كلية العلوم بالرباط، إنّه ندم كثيراً لأنّه توجّه إلى دراسته الحالية، موضحاً أنّه لم يحظ بتوجيه يعرض أمامه إيجابيات وسلبيات التخصص المتاحة أو المسلك الدراسي الذي اختاره استناداً إلى معدّلاته. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّه "عندما تقدّمت بطلب إلى الكلية، ظننت أنّني بمجرّد التخرّج سوف أجد عملاً مضموناً. لكنّ كثيرين من الذين سبقوني إلى الجامعة ذاتها ما زالوا عاطلين من العمل". ويؤكد أنّه "لو كان لدينا توجيه جيد مباشرة بعد البكالوريا، لكان كثيرون تقدّموا للخضوع إلى مباريات خاصة بمعاهد تضمن لطلابها فرصاً في سوق العمل على أقل تقدير".
أمّا زبيدة ظولمي، وهي خريجة جامعية عاطلة من العمل، فتقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "سوء التوجيه المدرسي كان السبب في إهداري فرصة استكمال دراستي في التخصصات المطلوبة في وظائف القطاع الخاص. وأنا كنت قد نلت شهادة البكالوريا في الأدب واخترت أن أكمل دراستي في التاريخ، لأتخرّج من الجامعة ولا أجد فرصة عمل واحدة". تضيف أنّ "التخصصات الأدبية غير مطلوبة في سوق العمل في المغرب. لكنّه لو توفّر توجيه تربوي ومدرسي منذ المرحلة الإعدادية وفي الثانوية، لما كنت اخترت الشعبة الأدبية وما كانت لأتخصص في التاريخ". لكنّها تلفت إلى أنّ النقاط االتي يحصّلها التلميذ تؤدّي في نهاية المطاف دوراً في توجّهه واختيار تخصصه".
ووزارة التربية الوطنية من خلال وثيقتها الخاصة بالتربية والتكوين، تُعدّ التوجيه "وظيفة للمواكبة وتيسير النضج والميول وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية، وإعادة توجيههم كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ابتداء من السنة الثانية من المدرسة الإعدادية إلى التعليم العالي". وفي ما يشبه الردّ على انتقادات التلاميذ التي تستهدف طريقة التوجيه، تؤكد الوزارة الوصيّة بأنّ "تدرّج المتعلمين يستند إلى استحقاقهم فقط، بناء على تقويم مضبوط وعلى اختياراتهم التربوية والمهنية المحددة، باتفاق مع المستشارين في التوجيه والأساتذة، وبالنسبة للقاصرين منهم بموافقة آبائهم أو أوليائهم". ووفق الوزارة ذاتها، فإنّه "من مسؤوليات مستشار التوجيه الإعلام الكامل والمضبوط للمتعلمين وأوليائهم حول إمكانات الدراسة والشغل، وتقويم القدرات وصعوبات التعلم، وإسداء المشورة بشأن عمليات الدعم البيداغوجي (التربوي) الضرورية، ثمّ مساعدة من يرغبون في ذلك على بلورة اختياراتهم في التوجيه ومشاريعهم الشخصية".
في السياق، يقول الخبير التربوي الدكتور رشيد شاكري، لـ"العربي الجديد"، أنّ "التعليم المدرسي في المغرب ما زال عاجزاً عن جذب التلميذ الذي سوف يلج التعليم العالي وتعزيز وضعه، خصوصاً ما يتعلّق بالتمكّن من اللغات والتفكير العلمي". يضيف شاكري أنّ "التلاميذ الذين نالوا شهادة البكالوريا بمعظمهم لا يملكون مشروعاً شخصياً ومهنياً، ولا يعرفون ماذا يريدون وما هي أهدافهم. وفي ظل هذا الغياب، تحضر رغبات الآباء وطموحاتهم الشخصية، فيفرضون على أبنائهم مسارات تعليمية قد لا تتوافق مع طموحات هؤلاء وقدراتهم".
ويتابع شاكري أنّ عملية التوجيه في المغرب "غير مبنية على رؤية شمولية، والدليل على ذلك أنّها لا تصاحب التلميذ منذ التعليم الابتدائي وصولاً إلى الثانوي التأهيلي ومواكبته لبناء مشروعه الشخصي". ويشرح أنّ "ما تقوم به كوادر التوجيه لا يمكن اعتباره توجيهاً بقدر ما هو عملية توزيع التلاميذ على الشُعَب والمسالك، والسبب الأساس في ذلك هو العجز الكبير في عدد تلك الكوادر. كمعدّل وسط، ثمّة أكثر من أربعة آلاف تلميذ لكلّ موجّه واحد، وهو ما يصعب عملية المواكبة الفردية لكل تلميذ". ويشير شاكري إلى أنّ "قدرة الاستيعاب المحدودة في المؤسسات التعليمية، تجعلها غير قادرة على الاستجابة لعدد الطلبات، فتلجأ إلى رفع عتبة الولوج وتعدّ مباريات لانتقاء العدد المطلوب. وهو الأمر الذي يجعل أحلام وطموحات تلاميذ كثر حصلوا على معدّلات مرتفعة تتهاوى أمام تلك العقبات والإقصاءات".