أذكره بقامته الفارعة، وشَعره الكثيف، بعد أن غزا سوادَه البياضُ، وهو يَتهادى على مدارج "المكتبة الوطنية فرنسوا ميتران" في باريس. وأراه بعدها، يتمطّى بين رفوفها العالية، يجوس خلال الموسوعات والمراجع العتيقة يتصفّحها بشغفٍ، أو على مَكتبه يُحبّر صفحات أحد كتبه الغزيرة، على ضوء فوانيس المكتبة الفاترة.
أذكر تودوروف، هذا الناقد الفرنسي، البلغاري الأصل، ذاك الذي ظلَّ اسمُه يَرنُّ، طيلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، في أروقة المعاهد والجامعات التونسية، مُجدّداً مناهج دَرس الأدب، ومروّجاً للشكلانية والبنيوية والسردية في فهم النصوص الكونية.
وقد شاع في كتاباته، التي سرعان ما تُرجمت إلى العربية، أنه ممّن لا يقول بالمعنى مضموناً مباشراً تعكسه مقاطع الأدب، بل هو قيمةٌ شكلية تتناتج من تزاوج الأبنية وتلاحمها، ومن فرادة العلاقات المنعقدة بين عناصره، ذوباً في كلٍّ كلاميٍّ.
وأُثِرَ عنه أنه يولي الدلالة مكاناً ثانوياً، إذ الجمالية - في كتاباته جلّها - كامنة في تحاور الأبنية السردية والشعرية وفي مدى التناسب البنيوي بين السرد والحكاية، بين وسائل القصِّ وأنماط حضور الراوي أو غيابه، وتداول الرواة على فعل الحكي، عبثاً بالقارئ، وإرباكاً له، حتى لا يكون الأدب تتابعاً خطيّاً هزيلاً، وكذلك في الروابط المنعقدة بين الشخصيات وتفاعلها في الفضاء الزماني والمكاني، محكومةً جميعُها بتطوّر الحبكة وسريان منطقها الداخلي، أكان تاريخياً خطيّاً، أو عجائبياً متموّجاً.
قضى تودوروف الخمسين سنة الأخيرة في باريس، أو أستاذاً زائراً في أكبر جامعات أميركا. تجاوز إنتاجه الأربعين كتاباً، كانت محكومة عموماً بمحورين: النظرية الأدبية التي تنهض على مقومات الشعرّية في مجال السرد خاصة، والنظرية الثقافية ومقوّمات الهوية والمغايرة في عالم تتصارع فيه الهويات وتصطدم الحضارات.
خصص تودورف كتبه الأولى للبحث عن جمالية البناء السردي، لا من حيث أنه رسالةٌ ومضمون، بل من حيث هو تشغيل لمستويَيْن في الكلام: القصة والخطاب، أو الحبكة والتعبير عنها بواسطة نحو سرديٍّ، تتوالى فيه المقاطع الحكائية، حسب علاقات شكلية وتداخلات صورية تعبر عنها صيغُ الخطاب وسجلات القول واختيارات المعجم. ولذلك عرض أولاً الى الشكلانيين الروس وتَرجم نُصوصهم إلى الفرنسية، وأبان في كتابه عن نظرية المعنى في الأدب، أنَّ الدلالة، في هذا الجنس من الكلام، تتركز أساسًا في البُنى السردية، وهي التي تصنع المعنى من خلال ما توفره من تعالقات وتداخلات.
وقد كان للترجمات المبكّرة نسبياً لأعماله النقدية إلى العربية فضلٌ كبير في تطوير مناهج النقد الأدبي عند العرب، وإتاحة أدوات مفهومية فعالة، يقرأ من خلالها نقَدةُ الكلام عندنا سيلَ الروايات العربية، الحديثة والمعاصرة، فكأنما أمدَّ البلاغة التقليدية بالوسائل التي تعوُزها، بعد أن أشرفت على الهلاك، ووفَّر لها الآليات في تناول الخطاب الروائي وهي فيها منعدمة تماماً، وبذلك نقل صاحب كتاب "الأدب في خطر"، ومريدوه من العرب، الجمالية من التأويل المُسقط إلى التحليل النصي، بعد أن "مات المؤلف"، كما كان يردّده صديقه وأستاذه رولان بارت، فعَوَّضه الراوي اللعوب، وخبا المعنى فقام على أنقاضه الشكل بعلاقاته، وانطفأت الخَطابة، فنابت عنها السردية الخارقة التي تستبطن أغوار النفسيات، وتعكس تحوّلات الثقافة وتموّجات المجتمع.
اغترف النقّاد عندنا من تراث المفكّر الفرنسي البلغاري الراحل، ولا سيما شاعرية السرد، فحلّلوا على ضوئه عشرات الروايات، وهمّشوا مضامين أدب الالتزام والواقعية والمباشَرة، وجعلوا منه مجرّد لعبة وميثاق بين المبدع والقارئ، بَعضها عجائبيٌّ، وبعضها علائقيٌّ، وقيمة الأثر إنما تعلو بحسب براعة الحوار المعقود بين الأبنية الشكلية وتتابع العالم المتخيّل، وبحسب انعقاد جمالية التحاور بين النصوص المتقادمة والمجاورة، والأدب عنده حواريٌّ أو لا يكون.
مثلت "تركة" تودوروف نقلة نوعية في تذوّق الكلام وتحليل مبانيه، وتراثُه ثورة فعلية في مناهج دَرس الجودة في الكلام السردي، وأكثر من أفادَ منه العرب، وسنظل له شاكرين.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس